حديث السلسلة الذهبية:
إنّ مدينة نيسابور كانت تحظى بنزعة حضاريّة، وتطلّع علميّ، وتتبّع للمعارف ولآثار الرسالة الإسلاميّة، حتّى إنّ سبط ابن الجوزيّ ـ حينما ذكَر دخول الإمام الرضا (عليه السلام) إلى هذه المدينة ـ قال:
فلمّا وصل إلى نيسابور خرج إليه علماؤها، مثل: يحيى بن يحيى، وإسحاق بن راهويه، ومحمّد بن رافع، وأحمد بن حرب، وغيرهم لطلب الحديث والرواية، والتبرّك به فأقام بنيسابور مدّةً، والمأمونُ بمرو، ثمّ استدعاه وولاّه العهد)[1].
وهكذا تكون هذه المدينة في ذلك الظرف التاريخيّ قد عاشت أجواء علميّة، فتشرّفتْ بمقْدم الإمام عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام) عليها وحظيت ببركاته.
قال الحاكم أبو عبدالله النيسابوريّ: لمّا دخل الرضا (عليه السلام) نيسابور، ونزل محلّة «فور» في دار تُعرف بدار «پسنديده» أي المرتضى -وإنّما سُمّيت پسنديده لأنّ الرضا ارتضاه من بين الناس -، فلمّا نزلها زرع في جانب من جوانب الدار لوزة، فنبتت وصارت شجرة فأثمرت في كلّ سنة، وكان أصحاب العلل يستشفون بلوز هذه الشجرة، وعُوفي صاحب قولنج وأعمى وغير ذلك)[2].
وقد روى الصدوق في أماليه.. عن إسحاق بن إبراهيم بن مخلّد الحنظليّ المعروف بـ ابن راهويه، قال:
لمّا وافى أبو الحسن الرضا (عليه السلام) نيسابور وأراد أن يرحل منها إلى المأمون اجتمع عليه أصحاب الحديث فقالوا: يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ترحل عنا ولا تحدّثنا بحديث فنستفيده منك! ـ وقد كان قعد في العماريّة ـ فأطْلع رأسه وقال: سمعتُ أبي موسى بنَ جعفر يقول: سمعت أبي جعفرَ بن محمّد يقول: سمعت أبي محمّدَ بن عليّ يقول: سمعت أبي عليَّ بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسينَ بن علي يقول: سمعت أبي اميرَ المؤمنين عليّ بن أبي طالب يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: سمعت جبرئيل يقول: سمعت الله عزّ وجلّ يقول: لا إله إلاّ الله حصني، فمن دخل حصني أمنَ من عذابي. فلمّا مرّت الراحلة نادانا: بشروطها، وأنا من شروطها)[3].
لماذا سلسلة الذهب؟
قد عُرف هذا الحديث الشريف بـ (حديث سلسلة الذهب)، لأنّ جميع رواة سنده هُم من الأئمّة المعصومين الذين ينتهون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلذا يُطلق على السند بـ (السلسلة الذهبية).
قال أبو الصلت عبد السلام بن صالح الهروي: لو قرئ هذا الاسناد على مجنون لأفاق .[4]
إشارة إلى مضمون رفيع:
في ذيل الحديث الشريف إشارة طريفة إلى ترابط العقيدة الإسلاميّة في أصولها، حيث لا توحيد بدون الإقرار بالنبوّة، ولا توحيد ولا نبوّة في الاعتقاد حتّى يكون الإقرارُ بالإمامة، كما لا اعتقاد بالمعاد لمن لا يقرّ بالتوحيد والعدل والنبوّة والإمامة.
وعلّق الشيخ الصدوق على حديث سلسلة الذهب، والذي جاء في أخره قول الإمام الرضا (عليه السلام): ( بشروطها، وأنا من شروطها )، قائلاً: مِن شروطها «أي لا إله إلاّ الله» الإقرار بالرضا (عليه السلام) بأنّه إمامٌ مِن قِبل الله عزّ وجلّ على العباد، مفترض الطاعة عليهم[5].
أحاديثه (عليه السلام) العقائدية:
1. قال (عليه السلام): (ليس العبادة كثرةَ الصيام والصلاة، وإنّما العبادة كثرة التفكّر في أمر الله )[6].
2. وسُئل (عليه السلام) عن حدّ التوكّل فقال(عليه السلام): ( أن لا تخافَ أحداً إلاّ الله)[7].
3. وقال (عليه السلام): (الإيمان أربعة أركان: التوكّل على الله، والرضى بقضاء الله، والتسليم لأمر الله، والتفويض إلى الله)[8].
4. وقال (عليه السلام): (لاتَدَعوا حبَّ آل محمّد (عليهم السلام) والتسليمَ لأمرهم اتّكالاً على العبادة، فإنّه لا يُقبَلُ أحدُهما دون الآخر)[9].
5. عن داود بن القاسم، قال: سمعت علي بن موسى الرضا(عليهما السلام)، يقول (مَن شبّه اللهَ بخَلْقه فهو مشرك، ومَن نسب إليه ما نهى عنه فهو كافر، ثم تلا هذه الآية: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ[10])[11].
6. قال له رجل: إنّ الله تعالى فوّض إلى العباد أفعالهم؟ فقال (عليه السلام): هُم أضعفُ مِن ذلك وأقلّ، قال: فجبرهم؟ قال (عليه السلام): هو أعدل من ذلك وأجلّ، قال: فكيف تقول؟ قال: نقول إنّ الله أمرهم ونهاهم، وأقدرَهم على ما أمرهم به ونهاهم عنه)[12].
7. وسأله الفضلُ بن الحسن بن سهل: الخلْق مجبورون؟ فقال (عليه السلام): (اللهُ أعدل مِن أن يُجبرَ ويعذِّب، قال: فمطلَقون؟ قال(عليه السلام): الله أحكم من أن يهمل عبدَه ويكلَه إلى نفسه)[13].
8. وقال له المأمون يوماً: أخبرني عن أكبر فضيلة لأمير المؤمنين يدلّ عليها القرآن، فأجابه (عليه السلام) قائلاً: فضيلة في المباهلة، قال الله جل جلالُه: (فَمَنْ حاجَّكَ فيهِ...) الآية [14]، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحسنَ والحسين(عليهما السلام) فكانا ابنَيه، ودعا فاطمةَ (عليها السلام) فكانت في هذا الموضع نساءَ ه، ودعا أميرَ المؤمنين (عليه السلام) فكان نفسَه بحكْم الله عزّ وجلّ، فثبت أنّه ليس أحدٌ من خلْق الله تعالى أجلّ من رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وأفضل، فواجب أن لا يكون أحد أفضل من نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحكم الله عزّ وجلّ )[15].
9. وسأله محمّد بن الفضيل، قال: تكون الأرض ولا إمامَ فيها؟ فأجابه (عليه السلام)
بالقول: لا، إذاً لَساخت بأهلها )[16].
10. وسأله صفوان عن قول الله لإبراهيم(عليه السلام): (أَوَ لَمْ تْؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قلْبي..)[17]، أكان في قلبه شكّ؟ فأجابه (عليه السلام): لا، ولكنّه أراد من الله الزيادة في يقينه)[18].
11. وقال (عليه السلام): (أحسِنِ الظنَّ بالله، فإنّ مَن حسُنَ ظنُّه بالله كان الله عند ظنّه)[19].
12. وقال (عليه السلام): (الأئمّة خلفاء الله عزّ وجلّ في أرضه)[20].
أحاديثه (عليه السلام) الأخلاقية والاجتماعية:
1. قال (عليه السلام): ( لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون فيه ثلاث خصال: سنة من ربه، وسنة من نبيه، وسنة من وليه، فأما السنة من ربه فكتمان سره، قال الله جل جلاله: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ... )[21]، وأما السنة من نبيه فمداراة الناس، فإن الله عز وجل أمر نبيه (صلى الله عليه وآله) بمداراة الناس، فقال: (خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ)[22]، وأما السنة من وليه فالصبر في البأساء والضراء، يقول الله عز وجل: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ )[23][24].
2. وقال (عليه السلام): (الأخ الأكبر بمنزلة الأب)[25].
3. وقال (عليه السلام): (التودّد إلى الناس نصف العقل)[26].
4. وقال (عليه السلام): (إذا ذكرتَ الرجل وهو حاضر فكَنِّه، وإذا كان غائباً فسَمِّه)[27].
5. وسُئل (عليه السلام) عن السفْلة فقال: (مَن كان له شيء يلهيه عن الله)[28].
6. وقال (عليه السلام): (العُجْبُ درجات، منها: أن يُزيَّن للعبد سوءُ عمله فيراه حسَناً فيعجبه ويحسَب أنّه يُحسن صُنعاً، ومنها: أن يُؤمن العبد بربّه فيمُنّ على الله، ولله المنّة عليه فيه)[29].
7. وقال (عليه السلام): (وسُئل (عليه السلام) عن خيار العباد، فقال: الّذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساؤوا استغفروا، وإذا أُعطوا شكروا، وإذا ابتُلوا صبروا، وإذا غضبوا عفَوا )[30].
8. وقال (عليه السلام): (السخيّ يأكل من طعام الناس ليأكلوا من طعامه، والبخيل لا يأكل من طعام الناس لئلاّ يأكلوا من طعامه)[31].
9. وقال (عليه السلام): (ليس لبخيل راحة، ولا لحسود لذّة، ولا لمَلول وفاء، ولا لكذوب مروّة )[32].
10. وقال (عليه السلام): (أكثِروا من الصلاة على محمّدٍ وآله (عليه السلام)، والدعاءِ للمؤمنين والمؤمنات في آناء اللّيل والنهار؛ فإنّ الصلاة على محمّد وآله أفضل أعمال البرّ، واحرصوا على قضاء حوائج المؤمنين وإدخال السرور عليهم ودفع المكروه عنهم، فإنّه ليس شيء من الأعمال عند الله عزّ وجلّ بعد الفرائض أفضل من إدخال السرور على المؤمن)[33].
11. وقال (عليه السلام): (مَن رضي بالقليل من الرزق قُبل منه اليسير من العمل)[34].
12. وقال (عليه السلام): (... ولو أخرج الناس زكاة أموالهم ما احتاج أحد )[35].
13. وقال (عليه السلام): ( صاحب النعمة يجب أن يوسّع على عياله )[36].
14. وقال (عليه السلام): (إنّ الله يبغض القيلَ والقال، وإضاعة المال، وكثرةَ السؤال)[37].
15. وقيل له: كيف أصبحت؟ فقال(عليه السلام): (أصبحتُ بأجلٍ منقوص، وعمل محفوظ، والموتُ في رقابنا، والنار من ورائنا، ولا ندري ما يُفعل بنا)[38].
16. وقال (عليه السلام): (لا يستكمل عبدٌ حقيقة الإيمان حتّى تكون فيه خصالٌ ثلاث: التفقّه في الدين، وحُسن التقدير في المعيشة، والصبر على الرزايا)[39].
17. وقال (عليه السلام): (المستتر بالحسنة يعدل سبعين حسنة، والمذيع بالسيّئة مخذول، والمستتر بالسيّئة مغفورٌ له)[40].
[1] تذكرة خواصّ الأمّة لسبط ابن الجوزي: ص198.
[2] مسند الإمام الرضا (عليه السلام):ج1، ص57. عن تاريخ نيسابور للحاكم النيسابوريّ.
[3] الأمالي للشيخ الصدوق: ص 195.
[4] بحار الأنوار للعلامة المجلسي:ج10،ص367.
[5] عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق:ج2،ص153.
[6] تحف العقول لابن شعبة البحرانيّ:ص 335.
[7] تحف العقول لابن شعبة البحرانيّ:ص328.
[8] تحف العقول لابن شعبة البحرانيّ:ص328.
[9] الدرّة الباهرة للشهيد الأوّل: ص37 .
[10] سورة النحل:آية 105.
[11] التوحيد للشيخ الصدوق:69.
[12] نزهة الناظر وتنبيه الخاطر للحلواني:ص132.
[13] بحار الأنوار للعلامة المجلسي:ج75، ص354.
[14] سورة آل عمران:آية 61.
[15] بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج49، ص188.
[16] عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق:ج1، ص246.
[17] سورة البقرة: آية 260.
[18] المحاسن أحمد بن خالد البرقي: ج1، ص247.
[19] تحف العقول.
[20] الكافي للشيخ الكليني: ج5،ص147.
[21] سورة الجن:آية 26 و27.
[22] سورة الأعراف:آية 199.
[23] سورة البقرة:آية 177.
[24] الأمالي للشيخ الصدوق:ص408.
[25] وسائل الشيعة للحر العاملي:ج20،ص283.
[26] تحف العقول لابن شعبة الحراني:ص443.
[27] تحف العقول لابن شعبة الحراني: ص443.
[28] الوافي للفيض الكاشاني: ج26،ص282.
[29] الكافي للشيخ الكليني:ج2،ص313.
[30] فقه الرضا (عليه السلام) علي ابن بابويه القمي:ص354.
[31] عيون أخبار الرضا(عليه السلام) للشيخ الصدوق:ج2،ص15.
[32] تحف العقول لابن شعبة الحراني:ص450.
[33] فقه الرضا (عليه السلام) علي ابن بابويه القمي:339.
[34] وسائل الشيعة للحر العاملي:ج15،ص229.
[35] الكافي للشيخ الكليني:ج3،ص507.
[36] تحف العقول لابن شعبة الحرانيّ: ص442.
[37] تحف العقول لابن شعبة الحرانيّ: ص443.
[38] تحف العقول لابن شعبة الحرانيّ: ص446.
[39] تحف العقول لابن شعبة الحرانيّ: ص 324.
[40] الكافي للشيخ الكليني: ج2، ص428.