عن حماد بن عثمان قال: (حضرت أبا عبد الله وقال له رجل: أصلحك الله ذكرت أن علي بن أبي طالب(عليه السلام) كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك ونرى عليك اللباس الجديد، فقال له: إن علي بن أبي طالب(عليه السلام) كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر[عليه]ولو لبس مثل ذلك اليوم شهر به، فخير لباس كل زمان لباس أهله، غير أن قائمنا أهل البيت(عليهم السلام) إذا قام لبس ثياب علي(عليه السلام) وسار بسيرة علي(عليه السلام))[1].
والذي نلحظه في هذا الحديث: أنّ الإمام(عليه السلام) يؤكّد على ضرورة الانسجام مع الواقع الحياتي الذي يعيش فيه الإنسان، فليس للإسلام سلوكٌ معيّن فيما يرجع لمظهر الإنسان في الخارج، سوى ما نَبّه عليه الإمام في حديثه، وهو الانسجام مع مظهر العصر الذي يعيش فيه.
وقد كانت هذه النظرة الواقعية الواعية للإمام إزاء المظهر، مثار اعتراض ونقد بعض المتصوّفة في عصره، الذين وجدوا في مرونة الإمام الصادق(عليه السلام) وانفتاحه في هذا المجال، ما يفقد مظهرهم وزهدهم المتزمّت وقيمته المثالية، وامتيازهم الاجتماعي، بعد أن كان الإمام في موقعه من الأُمّة يمثّل القمّة في الواجهة الرسالية السليمة من كلّ شائبة انحراف أو تزييف في عرض المفاهيم وتطبيقها.
وما رواه الكليني أيضاً، أنّ سفيان الثوري دخل على أبي عبد الله(عليه السلام) فرأى عليه ثياباً بيضاء كأنّها غرقئ البيض (الغرقئ كزبرج قشر البيض الرقيق تحت القشر الأعلى وتشبيهها بغرقئ البيض باعتبار رقتها)، فقال له: إنّ هذا اللباس ليس من لباسك.
فقال له الإمام(عليه السلام): (اسمع منّي وعِ ما أقول: فإنّه خير لك عاجلاً وآجلاً، إن أنت مُتَّ على السنّة ولم تمت على بدعة، أُخبرك أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان في زمان مُقِفر مُجدِب، فأمّا إذا أقبلت الدنيا فأحقّ الناس بها أبرارها لا فُجّارها، ومؤمنوها لا منافقوها، ومسلموها لا كفّارها، فما أنكرت يا ثوري، فو الله إنّي ما ترى، ما أتى عليّ منذ عقلت صباحاً ولا مساء ولِلّهِ في مالي حقّ، أمرني أن أضعه موضعاً إلاّ وضعته)[2].
أوضح الإمام في حديثه مع سفيان الثوري، أنّ الزهد ليس مظهراً رخيصاً يتلبّس به الإنسان وابتعاداً عن المعطيات الطيّبة مما أنعم الله عليه به، وإنّما هو انفصال نفسي عن عوامل الفتنة، وأسباب التعلّق بالدنيا.
كما إنّ لكلّ زمان معطياته، ففي زمان النبي(صلى الله عليه وآله) عندما لم تكن الحياة في سعة، وكان الناس لا يزالون يعيشون خشونة البداوة وشظف العيش لقلّة الناتج وضيق ذات اليد، كانت البساطة في المظهر والشكل، هي الطابع العامّ الذي يغلب على الحياة العامة، أمّا في زمان الإمام الصادق(عليه السلام) حيث انتقلت حياة الناس إلى وضع جديد من السعة والوجدان، فعلى الإنسان أن يتكيّف بالطابع السلوكي العام، في حدود ما يكون فيه رضا الله سبحانه وتعالى، ولا ينفرد بمظهر متميّز يفصله عن الآخرين ممّا يكون مظنّة للرياء ومنطلقاً للشهرة - فليس الزاهد أن لا يملك شيء، بل الزاهد أن لا يملكه شيء -.
ويعطينا الإمام الصادق(عليه السلام) في موقف آخر له مع سفيان الثوري، صورة معبّرة عن واقعية الزهد التي لا تصطدم مع إرادة التمتّع بطيب الحياة ومعطياتها الخيّرة، فعن سفيان قال: (دخلت على الإمام الصادق(عليه السلام) وكان عليه جبّة خز دكناء، فجعلت أنظر إليها متعجّباً، فقال لي: يا ثوري، ما لك تنظر إلينا، لعلّك ممّا رأيت؟
فقلت: يا ابن رسول الله، هذا ليس من لباسك ولا لباس آبائك.
فقال لي: يا ثوري، كان ذلك الزمان مقفراً مقتراً... ثمّ حسر عن ردن جبّته، وإذا تحتها جبّة صوف بيضاء، وقال: يا ثوري، لبسنا هذا لله - وأشار إلى جبّة الصوف - وهذا لكم - وأشار إلى الخزّ - فما كان لله أخفيناه، وما كان لكم أبديناه)[3].
فهذا المظهر الأنيق من الإمام، الذي تُحدّثنا به الروايات، لا يتنافى مع سلوك الزهد والتقشّف، فهو حين يظهر بالمظهر المتجمّل في لباسه، والذي ينسجم مع المستوى الحياتي لعصره، يريد أن يبتعد عن فتنة الرياء، كما صرّح به الإمام(عليه السلام)، وأشار إليه في حديثه مع سفيان، ولكنّه في نفس الوقت لا يعطي لنفسه حقّ التمتّع بنعومة اللباس وليونته، التي تترك في واقع النفس أثراً مادياً، يشوّش بها الصفاء الروحي، الذي يقترب به الإنسان من ربّه، فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ كَثِيرٍ الْخَزَّازِ عَنْ أَبِيه قَالَ: (رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ الله(عليه السلام) وعَلَيْه قَمِيصٌ غَلِيظٌ خَشِنٌ تَحْتَ ثِيَابِه وفَوْقَهَا جُبَّةُ صُوفٍ وفَوْقَهَا قَمِيصٌ غَلِيظٌ فَمَسسْتُهَا فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّ النَّاسَ يَكْرَهُونَ لِبَاسَ الصُّوفِ فَقَالَ (عليه السلام):كَلَّا كَانَ أَبِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ(عليهما السلام) يَلْبَسُهَا وكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ(عليهما السلام) يَلْبَسُهَا وكَانُوا(عليهم السلام) يَلْبَسُونَ أَغْلَظَ ثِيَابِهِمْ إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ ونَحْنُ نَفْعَلُ ذَلِكَ)[4].
فالإمام(عليه السلام) بمظهره المتجمّل يريد أن يكون منسجماً مع مظهر أهل عصره حياتياً، وفيما يستر وراء ذلك المظهر من اللباس الخشن، يريد أن يكون منسجماً مع واقع نفسه البعيد عن مفاتن الحياة ومباهجها ومتعها، التي هي الواجهة الأُخرى التي تقابل الزهد والتقشّف في الحياة، أمّا حين يقف بين يدي ربّه ليؤدّي واجب العبودية الحقّة، فإنّه يرفض ذلك المظهر المتجمّل، ويتجرّد بواقعية وصفاء عن كلّ ما له تعلّق بشؤون هذه الحياة الزائفة، وهذا موقف مَن عرف الله حقّ معرفته ودان له بالعبودية كما هو أهله.
وقد أعطى الإمام(عليه السلام) بسلوكه المنفتح... رؤيا واضحة عن مرونة الإسلام، ومراعاته لمزاج التطوّر، فيما يرجع لبناء الحياة العامّة عندما لا تصطدم مؤثّرات التطوّر بالجانب التكليفي أو الأخلاقي من التشريع.
فليس الزهد عند الإمام(عليه السلام) مظهر الحرمان وشظف العيش، وإنّما هو غنى النفس بالإيمان، وابتعادها عن التعلّق بالدنيا ومفاتنها، بنحو لا تمثّل الدنيا وما اشتملت عليه من مفاتن ومتع، هدفاً أصيلا يسعى إليه الإنسان في حياته، فإن هي أقبلت فنعمة تستحقّ الشكر، وإن هي أدبرت فما عند الله خيرٌ وأبقى.
وقد دعا الإمام(عليه السلام) إلى ضرورة إظهار النعمة والتجمّل بها، وإنّ الله ما بسط النعم على عباده إلاّ من أجل أن يكرمهم بها، وإهمال النعمة رفض لذلك الإكرام، فقد روى الكليني عنه(عليه السلام) أنّه قال:(إِذَا أَنْعَمَ الله عَلَى عَبْدِه بِنِعْمَةٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَاهَا عَلَيْه لأَنَّه جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)[5].وأيضا عنه(عليه السلام): (إن الله يحب الجمال والتجمّل، ويبغض البؤس والتباؤس، فإن الله إذا أنعم على عبده نعمة أحب أن يرى عليه أثرها، قيل: كيف ذلك ؟ قال: ينظّف ثوبه، ويطيّب ريحه، ويجصّص داره، ويكنس أفنيته حتى أن السراج قبل مغيب الشمس ينفي الفقر ويزيد في الرزق)[6].