وذلك هو المبرر المنطقي والتفسير الطبيعي لطول عصر غيبة الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) مع شدّة الفتن، وتظاهر الزمن، وتكالب الأعداء، وعنف الصراع وشراسته.
بينما كانت المدة بين رفع النبي عيسى على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام) وبعثة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) لا تتجاوز الستة قرون. وقد ضاعت فيها معالم الدين الحق الذي جاء به عيسى(عليه السلام)، وانطمست أعلامه، وانفردت بالساحة دعوة الانحراف والتحريف.
وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُل أَن تَقُولُواْ مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[1].
وعن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) أنه قال عن النبي: ((بعثه حين لا علم قائم، ولا منار ساطع، ولا منهج واضح))[2].
وقال(عليه السلام): ((أرسله بالدين المشهور والعلم المأثور ... والناس في فتن انجذم فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري اليقين... فالهدى خامل والعمى شامل. عصي الرحمن، ونصر الشيطان، وخذل الإيمان، فانهارت دعائمه، وتنكرت معالمه، ودرست سبله، وعفت شركه...))[3].
وقال(عليه السلام): ((إلى أن بعث الله سبحانه محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله) لإنجاز عدته و تمام نبوته... وأهل الارض يومئذ ملل متفرقة، وأهواء منتشرة، وطوائف متشتتة، بين مشبه لله بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشير إلى غيره...))[4]... إلى غير ذلك.
بينما قال (صلوات الله عليه) عن عصر الغيبة الذي نحن فيه: ((اللهم إنه لابد لك من حجج في أرضك، حجة بعد حجة على خلقك، يهدونهم إلى دينك، ويعلمونهم علمك، كيلا يتفرق أتباع أوليائك. ظاهر غير مطاع، أو مكتتم يترقب. إن غاب عن الناس شخصهم في حال هدنتهم فلم يغب عنهم قديم مبثوث علمهم، وآدابهم في قلوب المؤمنين مثبتة، فهم بها عاملون))[5].
وفي حديث المفضل بن عمر عن الإمام الصادق (عليه السلام): ((قال: أقرب ما يكون العباد من الله جلّ ذكره وأرضى ما يكون عنهم إذا افتقدوا حجة الله عزّ جلّ ولم يظهر لهم ولم يعلموا مكانه، وهم في ذلك يعلمون أنه لم تبطل حجة الله جلّ ذكره، ولا ميثاقه... وقد علم أن أولياءه لا يرتابون. ولو علم أنهم يرتابون ما غيّب حجته عنهم طرفة عين...))[6].
وفي حديثه الاخر: ((كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده في البيت أناس، فظننت أنه إنما أراد بذلك غيري، فقال: أما والله ليغيين عنكم صاحب هذا الأمر، وليخملن هذا، حتى يقال: مات؟ هلك؟ في أي وادٍ سلك؟. ولتكفأن كما تكفأ السفينة في أمواج البحر، لا ينجو إلا من أخذ الله ميثاقه، وكتب الإيمان في قلبه، وأيده بروح منه. ولترفعن اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يدري أي من أي. قال: فبكيت. فقال: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ فقلت: جعلت فداك كيف لا أبكي وأنت تقول: اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يدري أي من أي؟!. قال: وفي مجلسه كوة تدخل فيها الشمس. فقال: أبينة هذه؟ فقلت: نعم. قال: أمرنا أبين من هذه الشمس))[7]. وقريب منه حديثه الآخر[8].
حيث يظهر من هذه النصوص وغيرها ظهور دعوة الحق في عصر الغيبة، ووضوح حجتها، وثبات أهل التوفيق وذوي السعادة عليها، رغم طول المدة، وشدة المحنة، واختلاف الآراء والاجتهادات، وكثرة الشبهات والضلالات والفتن والأهواء.
وهو ما حصل حتى الآن في دعوة التشيع لاهل البيت (صلوات الله عليهم) رفع الله عز وجل شانها واعلى كلمتها.
والشيء الملفت للنظر أن أي ثقافة تجد لها موقعاً في المجتمعات المختلفة ويروج لها تتعرض لأمرين:
الأول: التحوير والتحريف بمرور الزمن حتى تمسح عن واقعها التنظيري حين طرحها.
الثاني: أنها قد تفرض احترامها في فترة من الزمن بما تملكه من قوة مادية وإعلامية ويرتفع شأنها، لكنها تأخذ تدريجياً في الضمور ويخفت وهجها بما يظهر فيها من السلبيات، حتى تتضاءل وتفقد احترامها وحيويتها، بل قد يصل الأمر بها إلى أن ترفض، ويقضى عليها.
أما هذه الدعوة الشريفة، فقد بقيت محافظة على واقعها التنظيري في الخط العام للتشيع من دون تحريف وتحوير في واقعها العقائدي والفقهي وممارساتها العملية ونشاطاتها المميزة لها.
وإذا حاولت بعض الاتجاهات التلاعب بها وحرفها عن مسارها، تبقى تلك الاتجاهات شاذة عن الخط العام، معزولة عنه، وربما تضمحل نتيجة انعزالها وإعراض الجمهور عنها ورفضهم لها.
كما أن هذه الدعوة لا زالت تفرض احترامها هذه المدة الطويلة، واعتزاز جمهورها بها وإصرارهم عليها، كما قال الله عز وجل: (ضَرَبَ الله مثلاً كلمةً طيبة كشجرةٍ طيبةٍ أصلها ثابت وفرعها في السَّماء * تُؤْتِي أكُلَهَا كُلَّ حينٍ بإذن ربها)[9].
وكلما تأخر الزمن زادت ظهوراً وانتشاراً، وفرضت نفسها على أرض الواقع، وكسبت تعاطف الناس وإعجابهم واحترامهم.
بل كثيراً ما اهتدى لنورها ودخل في حوزتها واستظل برايتها من كتب الله عز وجل له التوفيق والسعادة. ولله أمر هو بالغه، وإليه يرجع الأمر كله.
ومن جميع ما سبق يظهر أن الأئمة من ذرية الإمام الحسين (صلوات الله عليهم) قد أتموا ما بدأه الأئمة الأولون (عليهم أفضل الصلاة والسلام) من كبح جماح الانحراف الذي حصل، والعمل لإقامة الحجة على الدين الحق، والمنع من ضياعه على الناس، وانطماس أعلامه وبيناته (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ)[10].
فجزاهم الله تعالى جميعاً عن دينه وأهل دينه أفضل جزاء المحسنين. وثبتنا على ولايتهم، وربط على قلوبنا، وزادنا بصيرة في أمرنا، ويقيناً في ديننا، وتسليماً لربنا. إنه أرحم الراحمين، وولي المؤمنين. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
[1] سورة المائدة الآية: ۱۹.
[2] نهج البلاغة ج: ٢ ص: ۱۷۰.
[3] نهج البلاغة ج: ۱ ص: ۲۸ ۲۹
[4] نهج البلاغة ج: ١ ص: ٢٤ - ٢٥ .
[5] الكافي ج ۱ ص: ۳۳۹، واللفظ له. الغيبة للنعماني ص: ١٣٧.
[6] الكافي ج: 1 ص: ۳۳۳، واللفظ له. الغيبة للنعماني ص: ١٦٥.
[7] الكافي ج: ۱ ص: ۳۳۸-۳۳۹.
[8] الكافي ج: ١ ص: ٣٣٦.
[9] سورة ابراهيم الآية: ٢٤، ٢٥.
[10] سورة الانفال الآية: ٤٢.