كان الإمام (عليه السلام) أعبد أهل زمانه، لأنّ عبادته(عليه السلام) مقترنة بالمعرفة الصادقة، وكلّما ازدادت المعرفة بالله سبحانه وتعالى ازداد العمق العبادي لقوله تعالى:
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾[1]، لذلك تتجلّى في عبادته(عليه السلام) أعمق معاني الخشوع وأروعها، حتى أقرّ من لم يعتقد بإمامته بأنه سلام الله عليه من أكابر العبّاد الذين يخشون الله عزّ وجل، حيث يقول مالك بن أنس:...كان(عليه السلام) رجلاً لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إما صائماً، وإما قائماً، وإما ذاكراً، وكان من عظماء العبّاد، وأكابر الزهّاد الذين يخشون الله عز وجل[2].
وقال أيضا: ما رأت عين، ولا سمعت أُذن، ولا خَطَرَ على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق علماً وعبادة[3].
وقال ابن طلحة في مطالب السؤول: ذو علوم جمّة، وعبادة موفورة، وأوراد متواصلة، يقسّم أوقاته على أنواع الطاعات[4].
وعن أبان بن تغلب قال: دخلت على أبي عبد الله(عليه السلام) وهو يصلي، فعددت له في الركوع والسجود ستين تسبيحه[5].
وعن حفص بن غياث، قال: رأيت أبا عبد الله(عليه السلام) يتخلّل بساتين الكوفة، فانتهى إلى نخلة فتوضّأ عندها، ثمّ ركع وسجد، فأحصيت في سجوده خمسمائة تسبيحه، ثمّ استند إلى النخلة فدعا بدعوات[6].
وقد روي: (أن مولانا الصادق(عليه السلام) كان يتلو القرآن في صلاته، فغشي عليه فلما أفاق سئل: ما الذي أوجب ما انتهت حاله إليه؟ فقال ما معناه: ما زلت أكرر آيات القرآن حتى بلغت إلى حال كأنني سمعتها مشافهة ممن أنزلها)[7].
وقد أخلص في طاعته وعبادته لله كأعظم ما يكون الإخلاص، وإليك صورة موجزة عن عباداته:
أ ـ صلاته(عليه السلام): إن الصلاة من أفضل العبادات وأهمها في الإسلام، وقد أشاد بها الإمام الصادق(عليه السلام) في كثير من أحاديثه:
قائلاً(عليه السلام): (ما تقرب العبد إلى الله بعد المعرفة أفضل من الصلاة)[8].
وقال(عليه السلام): (الصلاة قربان كل تقي)[9].
وقال(عليه السلام): (أحب الأعمال إلى الله عزَّ وجلَّ الصلاة، وهي آخر وصايا الأنبياء، فما أحسن الرجل يغتسل أو يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يتنحى حيث لا يراه أنيس فيشرف الله عليه وهو راكع أو ساجد إن العبد إذا سجد فأطال السجود نادى إبليس: يا ويله أطاعوا وعصيت، وسجدوا وأبيت)[10].
وقال أبو بصير: (دخلت على أم حميدة أعزّيها بأبي عبد الله الصادق(عليه السلام)، فبكتْ وبكيتُ لبكائها، ثم قالتْ: يا أبا محمد، لو رأيتَ أبا عبد الله(عليه السلام) عند الموت لرأيت عجباً، فتح عينيه ثم قال: اجمعوا لي كل من بيني وبينه قرابة. قالت: فلم نترك أحداً إلا جمعناه. قالت: فنظر إليهم ثم قال: إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة)[11].
ومن الجدير بالذكر أن الإمام(عليه السلام) لم يدع نافلة من نوافل الصلاة إلاّ أتى بها بخشوع وإقبال نحو الله تعالى، وكان(عليه السلام) إذا أراد التوجه إلى الصلاة اصْفَرَّ لونه، وارتعدت فرائصه خوفاً من الله تعالى ورهبة وخشية منه، وقد أثرت عنه مجموعة من الأدعية في حال وضوئه، وتوجهه إلى الصلاة وفي قنوته، وبعد الفراغ من صلاته[12]..
ب ـ صومه(عليه السلام): إنّ الصوم من العبادات المهمة في الإسلام، وذلك لما يترتب عليه من الفوائد الاجتماعية والصحية والأخلاقية، (وهو جُنّة من النار) ـ كما قال الإمام الصادق(عليه السلام) ـ[13]، وقد حثَّ الإمام الصادق(عليه السلام) الصائم على التحلّي بالأخلاق والآداب التالية، قال(عليه السلام): (وإذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك من القبيح والحرام، ودع المراء، وأذى الخادم، وليكن عليك وقار الصيام، ولا تجعل يوم صومك مثل يوم فطرك سواء..)[14].
وكان(عليه السلام) صائماً في أغلب أيامه تقرباً إلى الله تعالى، أما شهر رمضان المبارك فكان يستقبله بشوق بالغ، وقد أثرت عنه بعض الأدعية المهمة عند رؤيته لهلاله، كما أثرت عنه بعض الأدعية في سائر أيامه وفي ليالي القدر المباركة وفي يوم عيد الأضحى الأغرّ[15].
ج ـ حجه(عليه السلام): أما الحج فهو بالإضافة إلى قدسيته فإنه من أهم المؤتمرات السياسية التي تعقد في العالم الإسلامي، حيث تُعرض فيه أهم المشاكل التي تواجه المسلمين سواء أكانت من الناحية الاقتصادية أم الاجتماعية أو المشاكل السياسية الداخلية والخارجية، مضافاً إلى أنه من أهم الروابط التي يعرف بها المسلمون بعضهم بعضاً.
وقد حج الإمام الصادق(عليه السلام) مرات متعددة والتقى بكثير من الحجاج المسلمين، وقد كان المعلم والمرشد لهم على مسائل الحج، فقد جهد هو وأبوه الإمام محمد الباقر(عليهما السلام) على بيان أحكام الحج بشكل تفصيلي، وعنهما أخذ الرواة والفقهاء أحكام هذه الفريضة، ولولاهما لما عرفت مسائل الحج وأحكامه.
وكان الإمام الصادق(عليه السلام) يؤدي بخضوع وخشوع مراسيم الحج من الطواف، والوقوف في عرفات ومنى، وقد روى بكر بن محمد الأزدي فقال: خرجت أطوف، وإلى جنبي الإمام أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) حتَّى فرغ من طوافه ثم مال فصلى ركعتين بين ركن البيت والحجر، وسمعته يقول في أثناء سجوده: (سَجَدَ وَجْهِي لَكَ تَعبّداً وَرِقّاً، لا إلهَ إلاّ أنْتَ حَقّاً حَقّاً، الأوّل قَبْلَ كُلِّ شَيءٍ، وَالآخِرُ بَعْدَ كُلِّ شَيءٍ، وَهَا أنَا ذا بَيْنَ يَدَيْكَ، ناصِيَتي بِيَدَيْكَ فَاغْفِرْ لِي إنَّه لا يَغْفِرُ الذَّنْبَ العَظِيمَ غَيْرُكَ، فَاغْفِرْ لِي، فَإنِّي مُقرٌّ بِذُنُوبي عَلى نَفْسِي، وَلا يدفَعُ الذَّنْبَ العَظيمَ غيرُكَ)..ثم رفع رأسه الشريف، ووجهه كأنما غُمس في الماء من كثرة البكاء[16].
يقول مالك بن أنس: (...حججت معه -أي: الامام الصادق(عليه السلام)- سنة فلمّا استوت به راحلته عند الإحرام، كان كلّما همّ بالتلبية [تلجلج و] انقطع الصوت في حلقه وكاد أن يخرّ من راحلته )[17].
وكان(عليه السلام) إذا خرج من الكعبة المقدسة يقول: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، اللّهمّ لا تجْهدْ بَلاءنا، ولا تُشمِت بِنا أعداءنا، فإنّكَ أنْتَ الضّارُّ النّافع)[18].
وكان من أعظم الخاشعين والداعين في مواقف الحج، فقد روي أنّ سفيان الثوري قال: (والله رأيت جعفر بن محمّد (عليه السلام) ولم أر حاجّاً وقف بالمشاعر، واجتهد في التضرُّع والابتهال منه، فلمّا وصل عرفات أخذ من الناس جانباً، واجتهد في الدعاء في الموقف)[19].
[1] سورة فاطر: آية28.
[2] الأمالي للشيخ الصدوق: ص169.
[3] مناقب آل أبي طالب ابن شهر آشوب: ج4 ، ص248.
[4]كشف الغمة في معرفة الأئمة لأبي الفتح الإربلي: ج2، ص367.
[5] الكافي للشيخ الكليني: ج1، ص329.
[6] الكافي للشيخ الكليني:ج8، ص143.
[7] بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج47 ، ص58 .
[8] مجموعة ورّام ورام بن أبي فراس:ج2 ، ص86.
[9] جمهور الأولياء: ج2، ص78.
[10] وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 3، ص26.
[11] الأمالي للشيخ الصدوق: ص572.
[12] راجع الصحيفة الصادقية.
[13] وسائل الشيعة للحر العاملي: ج3 ، ص290.
[14] مجموعة ورام ورام بن أبي فراس:ج2 ، ص85.
[15] راجع الصحيفة الصادقية.
[16] قرب الإسناد للحميري: ص28.
[17] الخصال للشيخ الصدوق: ج1 ، ص77.
[18] قرب الإسناد للحميري: ص3.
[19] كشف اليقين لإبن المطهر الحلي: ص330.