النهج الإلهي الصافي الذي حمله الأنبياء والأوصياء صلوات الله عليهم.. ضمانة للإنسان في مصادر معرفته، وفي أسلوب حياته، وفي همومه وتطلّعاته نحو المستقبل، وهو الذي بشّر به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتولّى حمايتَه وتركيز وجوده أوصياؤه الأئمّة من أهل بيته الأبرار(عليهم السلام) .. فكان الخُلاصة الإلهية والصفوة الربانية الأخيرة التي تكشف للإنسانية معالم الطريق، وتضيء جَنَبات السبيل، وتُنقذ من الالتفات ذات اليمين وذات الشمال.. ليبقى الصراط ـ أمام الناس ـ
مستقيماً لاحباً مأموناً متفرّداً عن السبل الأخرى الضالّة المُضلّة التي تسوق سالكيها نحو صحراء الظلام.
والتراث العظيم الذي تركه أهل البيت (عليهم السلام) ينابيع غنية تدلّنا على أساليب العمل المنتِج، وعلى مناهج الحوار العقائدي والمعرفي، وعلى سبل التعامل مع الآخرين، وهو تراث قيمّ نفيس، يحمل من القداسة والبصيرة والعمق والصدق و«البساطة» في الوقت نفسه.. ما يذكّرنا بمناهج الأنبياء، ويعرّفنا على أساليب الصدّيقين الحاملين لهموم الرسالة، المُشفقين على الناس من عوامل الزيغ ودواعي الالتباس.
وتشهد الكتب المؤلَّفة في الاحتجاج (المحاورة) والأحاديث الجمّة التي جاءت في هذا السياق.. على مدى الجهد الضخم الذي بذله أئمّة الهدى(عليهم السلام)في سبيل التعليم والتذكير والإنقاذ، وفي سبيل الكشف عن زيف الاتجاهات الأخرى الضالّة والتحذير من مزالقها القاتلة.
وكان العصر الذي عاش فيه الإمام الهُمام شمس الهداية الساطعة أبو الحسن عليّ بن موسى الرضا(عليهما السلام).. عصراً يضجّ بحركة تلك التيّارات والمدارس والاتجاهات التي تَلبِس الحقَّ بالباطل والتي أحدثت في حياة المسلمين فوضى في العمل وفوضى في الأفكار.. فكان أن انبرى صلوات الله عليه ليوضّح منهجَ جدّه الرسول، وليرفع الصوتَ القرآني الذي كادت تطمسه مُنازعات الأهواء، وليدلّ الناس ـ وهو الأهم ـ على المنبع الصافي النقي الذي ينبغي أن يستمدّوا منه، فكان لا يفتأ يحدّث بالإمامة الإلهية التي تعصم الناس من الفُرقة والاختلاف وتجعلهم أسوياء على صراط مستقيم.
وقد حفظَت المصادر التاريخية والحديثية مشاهد كثيرة من محاورات الإمام الرضا (عليه السلام) ومناظراته وإجاباته ومواقفه إزاء التيارات الفكرية والعقائدية والفقهية المتضاربة.. فكان دائماً ينطق بكلمة الفصل ويجهر بقول الحق.
وفي هذا الأفق نتعرّف على جانب من تلكم المحاورات القيّمة: نتعلّم منها منهج الحوار، كما نعرف مضامينها الإسلاميّة الأصيلة، لنتعرّف ـ من خلالها ـ على جانب من التيّارات التي كانت سائدة في عصر الإمام (عليه السلام).
حوار في آفاق عقائدية:
عن عبد السّلام بن صالح الهرويّ قال: قلت لعليّ بن موسى الرّضا (عليهما السلام): يا ابن رسول الله ما تقول في الحديث الّذي يرويه أهل الحديث: إنّ المؤمنين يزورون ربّهم من منازلهم في الجنّة؟
فقال (عليه السلام): (يا أبا الصلت إنّ الله تبارك وتعالى فضّل نبيّه محمّداً (صلى الله عليه وآله) على جميع خلقه من النّبيّين والملائكة، وجعل طاعته طاعته، ومبايعته مبايعته، وزيارته في الدّنيا والآخرة زيارته، فقال عزّ وجلّ: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاعَ اللهَ)[1]، وقال عزّ وجلّ: (إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ)[2]، وقال النّبيّ(صلى الله عليه وآله): «من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله»، ودرجة النّبيّ (صلى الله عليه وآله) في الجنّة أرفع الدّرجات، فمن زاره في درجته في الجنّة من منزله فقد زار الله تبارك وتعالى)، قال: قلت: يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فما معنى الخبر الّذي رووه: انّ ثواب لا إله إلاّ الله، النّظر إلى وجه الله؟ فقال(عليه السلام):
(يا أبا الصّلت فمن وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر، ولكنّ وجه الله انبياؤه ورسله وحججه صلوات الله عليهم أجمعين، هم الّذين بهم يُتوجّه إلى الله عزّ وجلّ وإلى دينه ومعرفته، وقد قال الله عزّ وجلّ: (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ * وَيَبْقى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإْكْرامِ)[3]، وقال الله عزّ وجلّ:
(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلاّ وَجْهَهُ)[4]، فالنّظر إلى أنبياء الله ورسله وحججه (عليهم السلام) في درجاتهم ثواب عظيمٌ للمؤمنين يوم القيامة، وقد قال النّبيّ (صلى الله عليه وآله): «مَن أبغض أهل بيتي وعترتي لم يرني و لم أره يوم القيامة، و قال (صلى الله عليه وآله): «إنّ فيكم من لا يراني بعد أن يفارقني»، يا ابا الصّلت إنّ الله تبارك و تعالى لا يوصف بمكان، ولا يُدَرك بالأبصار والأوهام).
قال: قلت له: يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبرني عن الجنّة والنّار، أهما اليوم مخلوقتان؟
فقال (عليه السلام): ( نعم، وإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد دخل الجنّة، ورأى النّار لمّا عُرج به إلى السّماء).
قال: فقلت له: إنّ قوماً يقولون: إنّهما اليوم مقدّرتان غير مخلوقتين.
فقال (عليه السلام): (ما أُولئك منّا ولا نحن منهم، من أنكر خلق الجنّة والنّار فقد كذّب النّبيّ (صلى الله عليه وآله) وكذّبنا، وليس من ولايتنا على شيءٍ، ويخلد في نار جهنّم، قال الله عزّ وجلّ: (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّب بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ)[5][6].
دفاعه (عليه السلام) عن التوحيد:
عن القاسم بن أيوب العلوي أن المأمون لمّا أراد أن يستعمل الرّضا(عليه السلام) على هذا الأمر جمع بني هاشم فقال: إنّي أريد أن استعمل الرّضا (عليه السلام) على هذا الامر من بعدي، فحسده بنو هاشم وقالوا: أتولّي رجلاً جاهلاً ليس له بصيرة بتدبير الخلافة؟ فابعث إليه يأتنا فترى من جهله ما تستدلّ به فبعث إليه فأتاه فقال له بنو هاشم: يا أبا الحسن إصعد المنبر وانصب لنا علَماً نعبد الله عليه، فصعد (عليه السلام) المنبر فقعد مليّاً لا يتكلّم مطرقاً، ثمّ انْتفض انتفاضةً فاستوى قائماً وحمِد الله تعالى وأثنى عليه، وصلّى على نبيّه وأهل بيته ثمّ قال:
أوّل عبادة الله معرفته، وأصل معرفة الله توحيده، ونظام توحيده نفيُ الصفات عنه، لشهادة العقول أنّ كلّ صفة وموصوف مخلوق، وشهادة كلّ مخلوق أنّ له خالقاً ليس بصفة ولا موصوف، وشهادة كلّ صفة وموصوف بالاقتران، وشهادة الاقتران بالحدث، وشهادة الحدث بالامتناع من الأزل الممتنع من الحدث، فليس اللهَ عرف من عرف بالتشبيه ذاته، ولا إيّاه وحّد من اكتنهه، ولا حقيقته أصاب مَن مثّله، ولا به صدّق من نهّاه، ولا صمد صمده من أشار إليه، ولا إيّاه عنى من شبّهه، ولا له تذلّل من بعّضه، ولا إيّاه أراد من توهّمه، كلّ معروف بنفسه مصنوع، وكلّ قائم في سواه معلول، بصنع الله يُستدلّ عليه، وبالعقول يُعتقد معرفته، وبالفطرة تثبت حجّته، خلق الله الخلق حجاب بينه وبينهم، ومفارقته إيّاهم مباينة بينه وبينهم، وابتداؤه إيّاهم دليل على أن لا ابتداء له، لعجز كلّ مبتدئٍ عن ابتداء غيره، وأدوه إيّاهم دليل على أن لا أداة فيه، لشهادة الأدوات بفاقة المؤدّين.
فأسماؤه تعبير، وأفعاله تفهيم، وذاته حقيقة، وكنهه تفريق بينه وبين خلقه، وغيوره تحديد لما سواه، فقد جهل اللهَ من استوصفه، وقد تعدّاه من استمثله، وقد أخطأه من اكتنهه، ومن قال: «كيف» فقد شبّهه، ومن قال: «لِم»َ فقد علّله، ومن قال: «متى» فقد وقّته، ومن قال: «فيمَ» فقد ضمّنه، ومن قال: «إلى مَ» فقد نهّاه، ومن قال: «حتّى مَ» فقد غيّاه، ومن غيّاه فقد غاياه، ومن غاياه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد وصفه، ومن وصفه فقد ألحد فيه، ولا يتغيّر الله بتغيّر المخلوقين، كما لا يتحدّد بتحديد المحدود.
أحدٌ لا بتأويل عددٍ، ظاهرٌ لا بتأويل المباشرة، متجلٍّ لا باستهلال رؤية، باطنٌ لا بمزايلةٍ، مباينٌ لا بمسافةٍ، قريبٌ لا بمداناةٍ، لطيفٌ لا بتجسّم، موجود لا بَعدَ عدم، فاعلٌ لا باضطرارٍ، مقدِّر لا بحَول فكرة، مدبِّر لا بحركةٍ، مريدٌ لا بهمامة، شاءٍ لا بهمّة، مدركٌ لا بحاسّةٍ، سميعٌ لا بآلةٍ، بصيرٌ لا بأداةٍ، لا تصحبه الأوقات، ولا تضمنه الأماكن، ولا تأخذه السِّنات، ولا تحدّه الصفات، ولا تقيّده الأدوات.
سبق الأوقات كونُه، والعدمَ وجودُه، والابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عُرف أن لا مشعر له، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، وبمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له، وبمقارنته بين الاُمور عرف أن لا قرين له.
ضادَّ النور بالظلمة، والجلاية بالبهمة، والجسو بالبلل، والصرد بالحرور، مؤلّف بين متعادياتها، مفرِّق بين متدانياتها، دالّة بتفريقها على مفرّقها، وبتأليفها على مؤلّفها، ذلك قوله عزّ وجلّ: (ومِنْ كلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون)[7]
ففرّق بين كلّ قبل وبعد، ليُعلم أن لا قبل له ولا بعد.
شاهدة بغرائزها: أن لا غريزة لمغرزها، دالّة بتفاوتها: أن لا تفاوت لمفاوتها، مخبرة بتوقيتها: أن لا وقت لموقّتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبينها غيرها، له معنى الرّبوبيّة إذ لا مربوبَ، وحقيقة حدّ الإلهية إذ لا مألوهَ، ومعنى العالم ولا معلوم، ومعنى الخالق ولا مخلوق، وتأويل السّمع ولا مسموع.
ليس منذ خَلَق استحقّ معنى الخالق ولا بإحداثه البرايا استفاد معنى البارئيّة، كيف ولا تغيّبه: «مذ» ولا تدنيه: «قد» ولا تحجبه: «لعلّ» ولا توقّته: «متى» ولا تشمله: «حين» ولا تقارنه: «مع»، إنّما تحدّ الأدواتُ أنفسَها، وتشير الآلة إلى نظائرها، وفي الأشياء يوجد فعالها، منعتها «منذُ» القدمةَ، وحمتْها «قدُ» الأزليّةَ، وجنّبتْها «لولا» التّكملةَ .
افترقت فدلّت على مُفرّقها، وتباينت فأعربت عن مُباينها، بها تجلّى صانعها للعقول وبها احتجب عن الرّؤية، وإليها تحاكم الاُوهام، وفيها أثبت غيره، ومنها أنيط الدليل، وبها عرف الإقرار، وبالعقول يعتقد التصديق بالله، وبالإقرار يكمل الإيمان به.
لا ديانة إِلاَّ بعد معرفته، ولا معرفة إِلاَّ بالإِخلاص، ولا إِخلاص مع التشبيه، ولا نفي مع إثبات الصفات للتشبيه، وكلّ ما في الخلق لا يوجد في خالقه، وكلّ ما يمكن فيه يمتنع في صانعه.
ولا تجري عليه الحركة والسكون، وكيف يجري عليه ما هو أجراه، أو يعود فيه ما هو ابتداه؟! إذاً لَتفاوتتْ ذاته، ولتجزّى كنهه، ولامتنع من الأزل معناه، ولما كان للباري معنى غير المبروء، ولو وُجد له وراء وجد له أمام، ولا التمس له التمام إذ لزمه النقصان، كيف يستحقّ الأزل من لا يمتنع من الحدث؟! أم كيف ينشئ الأشياء من لا يمتنع من الإنشاء؟! إذاً لقامت عليه آية المصنوع، ولتحوّل دليلاً بعد ما كان مدلولاً عليه، ليس في محالّ القول حجّة، ولا في المسألة عنه جواب، ولا في معناه لله تعظيم، ولا في إبانته عن الحقّ ضيم إلاّ بامتناع الأزلي أن يثنى، ولما لابدأ له أن يبدئ لا إله الاّ الله العليّ العظيم، كذب العادلون بالله وضلّوا ضلالاً بعيداً، وخسروا خسراناً مبيناً، وصلّى الله على محمّد وآله الطّاهرين )[8].