دعاء المظلوم على الظالم للإمام الهادي (عليه السلام)

قال السيد ابن طاووس في مهج الدعوات: ذكر بإسنادنا عن زرافة حاجب المتوكل وكان شيعياً أنه قال: كان المتوكل يُحظي الفتح بن خاقان عنده وقرّبه منه دون الناس جميعاً، ودون ولده وأهله، وأراد أن يبيّن موضعه عندهم، فأمر جميع مملكته من الأشراف من أهله وغيرهم، والوزراء والأمراء والقواد، وسائر العساكر، ووجوه الناس، أن يزيّنوا بأحسن التزيين، ويظهروا في أفخر عددهم وذخائرهم، ويخرجوا مشاة بين يديه، وأن ﻻ يركب أحد إلاّ هو والفتح بن خاقان خاصة بسرّ من رأى، ومشى الناس بين أيديهما على مراتبهم رجّالة، وكان يوماً قائظاً شديد الحرّ، وأخرجوا في جملة الأشراف أبا الحسن علي بن محمد (عليه السلام)، وشقّ عليه ما لقيه من الحرّ والزحمة، قال زرّافة: فأقبلت إليه وقلت له: يا سيدي يعزّ والله عليّ ما تلقى من هذه الطغاة، وما تكلفته من المشقة، وأخذت بيده فتوكأ عليّ وقال: (يا زرافة ما ناقة صالح عند الله بأكرم منّي) أو قال: (بأعظم قدراً منّي)، ولم أزل أسائله واستفيد منه، وأُحادثه إلى أن نزل المتوكل من الركوب، وأمر الناس بالانصراف، فقُدِّمتْ إليهم دوابهم فركبوا إلى منازلهم، وقَدَّمتُ بغلةً له فركبها فركبت معه إلى داره، فنزل وودعته وانصرفت إلى داري، ولولدي مؤدّب يتشيّع من أهل العلم والفضل، وكانت لي عادة بإحضاره عند الطعام، فحضر عند ذلك وتجارينا الحديث، وما جرى من ركوب المتوكل والفتح ومشي الأشراف وذوي الأقدار بين أيديهما، وذكرت له ما شاهدته من أبي الحسن علي بن محمد (عليه السلام)، وما سمعته من قوله: (ما ناقة صالح عند الله بأعظم قدراً منّي)، وكان المؤدب يأكل معي فرفع يده وقال: بالله إنّك سمعت هذا اللفظ منه؟! فقلت له: والله إنّي سمعته يقوله، فقال لي: اعلم أن المتوكل ﻻ يبقى في مملكته أكثر من ثلاثة أيام، ويهلك فانظر في أمرك وأحرز ما تريد إحرازه وتأهب لأمرك كي ﻻ يفجؤكم هلاك هذا الرجل فتهلك أموالكم بحادثة تحدث أو سبب يجري، فقلت له: من أين لك ذلك؟ فقال: أما قرأت القرآن في قصة صالح (عليه السلام) والناقة وقوله تعالى: (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب)، ولا يجوز أن يبطل قول الإمام، قال زرافة: فوالله ما جاء اليوم الثالث حتى هجم المنتصر ومعه بُغا ووصيف والأتراك على المتوكل فقتلوه وقطّعوه والفتح بن خاقان جميعاً قطعاً حتى لم يعرف أحدهما من الآخر، وأزال الله نعمته ومملكته، فلقيت الإمام أبا الحسن(عليه السلام) بعد ذلك، وعرّفته ما جرى مع المؤدب وما قاله، فقال: صدق أنه لما بلغ منّي الجهد رجعت إلى كنوز نتوارثها من آبائنا هي أعزّ من الحصون والسلاح والجُنن، وهو دعاء المظلوم على الظالم، فدعوت به عليه فأهلكه الله، فقلت: يا سيدي إن رأيت أن تعلمنيه، فعلمنيه وهو:

(اَللَّهُمَّ إني وفلاناً عبدان من عبيدك، نواصينا بيدك، تعلم مستقرّنا ومستودعنا، وتعلم منقلبنا ومثوانا، وسرّنا وعلانيتنا، وتطلع على نيّاتنا وتحيط بضمائرنا، علمك بما نبديه كعلمك بما نخفيه، ومعرفتك بما نبطنه كمعرفتك بما نظهره ولا ينطوي عليك شيء من أمورنا، ولا يستتر دونك حال من أحوالنا، ولا لنا منك معقل يحصننا، ولا حرز يحرزنا، ولا هارب يفوتك منّا، ولا يمتنع الظالم منك بسلطانه، ولا يجاهدك عنه جنوده ولا يغالبك مغالب بمنعة، ولا يعازّك متعزّز بكثرة أنت مدركه أينما سلك، وقادر عليه أينما لجأ، فمعاذ المظلوم منا بك، وتوكّل المقهور منا عليك، ورجوعه إليك، ويستغيث بك إذا خذله المغيث، ويستصرخك إذا قعد عنه النصير ويلوذ بك إذا نفته الأفنية، ويطرق بابك إذا أغلقت دونه الأبواب المرتجة ويصل إليك إذا احتجبت عنه الملوك الغافلة، تعلم ما حلّ به قبل أن يشكوه إليك وتعرف ما يصلحه قبل أن يدعوك له فلك الحمد سميعاً بصيراً لطيفاً قديراً، اَللَّهُمَّ إنه قد كان في سابق علمك ومحكم قضائك وجاري قدرك وماضي حكمك ونافذ مشيّتك في خلقك أجمعين، سعيدهم وشقيّهم وبرّهم وفاجرهم أن جعلت لفلان بن فلان عليّ قدرة فظلمني بها، وبغى عليّ لمكانها وتعزّز عليّ بسلطانه الذي خوّلته إياه، وتجبّر عليّ بعلوّ حاله التي جعلتها له وغرّه إملاؤك له، وأطغاه حلمك عنه. فقصدني بمكروه عجزت عن الصبر عليه، وتعمدني بشرّ ضعفت عن احتماله، ولم أقدر على الانتصار منه لضعفي، والانتصاف منه لذلي فوكلته إليك وتوكلت في أمره عليك، وتوعدته بعقوبتك، وحذّرته سطوتك وخوّفته نقمتك فظنّ أن حلمك عنه من ضعف، وحسب أنّ إملاءك له من عجز، ولم تنهه واحدة عن أخرى، ولا انزجر عن ثانية بأولى، ولكنه تمادى في غيّه، وتتابع في ظلمه ولجّ في عدوانه، واستشرى في طغيانه جرأة عليك يا سيدي، وتعرضاً لسخطك الذي ﻻ تردّه عن القوم الظالمين، وقلة اكتراث ببأسك الذي ﻻ تحبسه عن الباغين. فها أنا ذا يا سيّدي مستضعف في يديه، مستضام تحت سلطانه مستذلّ بعنائه، مغلوب مبغيّ عليّ مغضوب وجل خائف مروّع مقهور، قد قلّ صبري وضاقت حيلتي، وانغلقت عليّ المذاهب إلاّ إليك، وانسدّت عليّ الجهات إلاّ جهتك والتبست عليّ أموري في دفع مكروهه عنّي، واشتبهت عليّ الآراء في إزالة ظلمه وخذلني من استنصرته من عبادك، وأسلمني من تعلقت به من خلقك طراً، واستشرت نصيحي فأشار عليّ بالرغبة إليك، واسترشدت دليلي فلم يدلّني إلاّ عليك. فرجعت إليك يا مولاي صاغراً راغماً مستكيناً عالماً أنه ﻻ فرج إلاّ عندك ولا خلاص لي إلاّ بك، انتجز وعدك في نصرتي، وإجابة دعائي، فإنّك قلت وقولك الحق الذي ﻻ يردّ ولا يبدل: Nومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه اللهM، وقلت جلّ جلالك وتقدّست أسماؤك: Nادعوني استجب لكمM، وأنا فاعل ما أمرتني به لا منّاً عليك وكيف أمن به وأنت عليه دللتني فصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ واستجب لي كما وعدتني يا من ﻻ يخلف الميعاد، وإنّي لأعلم يا سيدي أنّ لك يوماً تنتقم فيه من الظالم للمظلوم، وأتيقّن أن لك وقتاً تأخذ فيه من الغاصب للمغصوب، لأنّك ﻻ يسبقك معاند ولا يخرج عن قبضتك منابذ، ولا تخاف فوت فائت، ولكن جزعي وهلعي ﻻ يبلغان بي الصبر على أناتك وانتظار حلمك، فقدرتك علي يا سيدي ومولاي فوق كل قدرة، وسلطانك غالب على كل سلطان، ومعاد كل أحد إليك وإن أمهلته، ورجوع كل ظالم إليك وإن أنظرته، وقد أضرني يا رب حلمك عن فلان بن فلان، وطول أناتك له وإمهالك إياه وكاد القنوط يستولي عليّ لولا الثقة بك، واليقين بوعدك. فإن كان في قضائك النافذ، وقدرتك الماضية أن ينيب أو يتوب، أو يرجع عن ظلمي أو يكفّ مكروهه عنّي، وينتقل عن عظيم ما ركب منّي، فصلّ اَللَّهُمَّ على محمدٍ وآل محمدٍ، وأوقع ذلك في قلبه الساعة الساعة قبل إزالته نعمتك التي أنعمت بها عليّ، وتكديره معروفك الذي صنعته عندي، وإن كان في علمك به غير ذلك، من مقام على ظلمي، فأسألك يا ناصر المظلوم المبغى عليه إجابة دعوتي، فصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وخذه من مأمنه أخذ عزيزٍ مقتدرٍ، وأفجئه في غفلته، مفاجأة مليك منتصر واسلبه نعمته وسلطانه وأفض عنه جموعه وأعوانه ومزّق ملكه كلّ ممزّق وفرّق أنصاره كل مفرّق، وأعره من نعمتك التي لم يقابلها بالشكر، وانزع عنه سربال عزّك الذي لم يجازه بالإحسان، واقصمه يا قاصم الجبابرة وأهلكه يا مهلك القرون الخالية، وأبره يا مبير الأمم الظالمة، واخذله يا خاذل الفئات الباغية، وابتر عمره، وابتزّ ملكه، وعفّ أثره، واقطع خبره وأطفئ ناره وأظلم نهاره، وكوّر شمسه، وأزهق نفسه واهشم شدّته وجبّ سنامه وأرغم أنفه وعجّل حتفه ولا تدع له جُنّة إلاّ هتكتها، ولا دعامة إلاّ قصمتها ولا كلمة مجتمعة إلاّ فرّقتها، ولا قائمة علوّ إلاّ وضعتها، ولا ركناً إلاّ وهنته ولا سبباً إلاّ قطعته، وأرنا أنصاره وجنده وأحبّائه وأرحامه عباديد بعد الألفة وشتّى بعد اجتماع الكلمة، ومقنعي الرؤوس بعد الظهور على الأمة واشف بزوال أمره القلوب المنقلبة الوجلة والأفئدة اللهفة، والأمّة المتحيّرة والبريّة الضائعة، وأدل ببواره الحدود المعطّلة والأحكام المهملة والسنن الداثرة، والمعالم المغيّرة والمساجد المهدومة. وأرح به الأقدام المتعبة، وأشبع به الخماص الساغبة، وأرو به اللهوات اللاغبة، والأكباد الظامئة، واطرقه بليلة ﻻ أخت لها، وساعةٍ ﻻ شفاء منها، وبنكبة ﻻ انتعاش معها، وبعثرةٍ ﻻ إقالة منها، وأبح حريمه، ونغّص نعيمه، وأره بطشتك الكبرى، ونقمتك المثلى، وقدرتك التي هي فوق كل قدرة، وسلطانك الذي هو أعزّ من سلطانه، واغلبه لي بقوتك القويّة، ومحالك الشديد، وامنعني منه بمنعتك التي كل خلق فيها ذليل، وابتله بفقرٍ ﻻ تجبره، وبسوء ﻻ تستره وكله إلى نفسه فيما يريد، إنّك فعال لما تريد، وابرأه من حولك وقوّتك، وأحوجه إلى حوله وقوّته، وأذلّ مكره بمكرك وادفع مشيّته بمشيّتك، واسقم جسده وأيتم ولده، وانقص أجله وخيّب أمله، وأزل دولته، وأطل عولته، واجعل شغله في بدنه ولا تفكّه من حزنه وصيّر كيده في ضلال، وأمره إلى زوال، ونعمته إلى انتقال وجدّه في سفال، وسلطانه في اضمحلال، وعافيته إلى شر مآل وأمِتْه بغيظه إذا أمتّه، وأبقه لحزنه إن أبقيته، وقني شرّه وهمزه ولمزه، وسطوته وعداوته، والمحه لمحة تدمّر بها عليه، فإنّك أشدّ بأساً وأشدّ تنكيلاً، والحمد لله رب العالمين)[1].

 

 


[1] مهج الدعوات ومنهج العبادات للسيد ابن طاووس: ص318-324 ، وعنه في بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج٩٥، ص٢٣٤.