دواعي ولاية العهد:
بعد أن قتل المأمون أخاه الأمين.. نظر إلى البلاد فإذا هي غير مستقرّة، ووجد معظم المسلمين لا يدينون بالطاعة له، بل رأى ثورات العلويّين تشتعل هنا وهناك بين الحين والآخر، ففي الكوفة خرج أبو السَّرايا، وفي البصرة خرج زَيدُ النار وعليُّ بن محمّد، وفي مكّة خرج محمّد الدِّيباج، وفي اليمن إبراهيم بن موسى الكاظم (عليه السلام)، وخرج محمّد بن سليمان في المدينة، وفي واسط والمدائن وغيرهما خرج في وجه السلطة العبّاسيّة من يطالب بإسقاطها.
هذا، إضافة إلى ما حدث في الأسرة العبّاسيّة من انشقاقات وتنازعات، فامتنع بعضهم عن مبايعة المأمون، لا سيّما بعد أن علموا منه ما يريد بولاية العهد، فعمدوا إلى المغنّي العبّاسي إبراهيم بن المهديّ المعروف بـ « ابن شَكْلَة » فأمّروه عليهم؛ نكايةً بالمأمون.
كان أمام المأمون مهامّ كثيرة وثقيلة، واعترضته أمواج عنيفة تهدّد حكمه من كلّ الجهات، وأراد في البدء تخفيف الضغط العلويّ عليه، فخطرت في ذهنه فكرة عَرْض الخلافة ثمّ ولاية العهد على الإمام عليّ بن موسى الرضا سلامُ الله عليه قاصداً إلى إنقاذ نفسه من الطوق الخانق لسلطته، لعلّه:
1. يُخمِد ثورات العلويّين أو يحصل منهم على اعتراف بشرعيّة حكمه.
2. يستأصل احترام الناس لهم بأساليبه الخاصّة.
3. يكتسب ثقة العرب، مع الاحتفاظ بتأييد الخراسانيين وعامّة أهل بلاد فارس له.
4. ولعلّه يستطيع ـ واهماً ـ أن يأمنَ الخطر الذي يشعر به من تواجد الإمام الرضا (عليه السلام) بين الناس وهو يُؤثّر فيهم أبلغ تأثير.. وأن يمّهد ـ بعد فرض الإقامة الجبريّة والرقابة المشدّدة عليه ـ للتخلّص منه بأُسلوب ماكر.
من هنا أخذ المأمون يفكّر في خطّة غريبة من نوعها، تكون بنظره في غاية الإحكام والإتقان، وقد أفرط في دعواه الوفاق المذهبيّ، ثمّ راح يعلن براءة ذمّته من أعداء أهل البيت (عليهم السلام)، ثمّ همّ بهذه الخطوة العجيبة، وهي: أخْذُ البيعة للإمام عليّ الرضا (عليه السلام) بولاية العهد بعده، وجعلُه أمير بني هاشم جميعاً عبّاسيِّهم وطالبيِّهم، ولبس الثياب الخُضر.
هكذا.. بعد أن رأى أنّه لن تنقاد له الرعيّة ولا القوّاد، ولن تستقيم الأمور إلاّ إذا أقدم على تلك اللعبة الجريئة، أجل جريئة ولكنّها تضمر خبثاً يُستعمل عند اليأس، لضمان النتائج.
يقول المأمون للريّان بن الصَّلت: (ويحك يا ريّان أيَجسُر أحدٌ أن يجيء إلى خليفة وابن خليفة قد استقامت له الرعيّة والقوّاد، واسَتَوت له الخلافة، فيقول له: إدفع الخلافة من يدك إلى غيرك؟ أيجوز هذا في العقل..)[1].
إذن، وراء عَرضه الخلافة ثمّ ولاية العهد خطّة لا تضرّ المأمون كثيراً إذا كان مصمّماً على التخلّص من وليّ العهد بأساليبه الخاصّة.
المواجهة:
رأينا كيف أراد المأمون من لعبته تلك التغلبَ على المشاكل التي كان يواجهها، والاستفادة منها في تقوية دعائم سلطته، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو موقف الإمام أبي الحسن الرضا (عليه السلام) من لعبة المأمون تلك؟
فقد قال له المأمون: يا ابن رسول الله، قد عرفتُ فضلك وعلمك، وزهدك وورعك وعبادتك، وأراك أحقَّ بالخلافة منّي.
أجابه الإمام (عليه السلام) قائلاً: (بالزهد بالدنيا أرجو النجاة من شرّ الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله).
قال المأمون: فإنّي قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك، وأُبايعك.
فقال الإمام (عليه السلام) له: (إن كانت هذه الخلافة لك فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسَكَه الله وتجعلَه لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز أن تجعل لي ما ليس لك).
قال المأمون: لابدّ لك من قبول هذا الأمر.
فقال (عليه السلام): (لستُ أفعل ذلك طائعاً أبدا).
فما زال المأمون يحاول أيّاماً حتّى يئس من قبوله)[2].
وتنوّعت المحاولات وتعدّدت.. إلاّ أنّها باءت جميعها بالخيبة، وكان المأمون قبل ذلك يكاتب الإمام الرضا (عليه السلام) وهو بالمدينة ويُلحّ عليه بالقدوم إلى « مَرْو » والإمامُ يمتنع حتّى علم أنّه لا يكفّ عنه ولا يتركه، فلمّا استدعاه وجاء إلى مرو أخذ يتهدّد الإمامَ بالقتل، تارةً تلويحاً وتارةً تصريحاً، والإمام يأبى قبول ما يعرضه عليه، إلى أن علم أنّ المأمون لا يكفّ عنه، وأنّه لا محيص له عن القبول وإلاّ فالأمر بلغ إلى القتل، فقبل (عليه السلام) ولاية العهد مُكرَهاً ـ وهو حزين ـ وذلك في السابع عشر من شهر رمضان سنة 201 هجريّة.
يقول أبو الفرج الإصفهانيّ: أرسل المأمونُ الفضلَ والحسنَ ابنَي سهل إلى عليّ بن موسى فعرضا ذلك (يعني ولاية العهد) عليه فأبى، فلم يزالا به وهو يأبى ذلك ويمتنع منه إلى أن قال له أحدهما: إن فعلتَ ذلك، وإلاّ فَعَلنا بك وصَنَعْنا، وتهدّده، ثمّ قال له أحدهما: واللهِ أمرني (المأمون) بضرب عنقك إذا خالفتَ ما يريد! ثمّ دعا به المأمون وتهدّده فامتنع، فقال له قولاً شبيهاً بالتهديد ...)[3].
وقال له المأمون بعدما رآه يأبى: يا ابن رسول الله، إنما تُريد بذلك ( يعني بما أخبره (عليه السلام) عن آبائه من شهادته قَبلَه مسموماً، فلا معنى لولاية عهد تُوكل إلى من يُتوفّى قبل الحاكم) التخفيفَ عن نفسك ودفع هذا الأمر عنك، ليقول الناس: إنّك زاهد في الدنيا!
فقال الإمام الرضا (عليه السلام): واللهِ ما كذِبتُ منذ خَلَقني ربّي عزّ وجلّ، وما زَهِدتُ في الدنيا للدنيا، وإنّي لأعلم ما تريد.
فقال المأمون: وما أريد؟!
قال: الأمان على الصدق؟ قال: لك الأمان.
قال(عليه السلام): تريد بذلك أن يقول الناس: إنّ عليّ بن موسى لم يزهد في الدنيا، بل زَهِدَت الدنيا فيه، ألا تَرَون كيف قَبِل ولاية العهد طمعاً في الخلافة؟!
فغضب المأمون وقال له: إنّك تتلقّاني أبداً بما أكره.. فبالله أُقسم: لئن قبلتَ ولاية العهد، وإلاّ أجبرتك على ذلك، فإن فعلتَ وإلاّ ضربتُ عنقَك.
قال الإمام الرضا(عليه السلام): (قد نهاني الله تعالى أن ألقي بيدي إلى التهلكة فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك وأنا أقبل على أني لا أولّي أحدا ولا أعزل أحدا ولا أنقض رسما ولا سنة وأكون في الأمر من بعيد مشيرا)، فرضي منه بذلك وجعله ولي عهده على كراهة منه (عليه السلام) بذلك[4].
وضع النقاط على الحروف:
ومن هنا يكون الإمام عليّ الرضا صلوات الله عليه قد ثبّت أموراً عديدة:
1. فضح المأمون في جميع ادّعاءاته، وكشف سرائره ونواياه الخبيثة.. فلو كان حقّاً يُريد أن يتنازل عن الحكم ويرى أنّ الإمام أحقّ بالخلافة لَما عامله بذلك الأُسلوب العنيف، ولَما مارس الطريقة الملتوية في خلع لباس السلطة، وكيف أتاح لنفسه أن يجلس تلك المدّة في مجلس لا يحقّ له ؟! ألم يكن يسمع من قَبلُ بالإمامة يتوارثُها أوصياء رسول الله (صلى الله عليه وآله) أباً عن جدّ بنصّ ـ بل بنصوص ـ من الله ونبيّه ؟!
2. أوصل الإمام الرضا (عليه السلام) السلطةَ إلى حالة إعلان القتل، ليكون التكليف واضحاً.. وأنّ الإمام سلام الله عليه لم يأتِ إلى مَرْو طوعاً ولا رغبةً في حكم، كما لم يتقبّل: لا الخلافة الظاهرية ولا ولاية عهد المأمون طائعاً أو راغباً أبداً.
3. وبعد أن تكون ولاية العهد قد كُتبت في وثيقة، أخذ الإمام الرضا (عليه السلام)
يُفرغها من محتواها عمليّاً من جهة، ويُعلن للآخَرين أنّه مُجبَر عليها، وأنّه لم يندمج مع السلطة العبّاسيّة في أيّ شأن من شؤونها من جهة أُخرى، فعن الريان بن الصلت قال: دخلت على علي بن موسى الرضا (عليه السلام) فقلت له: يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إن الناس يقولون: إنك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا، فقال (عليه السلام): قد علم الله كراهتي لذلك، فلما خُيِّرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل، ويحهم أما علموا أن يوسف (عليه السلام) كان نبيا رسولا فلما دفعته الضرورة إلى تولي خزائن العزيز قال له: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)[5]، ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الاشراف على الهلاك، على أني ما دخلت في هذا الامر إلا دخول خارج منه، فإلى الله المشتكى وهو المستعان)[6].
4. أثبت الإمام الرضا (عليه السلام) بشكل مباشرٍ وغير مباشر أنّ النظام القائم لا يمتلك شرعيّة دينيّة، وقد اتّضح للناس ذلك من خلال رفضه للخلافة التي عرضها المأمون عليه، لأنّ الجهاز الحاكم جهاز منحرف فاسد، وهذا الرفض يوجّه إصبع الاتّهام إلى السلطة، ثمّ لم يصدر من الإمام سلامُ الله عليه ما يشير ـ ولو من بعيد ـ إلى شرعيّة السلطة أبداً، بل الذي صدر هو العكس، حينما أصرّ الإمام على أن لا يتدخل في شؤون الحكم من تعيين أو عزل أو تثبيت، وبذلك فهِم الجميعُ أنه (عليه السلام) لا يرى النظام الحاكم إلاّ جهازاً فاسداً غير شرعيّ.
وهنا أصبح المأمون في حيرة من أمره، إذ لم يبقَ له مجال فسيح لتنفيذ جميع مخطّطاته، ولم يتمكّن من إجبار الإمام على تنفيذ إرادات الحكم العبّاسيّ، ولم يستطع طِلاء سلطته بطلاء شرعيّ.
[1] عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق: ج2،ص163.
[2] مناقب آل ابي طالب لابن شهر آشوب: ج3،ص472.
[3] مقاتل الطالبيّين لابي الفرج الأصفهاني: ص562 و 563، والإرشاد، للشيخ المفيد: ص310.
[4] عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق: ج2، ص152.
[5] سورة يوسف: آية 55.
[6] وسائل الشيعة للحر العاملي: ج17، ص203.