لم يجد المأمون أنّه قد بلغ شيئاً من أهدافه، بل راح يواجه نظرات المجتمع ترمقه باستهجان، وأخذ الوضع العبّاسيّ يتخلخل ويتزعزع، ثمّ وجد أنّه استدعى عدوّاً إلى جنبه يفضحه وجودُه معه في كلّ زمان ومكان.. فتحيّر واضطرب، وهاجت هواجسه وسيطرت عليه فكرة العنف والتصفية، فبدأ بمَن حوله لينتهي إلى أن يحسم الأمر بالقتل المباشر بيده اللئيمة، فقدّم العنب المسموم إلى الإمام الرضا (عليه السلام) بعد أن كانت مقدّمته العرض المسموم للخلافة وولاية العهد.
كيفية سمه وشهادته (عليه السلام):
قال الإمام الرضا (عليه السلام): (يا أبا الصلت، غداً أدخل إلى هذا الفاجر، فإن أنا خرجت وأنا مكشوف الرأس فتكلّم أُكلّمك، وإن خرجت وأنا مغطّى الرأس فلا تكلّمني).
قال أبو الصلت: فلمّا أصبحنا من الغد لبس ثيابه، وجلس في محرابه ينتظر، فبينا هو كذلك إذ دخل عليه غلام المأمون، فقال له: أجب أمير المؤمنين، فلبس نعله ورداءه وقام يمشي وأنا أتبعه، حتّى دخل على المأمون وبين يديه طبق عليه عنب، وأطباق فاكهة بين يديه، وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه وبقي بعضه، فلمّا أبصر بالرضا (عليه السلام) وثب إليه وعانقه، وقبّل ما بين عينيه وأجلسه معه، ثمّ ناوله العنقود وقال: يا بن رسول الله، هل رأيت عنباً أحسن من هذا؟.
فقال له الرضا(عليه السلام): (ربما كان عنباً حسناً يكون من الجنّة)، فقال له: كل منه، فقال له الرضا(عليه السلام): (أو تعفيني منه)؟ فقال: لا بدّ من ذلك، ما يمنعك منه؟ لعلّك تتّهمنا بشيء؟ فتناول العنقود فأكل منه، ثمّ ناوله فأكل منه الرضا(عليه السلام) ثلاث حبّات، ثمّ رمى به وقام، فقال له المأمون: إلى أين؟ قال(عليه السلام): (إلى حيث وجّهتني).
وخرج (عليه السلام) مغطّى الرأس، فلم أكلّمه حتّى دخل الدار، فأمر أن يُغلق الباب فأُغلق، ثمّ نام على فراشه، فمكثت واقفاً في صحن الدار مهموماً محزوناً، فبينا أنا كذلك إذ دخل عليَّ شاب حسن الوجه قطط الشعر، أشبه الناس بالرضا (عليه السلام)،
فبادرت إليه فقلت له: من أين دخلت والباب مغلق؟
فقال لي: (الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت، هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق)، فقلت له: ومن أنت؟ فقال لي: (أنا حجّة الله عليك يا أبا الصلت، أنا محمّد بن علي).
ثمّ مضى نحو أبيه (عليه السلام)، فدخل وأمرني بالدخول معه، فلمّا نظر إليه الرضا (عليه السلام) وثب إليه وعانقه وضمّه إلى صدره وقبّل ما بين عينيه، ثمّ سحبه سحباً إلى فراشه، وأكبّ عليه محمّد بن علي (عليهما السلام) يقبّله ويساره بشيء لم أفهمه، ورأيت على شفتي الرضا (عليه السلام) زبداً أشدّ بياضاً من الثلج، ورأيت أبا جعفر يلحسه بلسانه، ثمّ أدخل يده بين ثوبه وصدره، فاستخرج منه شيئاً شبيها بالعصفور، فابتلعه أبو جعفر (عليه السلام)، ومضى الرضا(عليه السلام)[1].