للإمام الكاظم(عليه السلام) مناظرات واحتجاجات هامّة وبليغة مع خصومه المناوئين له، كما جرت له مناظرات أخرى مع علماء النصارى واليهود، وقد برع فيها جميعها وأفلج الجميع بما أقامه من الأدلّة الدامغة على صحّة ما يقول، وبطلان ما ذهبوا إليه، وقد اعترفوا كلّهم بالعجز والفشل معجبين بغزارة علم الإمام(عليه السلام)، وتفوّقه عليهم، منها:
1ـ مناظرته(عليه السلام) مع أبي يوسف القاضي:
عن عثمان بن عيسى عن أصحابه قال: قال أبو يوسف للمهدي وعنده موسى بن جعفر(عليهما السلام): تأذن لي أن أسأله عن مسائل ليس عنده فيها شئ؟ فقال له: نعم، فقال لموسى بن جعفر(عليهما السلام) أسئلك؟ قال: نعم، قال: ما تقول في التظليل للمحرم؟ قال: لا يصلح، قال: فيضرب الخباء في الأرض ويدخل البيت؟ قال(عليه السلام):
نعم، قال: فما الفرق بين هذين؟ قال أبو الحسن(عليه السلام): ما تقول في الطامث أتقضي الصلاة؟ قال: لا، قال: فتقضى الصوم؟ قال: نعم، قال: ولم؟ قال: هكذا جاء، قال أبوالحسن(عليه السلام): وهكذا جاء هذا، فقال المهدي لأبي يوسف: ما أراك صنعت شيئاً؟! قال: رماني بحجر دامغ)[1].
2ـ مناظرته(عليه السلام) مع أبي حنيفة:
عن محمد بن مسلم قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله(عليه السلام) فقال له: رأيت ابنك موسى(عليه السلام) يصلي والناس يمرون بين يديه فلا ينهاهم وفيه ما فيه، فقال أبو عبد الله(عليه السلام): ادعوا لي موسى فدُعي فقال له: يا بني إن أبا حنيفة يذكر أنك كنت تصلي والناس يمرُّون بين يديك فلم تنههم، فقال: نعم يا أبة إن الذي كنت أصلي له كان أقرب إليّ منهم يقول الله عز وجل: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)[2]، قال: فضمّه أبو عبد الله(عليه السلام) إلى نفسه ثم قال(عليه السلام): [يا بني] بأبي أنت وأمي يا مودع الأسرار)[3].
3ـ مناظرته(عليه السلام) مع علماء اليهود:
قصد وفد من علماء اليهود الإمام الصادق(عليه السلام) ليحاججوه في الإسلام، فلمّا مثلوا بين يديه انبروا إليه يطلبون منه الحجّة والدليل على نبوّة رسول الله(صلى الله عليه وآله)،
قائلين: أي معجز يدل على نبوّة محمّد؟ أجابهم(عليه السلام): (كتابه المهيمن، الباهر لعقول الناظرين، مع ما أعطي من الحلال والحرام وغيرهما، ممّا لو ذكرناه لطال شرحه)، فقالوا: كيف لنا أن نعلم هذا كما وصفت؟
فانطلق الإمام الكاظم(عليه السلام)، وكان آنذاك صبياً قائلاً لهم: (وكيف لنا بأن نعلم ما تذكرون من آيات الله لموسى على ما تصفون؟) قالوا: علمنا ذلك بنقل الصادقين.
قال(عليه السلام) لهم: (فاعلموا صدق ما أنبأتكم به بخبر طفل لقّنه الله تعالى من غير تعليم، ولا معرفة عن الناقلين)، فبهروا وآمنوا بقول الإمام الكاظم الصبي(عليه السلام)،
الذي هو المعجز بحق، وهتفوا معلنين إسلامهم قائلين: نشهد أن لا اله إلاّ الله، وإنّ محمّداً رسول الله، وإنّكم الأئمّة الهادون، والحجج من عند الله على خلقه.
ولمّا أدلى الإمام(عليه السلام) بهذه الحجّة وأسلم القوم على يده، وثب إليه والده(عليه السلام) فقبّل ما بين عينيه، وقال له: (أنت القائم من بعدي)، ثمّ أمره بكسوة لهم وأوصلهم، فانصرفوا وهم شاكرون)[4].
4ـ مناظرته(عليه السلام) مع علماء النصارى:
جاء قطب من أقطاب النصارى ومن علمائها النابهين، يدعى بريهة، كان يطلب الحق ويبغي الهداية، اتصل بجميع الفرق الإسلامية، وأخذ يحاججهم فلم يقتنع، ولم يصل إلى الهدف الذي يريده، حتّى وصفت له الشيعة، ووصف له هشام بن الحكم، فقصده ومعه نخبة كبيرة من علماء النصارى، فلمّا استقر به المجلس سأل بريهة هشام بن الحكم عن أهم المسائل الكلامية والعقائدية، فأجابه عنها هشام، ثمّ ارتحلوا جميعاً إلى التشرّف بمقابلة الإمام الصادق(عليه السلام)، وقبل الالتقاء به اجتمعوا بالإمام الكاظم(عليه السلام)، فقصّ عليه هشام مناظراته وحديثه مع العالم النصراني بريهة، فالتفت(عليه السلام) إلى بريهة، قائلاً له: (يا بريهة كيف علمك بكتابك؟) قال: أنا به عالم، فقال(عليه السلام): (كيف ثقتك بتأويله؟) قال: ما أوثقني بعلمي به! فأخذ(عليه السلام) يقرأ عليه الإنجيل ويرتّل عليه فصوله، فلمّا سمع ذلك بريهة آمن بأنّ دين الإسلام حق، وإنّ الإمام من شجرة النبوّة، فانبرى إليه قائلاً: إيّاك كنت أطلب منذ خمسين سنة، ثمّ إنّه أسلم وأسلمت معه زوجته، وقصدوا جميعاً والده الإمام الصادق(عليه السلام)، فحكى له هشام الحديث، وإسلام بريهة على يد ولده الكاظم، فسرّ(عليه السلام) بذلك، والتفت قائلاً له: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[5] وانبرى بريهة إلى الإمام الصادق(عليه السلام) قائلاً: جعلت فداك، أنّى لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء؟! قال(عليه السلام): (هي عندنا وراثة من عندهم، نقرؤها كما قرأوها، ونقولها كما قالوها، إنّ الله لا يجعل حجّة في أرضه يسأل عن شيء، فيقول: لا أدري). وبعدها لزم بريهة الإمام الصادق(عليه السلام)،
وصار من أخلص أصحابه، ولما انتقل الإمام إلى دار الخلود اتصل بالإمام الكاظم(عليه السلام) حتّى توفّي في عهده)[6].
5 ـ مناظرته(عليه السلام) مع المهدي العباسي:
قال علي بن يقطين: سأل المهدي أبا الحسن(عليه السلام) عن الخمر، هل هي محرّمة في كتاب الله تعالى، فإنّ الناس إنّما يعرفون النهي عنها، ولا يعرفون التحريم؟ فقال(عليه السلام) له: (بل هي محرّمة في كتاب الله عزّ وجل)، قال المهدي: في أي موضع هي محرّمة في كتاب الله عزّ وجل يا أبا الحسن؟
فقال(عليه السلام): (قول الله عزّ وجل: (إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)[7].
فأمّا قوله (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) يعني الزنا المعلن، ونصب الرايات التي كانت ترفعها الفواحش في الجاهلية، وأمّا قوله عزّ وجل: (وَمَا بَطَنَ) يعني ما نكح الآباء، لأنّ الناس كانوا قبل أن يبعث النبي(صلى الله عليه وآله) إذا كان للرجل زوجة ومات عنها، تزوّجها ابنه الأكبر من بعده إذا لم تكن أمّه، فحرّم الله عزّ وجل ذلك، وأمّا (الإِثْمَ) فإنّها الخمرة بعينها، وقد قال الله تعالى في موضع آخر: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)[8]، فأمّا الإثم في كتاب الله فهو الخمر والميسر، فإثمهما كبير، كما قال عزّ وجل)، فقال المهدي: يا علي بن يقطين هذه والله فتوى هاشمية)[9].