وحيث انتهى بنا الحديث إلى هنا فيحسن بنا أن نشير إلى المراحل التي مرت بها هذه الدعوة الشريفة عبر عصور الأئمة (صلوات الله عليهم) حتى انتهت إلى حيث انتهت إليه حين بدات الغيبة. فنقول:
1 - كانت هذه الدعوة في أوج قوتها تنظيرياً في حياة النبي (صلى الله عليه وآله)، وأخذت عليها العهود والمواثيق، وأذعن بها وتبناها جماعة لا يستهان بهم من ذوي المقام الرفيع من صحابة النبي (صلى الله عليه وآله) وخواصه، كما يظهر بملاحظة الكثرة الكاثرة من نصوص الكتاب المجيد والسنة الشريفة، ومن تعامل النبي (صلى الله عليه وآله) وعامة المسلمين مع أهل البيت (صلوات الله عليهم). حتى كان المهاجرون والأنصار لا يشكون في أن الخلافة تصير إلى أمير المؤمنين علي (صلوات الله وسلامه عليه)[1].
٢- وبعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) انحرف مسار السلطة وحاول الأولون تضييع معالم هذه الدعوة ومحاربتها بوجه غير معلن، حتى غابت عن أذهان المسلمين، وكادت تنتهي، لو لا فئة قليلة ثبتت عليها سراً من دون أن يكون لها مظهر يلفت النظر. كما تقدم عند الكلام فيما كسبه الإسلام بكيانه العام من فاجعة الطف.
3- ولما استلم أمير المؤمنين (عليه السلام) الخلافة حاول إظهارها، وتنبيه المسلمين لها، وإقامة الحجة عليها، فقام لها كيان يلفت النظر، وتبناها مجموعة معتد بها بإصرار، وعلى بصيرة كاملة.
٤- ولما قتل (صلوات الله عليه) وصالح الإمام الحسن (عليه السلام) واستتب الأمر لمعاوية حاول خنقها والقضاء عليها، وجدّ في ذلك بالترغيب والترهيب والتثقيف المزيف.
بل زاد على ذلك بمحاولة إسقاط رموزها بتشويه صورة أهل البيت، خصوصاً أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي هو سيدهم. وتقدم في بعض فصول كتابنا هذا ما يناسب ذلك. وإن كان هو من الوضوح بحيث يستغنى عن ذكر الشواهد عليه. ومرّت هذه الدعوة في عهده وفترة من الزمن بعده بأصعب مخاض في تاريخها.
5- لكن بمرور الزمن وبسبب التضحيات الكثيرة، ومن أهمها فاجعة الطف، فرض أهل البيت عموماً احترامهم، وسمو مقامهم ورفعة شأنهم في نفوس المسلمين. ولاسيما أمير المؤمنين والأئمة من ولده (عليهم الصلاة والسلام). وحتى على السلطة، حيث تراجعت عن كثير من مواقفها العدوانية ضدهم (عليهم السلام).
إلا أن الدعوة بقيت مرفوضة عند جمهور المسلمين، واستهدفت الشيعة بدلاً عن الأئمة (عليهم السلام)، ولم يسع الأئمة (صلوات الله عليهم) الإعلان عن تبنيهم للشيعة ولدعوتهم الشريفة. بل قد يظهرون التنصل منها أو من بعض مميزاتها المقومة لها - ومنها موقفها السلبي من الأولين - خصوصاً صاء مع السلطة ومن سار في ركابها، حيث تبتني هذه الدعوة على سلب الشرعية عنها. وكانوا (عليهم السلام) في غاية الحذر والحيطة في تعاملهم مع شيعتهم وتبنيهم لدعوتهم، حتى مع بعض شيعتهم في مجالسهم الخاصة، حذراً من بعض خصومهم.
ومن الطريف ما رواه الكليني عن أبي بصير بطريق معتبر، قال: ((كنت جالساً عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ دخلت عليه أم خالد التي قطعها يوسف بن عمر تستأذن عليه. فقال أبو عبد الله(عليه السلام): أيسرك أن تسمع كلامها؟ فقلت: نعم. فقال: أما الآن فأذن لها. قال: وأجلسني معه على الطنفسة. ثم دخلت فتكلمت، فإذا امرأة بليغة. فسألته عنهما فقال: توليهما. قالت: فأقول لربي إذا لقيته: إنك أمرتني بولايتهما؟ قال: نعم. قالت: فإن هذا الذي معك على الطنفسة يأمرني بالبراءة منهما، وكثير النوّا يأمرني بولايتهما. فإيهما خير وأحب إليك؟ قال: هذا والله أحب إلي من كثير النوّا وأصحابه. ان هذا يخاصم، فيقول: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا انزَلَ اللَّهُ فَأوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا انْزَلَ اللَّهُ فَأولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا انْزَلَ اللَّهُ فَأولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ)[2].
ورواه الكشي بطريق موثق عن أبي بصير، وزاد: ((فلما خرجت قال: إني خشيت أن تذهب فتخبر كثير النوّا، فتشهرني بالكوفة ...))[3].
وكثيراً ما كانوا يحرجون من خروج الشيعة عن مقتضى التقية في الإفصاح عن عقيدتهم وقيامهم بالممارسات المناسبة لها.
وذلك سهل للخصوم أن يتهموا الشيعة بالكذب على الأئمة (صلوات الله عليهم). ولازال كثير من الخصوم مصرّين على ذلك حتى الآن بالرغم من وضوح الحال، كما يظهر مما يأتي.
٦- وبمرور الزمن اتضح ارتباط الأئمة (صلوات الله عليهم) بشيعتهم وتبنيهم لهذه الدعوة. وذلك وإن لم يعلن منهم(عليهم السلام)، ولا اعترف الخصوم به، إلا أن مواقف الجمهور وعلمائهم عملياً تشهد بذلك.
حيث تجنبوا تدريجياً الاختلاط بالأئمة المتاخرين (عليهم السلام) والرواية عنهم والاهتمام بثقافتهم، وتميز الشيعة بذلك، فكانوا هم المعلنين للارتباط بالأئمة (عليهم السلام) الحافظين لتراثهم الرفيع وتعاليمهم السامية، كما أوضحنا ذلك بتفصيل في جواب السؤال الثالث من الجزء الثاني من كتابنا (في رحاب العقيدة).
ومن الطريف ما ذكره الذهبي في ترجمة الإمام الرضا (صلوات الله عليه). قال: ((الإمام السيد أبو الحسن علي بن موسى الرضا... وكان من العلم والدين والسؤدد بمكان. يقال: أفتى وهو شاب في أيام مالك...))[4]، وقال أيضاً: ((وقد كان على الرضا كبير الشأن أهلاً للخلافة))[5].
لكنه قال أيضاً عنه (عليه السلام): ((روى عنه ضعفاء... ولا تصح الطرق إليه))[6]. وليت شعري إذا كان الإمام الرضا ( صلوات الله عليه) بهذا المقام الرفيع، ومن العلم والدين والسؤدد بمكان، فلماذا تركه الثقات بنظر الذهبي، ولم تصح الطرق إليه؟!.
7- وأول اعتراف للسلطة بتبني الأئمة للشيعة كان في مأساة الإمام أبي إبراهيم موسى بن جعفر الكاظم (صلوات الله وسلامه عليه)، حيث قضى مدة طويلة في غياهب السجون حتى قضى مسموماً، واستهين بجثمانه الطاهر، ووضع على الجسر ببغداد، وفي مجلس الشرطة، ونودي عليه بنداءات فظيعة منها: هذا إمام الرافضة[7].
في محاولة للتنكيل بالشيعة بالتنكيل بإمامهم وتبرير التنكيل به من أجل ذلك، فإن في ذلك اعترافاً بتبنيه للشيعة من أجل تبرير انتهاك حرمته (صلوات الله عليه).
وهي وإن كانت أقسى مأساة أصيبت بها الشيعة بعد فاجعة الطف، إلا أن الاعتراف المذكور من السلطة مكسب مهم للشيعة، لما فيه من الاعتراف - غير المقصود - بشرعيتهم بانتسابهم لائمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) الذين فرضوا احترامهم، بل قدسيتهم، على المسلمين.
ولاسيما أن الانتهاك المذكور لم يدم طويلاً حتى تراجعت السلطة، وأخذ سليمان بن جعفر جثمانه الشريف، ونادى عليه بعكس النداء السابق: ((ألا من أراد أن ينظر إلى الطيب ابن الطيب موسى بن جعفر فليخرج)). وشيّع (صلوات الله عليه) بغاية التعظيم والاحترام[8].
وكان هذا التراجع السريع بعد الاعتراف السابق بإمامته للرافضة مكسباً آخر للشيعة . حيث تم الاعتراف بخطأ السلطة في موقفها منه (عليه السلام)، وأن من اعترفت بأنه إمام الرافضة ليس أهلاً للتوهين، بل هو أهل لما حصل بعد ذلك من الاحترام والتعظيم. وذلك يناسب احترام أتباعه وشيعته، ويؤكد شرعية دعوتهم.
8- والظاهر أن ردود الفعل الظلامته اضطرت السلطة - وهي في أوج قوتها - لتخفيف الضغط على ولده الإمام الرضا (صلوات الله عليه) وشيعته، نظير ما حصل بعد فاجعة الطف، على ما سبق توضيحه.
فقد روى الصدوق بسنده عن موسى بن مهران قال: ((سمعت جعفر بن يحيى يقول: سمعت عيسى بن جعفر يقول لهارون، حيث توجه من الرقة إلى مكة: اذكر يمينك التي حلفت بها في آل أبي طالب، فإنك حلفت إن ادعى أحد بعد موسى الإمامة ضربت عنقه صبراً. وهذا علي ابنه يدعي هذا الأمر، ويقال فيه ما يقال في أبيه. فنظر إليه مغضباً فقال: وما ترى؟ تريد أن أقتلهم كلهم! قال موسى بن مهران: فلما سمعت ذلك صرت إليه فأخبرته. فقال (عليه السلام): ما لي ولهم. لا يقدرون إلي على شيء)). وقريب منه ما رواه بسنده عن صفوان بن يحيى[9].
وقد تضمن غير واحد من النصوص تأكيد الإمام الرضا (عليه السلام) على أنه لا يناله من هارون الرشيد مكروه.
ومن الظاهر أن هارون كان عازماً حينما حلف على أن يقتل كل من يدعي الإمامة، وينهي الدعوة الحقة. ولعل موقفه السابق من الإمام الكاظم (عليه السلام) كان تمهيداً لذلك.
غير أن الضغط الاجتماعي والخوف من ردود الفعل، اضطره للتراجع عن ذلك، والإنكار على عيسى بن جعفر في تذكيره بيمينه، وحثّه على المضي فيما سبق منه العزم عليه.
هذا وبالمقارنة بين هذه المأساة ومأساة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) يتجلى بوضوح أن انحراف مسيرة الإسلام بإقصاء أهل البيت (صلوات الله عليهم) عن الخلافة وإدارة أمور الإسلام والمسلمين، عرّض الإسلام للخطر الماحق لولا الجهود الجبارة التي قام بها الأئمة (عليهم السلام) في كبح جماح الانحراف، والحدّ من خطره.
ففي مأساة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) كشف الطغاة عن عزمهم - بما يملكونه من قوى مادية وتسافل أخلاقي ووحشية مفرطة - على القضاء على الإسلام من أساسه، واقتلاع جذوره وإنهاء دوره في الحياة، فجهروا بنواياهم الخبيثة.
حيث صرّح يزيد معلناً بما أسرّه أبوه من قبل[10]، فقال في مجلسه الحاشد حينما أدخل عليه الأسارى بذلك الوضع المزري:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحاً ثم قالوا يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القوم من ساداتهم وعدلناه ببدر فاعتدل
لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل
لست من خندف إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل[11]
وردّت عليه العقيلة زينب الكبرى (عليها السلام) بخطبتها الكبرى. وقالت في آخرها بثقة عالية: ((فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك. فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا...))[12] وكان الأمر كما قالت (عليها السلام).
أما في مأساة الإمام الكاظم (صلوات الله عليه) فقد ظهر مما سبق أن الطغاة في أوج قوة الدولة العباسية حاولوا القضاء على خط أهل البيت (صلوات الله عليهم) الذي يمثل الإسلام الحقيقي الخالي من شوائب التحريف والتزييف. كي يخلو لهم الجو، ويأخذوا حريتهم في التعتيم على الحقيقة وتحريف الدين لصالحهم من دون ضابط ولا رادع.
ولكن اضطروا للتراجع السريع، وباؤوا بالفشل الذريع، كما يظهر مما ياتي. و (كَتَبَ اللَّهُ لَاغْلِبَنَّ أنَا وَرُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)[13].
9- ثم كانت بيعة الإمام الرضا (صلوات الله عليه) بعد انتصار المأمون على أخيه الأمين، وتبديل شعار السلطة من السواد بالخضرة، تطوراً في واقع الدعوة الشريفة، لابتنائها على دعوى نذر المأمون أو عهده على أنه إن انتصر على الأمين أن يجعل الخلافة في خير آل أبي طالب[14].
وهو يستبطن أولاً: الاعتراف بأن آل أبي طالب أولى بالخلافة.
وثانياً: أولوية الإمام الرضا (صلوات الله عليه) من بين الطالبيين بها مع وجود من هو أعلى طبقة في النسب منه، حيث يشهد بتقدمه عليهم في نفوس عامة المسلمين. وكلاهما يطابق عقيدة الشيعة، وبه قوام دعوتهم الشريفة.
ولما أراد المأمون البيعة له (عليه السلام) أنطقه الله بما أصر الشيعة عليه، وجهد الظالمون في تجاهله وإخفائه، من رفعة مقام الأئمة المنصوص عليهم من الله تعالى بسلسلتهم المباركة. فقال: ((أيها الناس جاءتكم بيعة علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام). والله لو قرئت هذه الأسماء على الصم اليكم لبرؤوا بإذن الله عز وجل))[15].
وحينها انتهت بيعته (عليه السلام) إلى المدينة المنورة خطب عبد الجبار بن سعيد فقال في الدعاء له (عليه السلام): ((ولي عهد المسلمين علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام).
ستة آباءٍ هم ما هم أفضل من يشرب صوب الغمام))[16]
وطلب المأمون من الإمام (عليه السلام) أن يخطب في مجلس البيعة، فخطب(عليه السلام) مؤكداً على تميز أهل البيت (صلوات الله عليهم) بحق على المسلمين، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ((إن لنا عليكم حقاً برسول الله، ولكم علينا حقاً به، فإذا أديتم لنا ذلك وجب علينا الحق لكم))[17].
واستطاع (صلوات الله عليه) في هذه الفترة أن ينشر الكثير من مبادئ أهل البيت (صلوات الله عليهم) ومعارفهم، وأصول الإسلام والإيمان، وحق أهل البيت وظلامتهم وغير ذلك.
وذلك كله تطور مهم لصالح التشيع، وكان عاملاً مهماً في انتشاره، والاعتراف به كحقيقة قائمة في الواقع الإسلامي جديرة بالاحترام.
١٠ - وذلك وإن لم يدم طويلاً حيث قضى المأمون على الإمام الرضا (عليه السلام) وأعاد السواد شعاراً للدولة، إلا أنه استمر في إظهار احترامه له ولأهل البيت (عليهم السلام) والاعتراف برفعة مقامهم. حتى إنه ضرب الدراهم باسمه حتى بعد وفاته، كما ذكر لي ذلك رئيس قسم المسكوكات في المتحف العراقي[18]، وزوّج ابنته أم الفضل من الإمام الجواد(عليه السلام).
١١ - واستمر إظهار احترامهم من قبل السلطة حتى جاء دور المتوكل العباسي الذي عرف بالنصب والعداء السافر لأهل البيت (صلوات الله عليهم) والتنكيل بشيعتهم، والتوجه المضاد لثقافتهم وتعاليمهم، على ما سبق في بعض فصول كتابنا هذا[19].
ومع ذلك يبدو أن قوة الشيعة على أرض الواقع الإسلامي بعد بيعة الإمام الرضا (عليه السلام) وإصرارهم على التمسك بخط أهل البيت (صلوات الله عليهم) وشدة تعلقهم بأئمتهم وتعظيمهم لهم، وفرض الأئمة (عليهم السلام) أنفسهم واحترامهم على عامة المسلمين، كل ذلك اضطر السلطة - مهما اختلفت اتجاهاتها - لتخصيص الأئمة الثلاثة من ذرية الإمام الرضا (عليه السلام) بمرتبة متميزة، ورفع درجتهم رسمياً على جميع الطالبيين، بما فيهم من هو أعلى منهم طبقة في النسب وأقدم كثيراً في السن.
ومن الطريف ما ذكره الطبرسي في ترجمته للإمام أبي الحسن علي بن محمد الهادي (عليه السلام) قال: ذكر ابن جمهور قال: حدثني سعيد بن سهلويه قال: رفع زيد بن موسى إلى عمر بن الفرج مراراً يسأله أن يقدمه على ابن ابن أخيه، ويقول: إنه حدث، وأنا عم أبيه. فقال عمر ذلك لأبي الحسن (عليه السلام) فقال: افعل واحدة، أقعدني غداً قبله ثم انظر. فلما كان من الغد أحضر عمر أبا الحسن (عليه السلام)، فجلس في صدر المجلس، ثم أذن لزيد بن موسى فدخل، فجلس بين يدي أبي الحسن (عليه السلام). فلما كان يوم الخميس أذن لزيد بن موسى فجلس في صدر المجلس، ثم أذن لأبي الحسن (عليه السلام) فدخل. فلما رآه زيد قام من مجلسه وأقعده في مجلسه، وجلس بين يديه)) [20].
وذلك وغيره مما لم نذكره يشير إلى اضطرار السلطة وإحراجها في التعامل معهم (عليهم السلام) واحترامهم مع علمها برأيهم فيها.
وكل ذلك تحول مهم لصالح التشيع مؤذن بقوة هذه الدعوة الحقة على أرض الواقع، وسيرها بخطى ثابتة هادئة نحو الرقي والتقدم والتوسع والانتشار.
ويحسن بنا هنا أن نثبت ما رواه الشيخان المعظمان ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني والصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه (قدس سرهما) بأسانيدهما حديثاً عن أحمد بن عبد الله بن يحيى بن خاقان عن حال الإمام أبي محمد الحسن بن علي العسكري (صلوات الله عليه) قال الصدوق (قدس سره): ((فمما روي في صحة وفاة حسن بن علي بن محمد العسكري (عليه السلام) ما حدثنا به أبي، ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد(رضي الله عنهما) قالا: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا من حضر موت الحسن بن علي بن محمد العسكري (عليه السلام) ودفنه ممن لا يوقف على إحصاء عددهم، ولا يجوز على أمثالهم التواطئ.
وبعد فقد حضرنا في شعبان سنة ثمان وسبعين ومائتين - وذلك بعد مضي أبي محمد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) بثمانية عشرة سنة أو أكثر - مجلس أحمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وهو عامل السلطان يومئذ على الخراج والضياع بكورة قم، وكان من أنصب خلق الله وأشدهم عداوة لهم، فجرى ذكر المقيمين من آل أبي طالب بسر من رأى ومذاهبهم وصلاحهم وأقدارهم عند السلطان، فقال أحمد بن عبيد الله:
ما رأيت ولا عرفت بسر من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا (عليه السلام)، ولا سمعت به في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته والسلطان وجميع بني هاشم، وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر، وكذلك القواد والوزراء والكتاب وعوام الناس.
فإني كنت قائماً ذات يوم على رأس أبي وهو يوم مجلسه للناس إذ دخل علیه حجابه فقالوا له: إن ابن الرضا على الباب، فقال بصوت عال: ائذنوا له. فدخل رجل أسمر أعين حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، حدث السن، له جلالة وهيبة. فلما نظر إليه أبي قام فمشى إليه خطى، ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم ولا بالقواد ولا بأولياء العهد. فلما دنا منه عائقه وقبل وجهه ومنكبيه، وأخذ بيده فأجلسه على مصلاه الذي كان عليه، وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه، وجعل يكلمه ويكنيه ويفديه بنفسه وبأبويه. وأنا متعجب مما أرى منه.
إذ دخل عليه الحجاب فقالوا: الموفق قد جاء. وكان الموفق إذا جاء ودخل على أبي تقدم حجابه وخاصة قواده، فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سماطين إلى أن يدخل ويخرج.
فلم يزل أبي مقبلاً عليه يحدثه حتى نظر أبي إلى غلمان الخاصة، فقال حينئذ: إذا شئت فقم جعلني الله فداك يا أبا محمد.. ثم قال لغلمانه: خذوا به خلف السماطين، لئلا يراه الأمير، يعني الموفق. فقام وقام أبي فعانقه وقبل وجهه ومضى.
فقلت لحجاب أبي وغلمانه: ويلكم من هذا الذي فعل أبي به هذا الذي فعل؟ فقالوا: هذا رجل من العلوية يقال له الحسن بن علي يعرف يا ابن الرضا. فازددت تعجباً.
فلم أزل يومي ذلك قلقاً متفكراً في أمره وأمر أبي وما رأيت منه حتى كان الليل، وكانت عادته أن يصلي العتمة، ثم يجلس فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات وما يرفعه إلى السلطان.
فلما صلى وجلس جئت فجلست بين يديه، فقال: يا أحمد ألك حاجة؟ فقلت: نعم يا أبت إن أذنت سألتك عنها. فقال: قد أذنت لك يا بني، فقل ما أحببت. فقلت له: يا أبة من كان الرجل الذي أتاك بالغداة وفعلت به ما فعلت من الإجلال والإكرام والتبجيل، وفديته بنفسك وبأبويك؟ فقال: يا بني ذاك إمام الرافضة، ذاك ابن الرضا.
فسكت ساعة فقال: يا بني لو زالت الخلافة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا، فإن هذا استحقها في فضله وعفافه وهديه وصيانة نفسه وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه. ولو رأيت أباه لرأيت رجلاً جليلاً نبيلاً خيراً فاضلاً.
فازددت قلقاً وتفكراً وغيظاً على أبي مما سمعت منه فيه، ولم يكن لي همة بعد ذلك إلا السؤال عن خبره والبحث عن أمره. فما سألت عنه أحداً من بني هاشم ومن القواد والكتاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلا وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام والمحل الرفيع والقول الجميل، والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه وغيرهم. وكل يقول: هو إمام الرافضة. فعظم قدره عندي، إذ لم أر له ولياً ولا عدواً إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه.
فقال له بعض أهل المجلس من الأشعريين: يا أبا بكر فما خبر أخيه جعفر؟ فقال: ومن جعفر؟! فيسأل عن خبره أو يقرن به. إن جعفراً معلن بالفسق، ماجن، شريب للخمور، وأقل من رأيته من الرجال وأهتكهم لستره، مدمن خمار، قليل في نفسه، خفيف.
والله لقد ورد على السلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن بن علي (عليه السلام) ما تعجبت منه وما ظننت أنه يكون. وذلك أنه لما اعتل بعث إلى أبي أن ابن الرضا قد اعتل، فركب من ساعته مبادراً إلى دار الخلافة، ثم رجع مستعجلاً ومعه خمسة نفر من خدام أمير المؤمنين كلهم من ثقاته وخاصته، فمنهم نحرير، وأمرهم بلزوم دار الحسن بن علي (عليه السلام) وتعرف خبره وحاله، وبعث إلى نفر من المتطببين فأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده صباحاً ومساءً.
فلما كان بعد ذلك بيومين جاءه من أخبره أنه قد ضعف، فركب حتى بكر إليه فأمر المتطببين بلزومه، وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه، وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممن يوثق به في دينه وأمانته وورعه، فأحضرهم، فبعث بهم إلى دار الحسن (عليه السلام)، وأمرهم بلزوم داره ليلاً ونهاراً. فلم يزالوا هناك حتى توفي(عليه السلام) الأيام مضت من شهر ربيع الأول من سنة ستين ومائتين.
فصارت سر من رأى ضجة واحدة: مات ابن الرضا. وبعث السلطان إلى داره من يفتشها ويفتش حجرها، وختم على جميع ما فيها، وطلبوا أثر ولده، وجاؤوا بنساء يعرفن بالحبل، فدخلن على جواريه فنظرن إليهن فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حمل، فأمر بها فجعلت في حجرة ووكل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم.
ثم أخذوا بعد ذلك في تهيئته، وعطلت الأسواق، وركب أبي وبنو هاشم والقواد والكتاب وسائر الناس إلى جنازته (عليه السلام). فكانت سر من رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة.
فلما فرغوا من تهيئته بعث السلطان إلى أبي عيسى بن المتوكل، فأمره بالصلاة عليه، فلما وضعت الجنازة للصلاة دنا أبو عيسى منها فكشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم من العلوية والعباسية والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء والمعدلين، وقال: هذا الحسن بن علي بن محمد بن الرضا مات حتف أنفه على فراشه، حضره من خدام أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان، ومن المتطببين فلان وفلان، ومن القضاة فلان وفلان. ثم غطى وجهه، وقام فصلى عليه، وكبر عليه خمساً، وأمر بحمله فحمل من وسط داره ودفن في البيت الذي دفن فيه أبوه (عليهم السلام).
فلما دفن وتفرق الناس اضطرب السلطان وأصحابه في طلب ولده، وكثر التفتيش في المنازل. وتوقفوا على قسمة ميراثه، ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهموا عليها الحبل ملازمين لها سنتين وأكثر حتى تبين لهم بطلان الحبل، فقسم ميراثه بين أمه وأخيه جعفر. وادعت أمه وصيته، وثبت ذلك عند القاضي. والسلطان على ذلك يطلب أثر ولده.
فجاء جعفر بعد قسمة الميراث إلى أبي، وقال له: اجعل لي مرتبة أبي وأخي وأوصل إليك في كل سنة عشرين ألف دينار مسلمة. فزبره أبي وأسمعه، وقال له: يا أحمق إن السلطان أعزه الله جرد سيفه وسوطه في الذين زعموا أن أباك وأخاك أئمة ليردهم عن ذلك، فلم يقدر عليه ولم يتهيأ له صرفهم عن هذا القول فيهما. وجهد أن يزيل أباك وأخاك عن تلك المرتبة فلم يتهيأ له ذلك.
فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً فلا حاجة بك إلى السلطان يرتبك مراتبهم ولا غير السلطان. وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا.
واستقله عند ذلك واستضعفه، وأمر أن يحجب عنه. فلم يأذن له بالدخول عليه حتى مات أبي. وخرجنا والأمر على تلك الحال والسلطان يطلب أثر ولد الحسن بن علي (عليه السلام) حتى اليوم[21].
وقال الكليني: ((الحسين بن محمد الأشعري ومحمد بن يحيى وغيرهما قالوا: كان أحمد بن عبيد الله بن خاقان على الضياع والخراج بقم فجرى في مجلسه يوماً ذكر العلوية ومذاهبهم، وكان شديد النصب، فقال: ما رأيت ولا عرفت بسر من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا في هديه وسكونه وعفافه ونيله وكرمه عند أهل بيته وبني هاشم وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر. وكذلك القواد والوزراء وعامة الناس. فإني كنت قائماً ذات يوم على رأس أبي ...)) وساق الحديث كما تقدم بفارق قليل جداً[22].
ويناسب ذلك، بل يؤكده ما ذكره الجاحظ في رسالته (فضل هاشم على عبد شمس) قال: ((ومن الذين يعدّ من قريش أو من غيرهم ما يعدّ الطالبيون في نسق واحد، كل منهم عالم زاهد ناسك شجاع جواد طاهر زاك. فمنهم خلفاء، ومنهم مرشحون ابن ابن ابن، هكذا إلى عشرة. وهم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي. وهذا لم يتفق لبيت من بيوت العرب، ولا من العجم ...))[23].
هذا مع العلم بأن الجاحظ عثماني الهوى، وأنه توفي - حسبما ذكره المؤرخون - سنة ٢٥٥ للهجرة، وعمر الإمام أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام) ٢٢ سنة، وهي سنة تسنمه منصب الإمامة بعد وفاة أبيه الإمام أبي الحسن علي الهادي (عليه السلام). وكان هو وأبوه (عليهما السلام) محاصرين من قبل السلطة في سامراء.
حيث يكشف ذلك عن فرض أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) احترامهم وقدسيتهم على عموم المسلمين على اختلاف أهوائهم، وظهور رفعة مقامهم للجميع. ((قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ))، و((الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)).
١٢ - وبعد أن قطع التشيع هذه المراحل وثبتت دعائمه وقعت محنة الغيبة.
ولولا قوة التشيع نظرياً لقوة أدلته، وعمليا لفرضه على الواقع الإسلامي وانتشار قاعدته الشعبية وإصرارها، لما استطاع الصمود والاستمرار بعد الغيبة. ولكنه زاد قوة وانتشاراً ورفعة واحتراماً، حتى يومنا الحاضر.
والحديث عنه في هذه المرحلة طويل لا يسعنا. فعلاً الدخول فيه وفي تفاصيله، إلا أن الواقع المنظور كافٍ في استيضاحه.
وقد استفاد التشيع في جميع هذه المراحل من ضعف السلطة أو سهولة تعاملها في الفترات المتعاقبة، فزاد امتداداً وانتشاراً، وثباتاً وتجذراً.
كما أن ضغط السلطة عليه ومواجهتها له في الفترات المتعاقبة كثيراً ما يكون سبباً في رد الفعل المعاكس، وإثارة جذور العقيدة وفاعليتها في نفوس الشيعة، لتنفجر بعد ارتفاع الضغط، وتكون سبباً في قوة التشيع. وربما يأتي ما يناسب ذلك. والحمد لله رب العالمين.
[1] تاريخ اليعقوبي ج: ۲ ص: ۱۳ خبر سقيفة بني ساعدة وبيعة أبي بكر.
[2] الكافي ج: ٨ ص: ۲۳۷ رقم الحديث: ۳۱۹.
[3] رجال الكشي ص: ۲۰۹ رقم الترجمة: ١١٦، ۱۱۷، ۱۱۸.
[4] سير أعلام النبلاء ج: ۹ ص: ۳۸۷، ۳۸۸.
[5] سير أعلام النبلاء ج: ٩ ص: ۳۹۲.
[6] سير أعلام النبلاء ج: ۹ ص: ۳۸۸.
[7] إكمال الدين وإتمام النعمة ص: ٣٧. عيون أخبار الرضا ج: 1 ص: ۸۱ باب: ۸ حدیث: ٥.
[8] إكمال الدين وإتمام النعمة ص: ٣٧. عيون أخبار الرضا ج: 1 ص: ۸۱ باب: ۸ حدیث: ٥.
[9] عيون أخبار الرضا ج: ۲ ص ۲۲۷ باب: ٤٩ حدیث: ٣، ٤.
[10] في حديث له مع المغيرة بن شعبة.
[11] النهوف في قتلى الطفوف ص: ١٠٥. وقد تقدمت بقية مصادره عند الكلام في ابعاد فاجعة الطف من الفصل الأول من المقصد الأول.
[12] راجع ملحق رقم ٤ .
[13] سورة المجادلة الآية: ٢١.
[14] مقاتل الطالبيين ص: ٣٧٥. الإرشاد ج: ٢ ص: ٢٦١ . إعلام الورى ج ۲ ص: ۷۳.
[15] عيون أخبار الرضا ج: ١ ص: ١٥٨ . أماني الصدوق ص: ٧٥٨. روضة الواعظين ص: ۲۲۹.
[16] الإرشاد ج: ٢ ص: ٢٦٢، ٢٦٣ . واللفظ له. عيون أخبار الرضا ج: ٢ ص: ١٥٧. مقاتل الطالبيين ص: ۳۷۷. الفصول المهمة ج: ٢ ص: ١٠٠٧. وغيرها.
[17] الإرشاد ج: ٢ ص: ٢٦٢.
[18] كان ذلك في حدود سنة ١٣٩٥ للهجرة.
[19] الجدير بالذكر أن موقف المتوكل هذا كان يصاحبه احترام كبير داخل البيت العباسي لأهل البيت (صلوات الله عليهم) ولأئمتهم (عليهم السلام) وامتعاض شديد من بعض خواص المتوكل نفسه في موقفه المشين منهم.
فحينها مرض المتوكل من خراج به فأشرف على الموت لم يجسر أحد أن يمسه بحديدة، فنذرت أمه إن عوفي أن تحمل إلى الإمام أبي الحسن علي بن محمد الهادي (صلوات الله عليه) مالاً جليلاً من مالها .
وقال له الفتح بن خاقان: لو بعثت إلى هذا الرجل - يعني أبا الحسن (عليه السلام) - فسألته، فإنه ربما كان عنده صفة شيء يفرج الله به عنك. فقال: ابعثوا إليه.
فمضى الرسول ثم رجع، فقال: خذوا كسب الغنم فديفوه بماء ورد، وضعوه على الخراج، فإنه نافع بإذن الله. فجعل من بحضرة المتوكل يهزأ من قوله. فقال الفتح: وما يضر من تجربة ما قال؟ فوالله إني لأرجو الصلاح به. فأحضر الكسب وديف بماء الورد ووضع على الخراج فانفتح وخرج ما كان فيه. فسرت أم المتوكل بعافيته، فحملت إلى الإمام (عليه السلام) عشرة آلاف دينار تحت ختمها. الكافي ج ١ ص: ٤٩٩ باب مولد أبي الحسن علي بن محمد (عليهما السلام) حديث: ٦ . الإرشاد ج: ٢ ص: ٢٠٦ باب طرف من أخبار أبي الحسن علي بن محمد(عليهما السلام). وهناك شواهد أخر لا يسعنا استقصاؤها.
وذكر أبو الفرج الأصفهاني شدة وطأة المتوكل على الطالبيين، وأنه بلغ ما لم يبلغه أحد قبله من بني العباس، وأنه منع الناس من زيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام) وكرب قبره.
ثم قال: ((فحدثني أحمد بن الجعد الوشاء - وهو شاهد ذلك - قال: كان السبب في كرب قبر الحسين أن بعض المغنيات كانت تبعث بجواريها إليه قبل الخلافة يغنين له إذا شرب. فلما وليها بعث إلى تلك المغنية فعرف أنها غائبة، وكانت قد زارت قبر الحسين، وبلغها خبره فأسرعت الرجوع، وبعثت إليه بجارية من جواربها كان يألفها . فقال لها: أين كنتم؟ قالت: خرجت مولاتي إلى الحج وأخرجتنا معها، وكان ذلك في شعبان. فقال: إلى أين حججتم في شعبان؟ قالت: إلى قبر الحسين فاستطير غضباً، وأمر بمولاتها فاستصفى أملاكها، وبعث برجل من أصحابه يقال له الديزج - وكان يهوديا فأسلم - إلى قبر الحسين، وأمره بكرب قبره ومحوه وإخراب كل ما حوله فمضى لذلك...)). مقاتل الطالبيين ص: ٤٠٣ عند التعرض لأيام المتوكل.
ويبدو أن ذلك منه مع نصبه لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ونيله منه وفتكه بكل من يواليه، قد أحدث استياء عاماً منه، حتى قال ابن الأثير: ((فغطت هذه السيئة جميع حسناته)). الكامل في التاريخ ج: ٧ ص: ٥٦ في أحداث سنة ست وثلاثين ومائتين.
وكان على النقيض منه في ذلك ولده وولي عهده أبو جعفر أحمد بن جعفر المنتصر. وكان ينكر عليه نيله من أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وتوهينه له، حتى انتهى الأمر به إلى أن قتله.
قال الطبري: ((وذكر أن المنتصر كان قد شاور في قتل أبيه جماعة من الفقهاء، وأعلمهم بمذاهبه، وحكى عنه أموراً قبيحة كرهت ذكرها في الكتاب، فأشاروا عليه بقتله، فكان من أمره ما ذكرنا بعضه)). تاريخ الطبري ج: ٧ ص: ٤١٥ عند ذكر الخبر عن العلة التي كانت بها وفاة المنتصر والوقت الذي توفي فيه وقدر المدة التي كانت فيها حياته، واللفظ له. الكامل في التاريخ ج: ٧ ص: ١١٥ عند ذكر موت المنتصر .
وقال ابن الأثير بعد أن استعرض ما فعله المتوكل بقبر الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ونصبه لأمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام) ونيله منه واستخفافه به: ((فكان هذا من الأسباب التي استحل بها المنتصر قتل المتوكل)). الكامل في التاريخ ج: ٧ ص: ٥٦ أحداث سنة ست وثلاثين ومائتين. وذكر ما فعله المتوكل بقبر الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).
وروى الشيخ الطوسي (قدس سره) في أماليه عن ابن حشيش عن الفضل بن محمد بن عبد الحميد: أن المنتصر سمع أباه يشتم فاطمة (عليها السلام)، فسأل رجلاً من الناس عن ذلك، فقال له: قد وجب عليه القتل، إلا أن من قتل أباه لم يطل عمره. قال: ما أبالي إذا أطعت الله بقتله أن لا يطول عمري، فقتله، وعاش بعده سبعة أشهر. الأمالي ص: ۳۲۸ المجلس الحادي عشر حديث: ١٠٢.
ولما بويع المنتصر أحسن للطالبيين وبنى قبر الإمام الحسين (عليه السلام) على النقيض تماماً من سيرة أبيه. وبذلك يظهر أن موقف المتوكل في حينه كان نشزاً حتى بلحاظ البيت العباسي الحاكم، لتركز التشيع بمفاهيمه وممارساته وفرض احترام أهل البيت (صلوات الله عليهم) على الصعيد العام والخاص.
[20] إعلام الورى ج: ٢ ص: ١٢٥ الفصل الرابع في ذكر طرف من خصائصه وأخباره (عليه السلام). وروى نحوه عن ابن سهلويه ابن شهرآشوب في المناقب ج: ٤ ص: ٤١٠.
[21] إكمال الدين وإتمام النعمة ص: ٤٠ - ٤٤.
[22] الكافي ج: ۱ ص: ٥٠٣-٥٠٦ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام).
[23] آثار الجاحظ ص: ٢٣٥. واللفظ له. شرح نهج البلاغة ج: ١٥ ص: ۲۷۸ ذكره في نقل ما ذكره الجاحظ وغيره في حق بني هاشم.