وصية الإمام الصادق (عليه السلام) لعبد الله بن جندب

وصيّة الإمام الصادق (عليه السلام) لعبد اللَّه بن جُنْدَب في الحثّ على العبوديّة والتّحذير من الشّيطان:

يا عَبدَ اللَّهِ، لَقَد نَصَبَ إبليسُ حبائِلَهُ في دارِ الغُرورِ، فَما يَقصِدُ فيها إلّا أولياءَنا، وَلَقَد جَلَّتِ الآخِرَةُ في أعيُنِهِم حَتّى ما يُريدونَ بِها بَدَلًا.

ثمّ قال: آهٍ آهٍ، على قُلوبٍ حُشِيَت نوراً، وَإنّما كانَت الدُّنيا عِندَهُم بِمَنزِلَةِ الشُّجاعِ الأرقَمِ وَالعَدُوِّ الأعجَمِ، أنِسوا بِاللَّهِ وَاستَوحَشوا مِمّا بهِ استَأنَسَ المُترَفونَ، أُولئِكَ أوليائي حَقّاً، وَبِهِم تُكشَفُ كُلُّ فِتنَةٍ وَتُرفَعُ كُلُّ بَلِيَّةٍ.

يا ابنَ جُندَب، حَقٌّ على كُلِّ مُسلِمٍ يَعرِفُنا أن يَعرِضَ عَمَلَهُ في كُلِّ يَومٍ وَلَيلَةٍ على نَفسِهِ، فَيَكونُ مُحاسِبَ نَفسِهِ، فَإن رأى حَسَنَةً استَزادَ مِنها، وَإن رَأى سَيِّئَةً استَغفَرَ مِنها لِئلّا يَخزى يَومَ القِيامَةِ.

طوبى لِعَبدٍ لَم يَغبِطِ الخاطِئينَ على ما أُوتوا مِن نَعيمِ الدُّنيا وَزَهرَتِها.

طوبى لِعَبدٍ طَلَبَ الآخِرَةَ وَسَعى لَها.

طوبى لِمَن لَم تُلهِهِ الأمانِيُّ الكاذِبَةُ.

ثُمَّ قالَ (ع): رَحِمَ اللَّهُ قَوماً كانوا سِراجاً وَمَناراً، كانوا دُعاةً إلَينا بِأعمالِهِم وَمَجهودِ طاقَتِهِم، لَيسَ كَمَن يُذيعُ أسرارَنا.

يا ابنَ جُندَب إنَّما المُؤمِنونَ الّذينَ يَخافونَ اللَّهَ وَيُشفِقونَ أن يُسلَبوا ما أعطوا مِنَ الهُدى، فإذا ذَكَروا اللَّهَ وَنَعماءَهُ وَجِلوا وَأشفَقوا، وَإذا تُلِيتَ عَلَيهِم آياتُهُ زادَتُهم إيماناً مِمّا أظهَرَهُ مِن نَفاذِ قُدرَتِهِ، وَعلى رَبِّهِم يَتَوَكَّلونَ.

يا ابنَ جُندَب، قَديماً عَمَرَ الجَهلُ وَقَوِيَ أساسُهُ، وَذلِكَ لاتِّخاذِهِم دينَ اللَّهِ لَعِباً حَتّى لَقَد كانَ المُتَقَرِّبُ مِنهُم إلى اللَّهِ بعِلمِهِ يُريدُ سِواهُ، أُولئِكَ هُمُ الظّالِمونَ.

يا ابنَ جُندَب، لَو أن شيعَتَنا استَقاموا لَصافَحَتهُمُ المَلائِكَةُ، وَلَأظَّلَهُم الغَمامُ، وَلا شرَقوا نَهاراً، وَلَأكَلوا مِن فَوقِهِم وَمِن تَحتِ أرجُلِهِم، وَلَما سَألوا اللَّهَ شَيئاً إلّا أعطاهُم.

يا ابنَ جُنَدب، لا تَقُل في المُذنِبينَ مِن أهلِ دَعوَتِكُم إلّا خَيراً، وَاستَكينوا إلى اللَّهِ في تَوفيقِهِم وَسَلوا التّوبَةَ لَهُم، فَكُلُّ مَن قَصَدَنا وَوالانا، وَلَم يُوالِ عَدُوَّنا، وَقالَ ما يَعلَمُ، وَسَكَتَ عَمّا لا يَعلَمُ، أو أشكَلَ عَلَيهِ فَهُوَ فِي الجَنَّةِ.

يا ابنَ جُندَب، يَهلِكُ المُتَّكِلُ على عَمَلِهِ، وَلا يَنجو المُجتَرِئُ على الذُّنوبِ الواثِقُ بِرَحمَةِ اللَّهِ.

قُلتُ: فَمَن يَنجو؟

قال: الّذينَ هُم بينَ الرَّجاءِ وَالخَوفِ، كَأنّ قُلوبَهُم في مِخلَبِ طائِرٍ شَوقاً إلى الثَّوابِ وَخَوفاً مِنَ العَذابِ.

يا ابنَ جُندَب، مَن سَرَّهُ أن يُزَوِّجَهُ اللَّهُ الحورَ العينَ، وَيُتَوِّجَهُ بِالنّورِ فَليُدخِل على أخيهِ المُؤمِنِ السُّرورَ.

يا ابنَ جُندَب، أقِلَّ النَّومَ بِاللَّيلِ، وَالكَلامَ بِالنَّهارِ، فَما في الجَسَدِ شَيءٌ أقلَّ شُكراً من العَينِ وَاللِّسانِ، فَإنَّ أُمَّ سُلَيمانَ قالَت لِسُلَيمانَ (عليه السلام): يا بُنَيَّ، إيَّاكَ وَالنَّومَ، فَإنَّهُ يُفقِرُكَ يَومَ يَحتاجُ النّاسُ إلى أعمالِهِم.

يا ابنَ جُندَب، إنَّ لِلشَيطانِ مَصائِدَ يَصطادُ بِها فَتَحاموا شِباكَهُ وَمَصائِدَهُ.

قُلتُ: يا ابنَ رَسولِ اللَّهِ وَما هِيَ؟

قال: أمّا مَصائِدُهُ فَصَدٌّ عَن بِرِّ الإخوانِ، وَأمّا شِباكُهُ فَنَومٌ عَن قَضاءِ الصَّلواتِ الّتي فَرَضَها اللَّهُ، أما إنَّهُ ما يُعبَدُ اللَّهُ بِمِثلِ نَقلِ الأقدامِ إلى بِرِّ الإخوانِ وَزِيارَتِهِم. وَيلٌ لِلسّاهينَ عَنِ الصَّلواتِ، النّائِمينَ فِي الخَلَواتِ، المُستَهزِئينَ بِاللَّهِ وَآياتِهِ في الفَتَراتِ «أُولَئِكَ لَأخَلاقَ لَهُمْ فِي الْأَخِرَةِ وَلَا يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ . . . يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

يا ابنَ جُندَب، مَن أصبَحَ مَهموماً لسِوى فِكاكِ رَقَبَتِهِ فَقَد هَوَّنَ عَلَيهِ الجَليلَ، وَرَغِبَ من رَبِّهِ في الرِّبحِ الحَقيرِ، وَمَن غَشَّ أخاهُ وَحَقَّرَهُ وَناواهُ جَعَلَ اللَّهُ النّارَ مَأواهُ، وَمَن حَسَدَ مُؤمِناً انماثَ الإيمانُ في قَلبِهِ كَما يَنماثُ المِلحُ في الماءِ.

يا ابنَ جُندَب، الماشي في حاجَةِ أخيهِ كالسّاعي بَينَ الصَّفا وَالمَروَةِ، وَقاضي حاجَتِهِ كالمُتَشَحِّطِ بِدَمِهِ في سَبيلِ اللَّهِ يَومَ بَدرٍ وَأُحُدٍ، وَما عَذَّبَ اللَّهُ أُمَّةً إلّا عِندَ استِهانَتِهِم بِحُقوق فُقراءِ إخوانِهِم.

يا ابنَ جُندَب، بَلِّغ مَعاشِرَ شيعَتِنا وَقُل لَهُم: لا تَذهَبَنَّ بِكُمُ المَذاهِبُ، فَوَ اللَّهِ لا تُنالُ وَلايَتُنا إلّا بِالوَرَعِ وَالاجتِهادِ في الدُّنيا وَمُواساةِ الإخوانِ في اللَّهِ، وَلَيسَ مِن شيعَتِنا مَن يَظلِمُ النّاسَ.

يا ابنَ جُندَب، إنَّما شيعَتُنا يُعرَفونَ بِخِصالٍ شَتّى: بِالسَّخاءِ وَالبَذلِ لِلإخوانِ وَبِأن يُصَلّوا الخَمسينَ لَيلًا وَنَهاراً.

شيعَتُنا لا يَهِرُّونَ هَريرَ الكَلبِ، وَلا يَطمَعونَ طَمَعَ الغُرابِ، وَلا يُجاورِونَ لَنا عَدُوّاً وَلا يَسألونَ لَنا مُبغِضاً وَلَو ماتوا جوعاً.

شيعَتُنا لا يأكُلونَ الجِرّي، وَلا يَمسَحونَ عَلى الخُفَّينِ، وَيُحافِظونَ على الزَّوالِ ولا يَشرَبونَ مُسكِراً.

قُلتُ: جُعِلتُ فِداكَ فَأينَ أطلُبُهُم؟

قالَ (عليه السلام): على رُؤوس الجِبالِ وَأطرافِ المُدِنِ، وَإذا دَخَلتَ مَدينَةً فَسَل عَمَّن لا يُجاوِرُهُم وَلا يُجاوِرونَهُ، فَذلِكَ مُؤمِنٌ كما قالَ اللَّهُ: «وَجَآءَ رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى»، وَاللَّهِ لَقَد كانَ حَبيبُ النَّجّارُ وَحدَهُ.

يا ابنَ جُندَب، كُلُّ الذُّنوبِ مَغفورَةٌ سِوى عُقوقِ أهلِ دَعوَتِكَ. وَكُلُّ البِرِّ مَقبولٌ إلّا ما كانَ رِئاءً.

يا ابنَ جُندَب، أحبِب في اللَّهِ وَاستَمسِك بِالعُروَةِ الوُثقى، وَاعتَصِم بِالهُدى، يُقبَل عَمَلُكَ فَإنَّ اللَّهَ يَقولُ: «إلا مَنَ آمَن وَعَمِلَ صَلِحًا ثُمَّ اهْتَدَى» فَلا يُقبَلُ إلّا الإيمانُ، وَلا إيمانَ إلّا بِعَمَلٍ، وَلا عَمَلَ إلّا بِيَقينٍ، وَلا يَقينَ إلّا بِالخُشوعِ، وَمِلاكُها كُلِّها الهُدى، فَمَن اهتَدى يُقبَلُ عَمَلهُ وَصَعِدَ إلى المَلَكوتِ مُتَقَبَّلًا «وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

يا ابنَ جُندَب، إن أحبَبتَ أن تجاوِرَ الجَليلَ في دارِهِ وَتَسكُنَ الفِردَوسَ في جِوارِهِ فَلتَهُن عَلَيكَ الدُّنيا، وَاجعَل المَوتَ نُصبَ عَينِكَ، وَلا تَدَّخِر شَيئاً لِغَدٍ، وَاعلَم أنّ لَكَ ما قَدَّمتَ وَعَليكَ ما أخَّرتَ.

يا ابنَ جُندَب، مَن حَرَمَ نفسَهُ كَسبَهُ فإنَّما يَجمَعُ لِغَيرِهِ، وَمَن أطاعَ هَواهُ فَقَد أطاعَ عَدُوَّهُ، مَن يَثِقُ بِاللَّهِ يَكفِهِ ما أهَمَّهُ مِن أمرِ دُنياهُ وَآخِرَتِهِ، وَيَحفَظ لَهُ ما غابَ عَنهُ، وَقَد عَجَزَ مَن لَم يُعِدَّ لِكُلِّ بَلاءٍ صَبراً وَلِكُلِّ نِعمَةٍ شُكراً، وَلِكُلِّ عُسرٍ يُسراً.

[يا ابنَ جُندَب] صَبِّر نَفسَكَ عِندَ كُلِّ بَلِيَّةٍ في وَلَدٍ أو مالٍ أو رَزِيَّةٍ، فَإنَّما يَقبَضُ عارِيَتَهُ وَيَأخُذُ هِبَتَهُ، لِيَبلُوَ فيهِما صَبرَكَ وَشُكرَكَ. وَارجُ اللَّهَ رَجاءً لا يُجَرّئكَ على مَعصِيَتِهِ، وَخَفهُ خَوفاً لا يُؤيِسُكَ مِن رَحمَتِهِ، وَلا تَغتَرَّ بِقَولِ الجاهِلِ وَلا بِمَدحِهِ، فَتَكَبَّرُ وَتَجَبَّرُ وَتُعجَبُ بِعَمَلِكَ، فإنَّ أفضَلَ العَمَلِ العِبادَةُ وَالتَّواضُعُ.

[يا ابنَ جُندَب] فلا تُضَيِّع مالَكَ وَتُصلِح مالَ غَيرِكَ ما خَلَّفتَهُ وَراءَ ظَهرِكَ، وَاقنَع بِما قَسَمَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلا تَنظُر إلّا إلى ما عِندَكَ، وَلا تَتَمَنَّ ما لَستَ تَنالُهُ، فإنَّ مَن قَنَعَ شَبِعَ، وَمَن لَم يَقنَع لَم يَشبَع، وَخُذ حَظَّكَ مِن آخِرَتِكَ، وَلا تَكُن بَطِراً في الغِنى، وَلا جَزِعاً في الفَقرِ، وَلا تَكُن فَظّاً غَليظاً يَكرَهُ النّاسُ قُربَكَ وَلا تَكُن واهِناً يُحَقِّرُكَ مَن عَرَفَكَ، وَلا تُشارَّ مَن فَوقَكَ وَلا تَسخَر بِمَن هُوَ دونَكَ، وَلا تُنازِع الأمرَ أهلَهُ، وَلا تُطِع السُّفَهاءَ، وَلا تَكُن مَهيناً تَحتَ كُلِّ أحَدٍ، وَلا تَتَّكِلَنَّ على كِفايَةِ أحَدٍ، وَقِف عِندَ كُلِّ أمرٍ حَتّى تَعرِفَ مُدخَلَهُ مِن مَخرَجِهِ قَبلَ أن تَقَعَ فيهِ فَتَندَمَ.

[يا ابنَ جُندَب] وَاجعَل قَلبَكَ قَريباً تُشارِكُهُ، وَاجعَل عَمَلَكَ والِداً تتَّبِعُهُ، وَاجعَل نفسَكَ عَدُوّاً تُجاهِدُهُ وَعارِيَةً تَرُدُّها، فَإنَّكَ قَد جُعِلتَ طَبيبَ نَفسِكَ، وَعَرَفتَ آيَةَ الصِّحَةِ وَبُيِّنَ لَكَ الدّاءُ وَدُلِلتَ عَلى الدَّواءِ.

فَانظُر قيامَكَ على نَفسِكَ، وَإن كانَت لَكَ يَدٌ عِندَ إنسانٍ فَلا تُفسِدها بِكَثرَةِ المَنِّ وَالذّكرِ لَها، وَلكِن أتبِعها بأفضَلَ مِنها، فَإنّ ذلِكَ أجمَلُ بِكَ في أخلاقِكَ، وَأوجَبُ لِلثَّوابِ في آخِرَتِكَ.

وَعَلَيكَ بالِصَّمتِ تُعَدُّ حَليماً - جاهِلًا كُنتَ أو عالِماً - فإنَّ الصّمتَ زَينٌ لَكَ عِندَ العُلماءِ، وَسِترٌ لَكَ عِندَ الجُهّالِ.

يا ابنَ جُندَب، إنّ عيسى بنَ مَريَم (عليه السلام) قالَ لأصحابِهِ: أَرأيتُم لَو أنّ أحَدَكُم مَرَّ بِأخيهِ فَرَأى ثَوبَهُ قَدِ انكَشَفَ عَن بَعضِ عَورَتِهِ، أكانَ كاشِفاً عَنها كُلِّها أم يَرُدّ عَلَيها ما انكَشَفَ مِنها؟

قالوا: بَل نَرُدُّ عَلَيها.

قالَ: كَلّا، بَل تَكشِفونَ عَنها كُلِّها - فَعَرفوا أنَّهُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ لَهُم.

فَقيلَ: يا روحَ اللَّهِ وَكَيفَ ذلِكَ؟

قالَ: الرَّجُلُ مِنكُم يَطَّلِعُ على العَورَةِ مِن أخيهِ فَلا يَستُرُها، بِحَقٍّ أقولُ لَكُم إنَّكُم لا تُصيبونَ ما تُريدونَ إلّا بِتَرِكِ ما تَشتَهونَ، وَلا تَنالونَ ما تَأملونَ إلّا بِالصَّبرِ عَلى ما تَكرَهونَ، إيّاكُم وَالنَّظرَةَ فإنَّها تَزرَعُ في القَلبِ الشَّهوَةَ، وَكَفى بِها لِصاحِبِها فِتنَةً، طوبى لِمَن جَعَل بَصَرَهُ في قَلبِهِ، وَلَم يَجعَل بَصَرَه في عَينِهِ، لا تَنظُروا في عُيوبِ النّاسِ كَالأربابِ، وَانظُروا في عُيوبِكُم كَهَيئَةِ العَبيدِ، إنَّما النّاسُ رَجُلانِ: مُبتَلىً وَمُعافىً، فارحَموا المُبتَلى وَاحمِدوا اللَّهَ عَلى العافِيَةِ.

يا ابنَ جُندَب، صِل مَن قَطَعَكَ، وَأعطِ مَن حَرَمَكَ، وَأحسِن إلى مَن أساءَ إلَيكَ، وَسَلِّم على مَن سَبَّكَ، وَأنصِف مَن خاصَمَكَ وَاعفُ عَمَّن ظَلَمَكَ، كَما أنَّكَ تُحِبُّ أن يُعفى عَنكَ، فَاعتَبِر بِعَفوِ اللَّهِ عَنكَ، ألا تَرى أنَّ شَمسَهُ أشرَقَت على الأبرارِ وَالفُجّارِ، وَأنَّ مَطَرَهُ يَنزِلُ على الصّالِحينَ وَالخاطِئينَ.

يا ابنَ جُندَب، لا تَتَصَدَّق على أعيُنِ النّاسِ لِيُزَكّوكَ، فَإنَّكَ إن فَعَلتَ ذلِكَ فَقَد استَوفَيتَ أجرَكَ، وَلكِن إذا أعطَيتَ بِيَمينِكَ فَلا تُطلِع عَلَيها شِمالَكَ، فإنّ الّذي تَتَصَدَّقُ لَهُ سِرّاً يَجزيكَ عَلانِيَةً على رُؤوسِ الأشهادِ في اليَومِ الّذي لا يَضُرُّكَ أن لا يَطَّلِعَ النَّاسُ على صَدَقَتِكَ، وَاخفِض الصَّوتَ، إنّ رَبَّكَ الّذي يَعلَمُ ما تُسِرّونَ وَما تُعلِنونَ، قَد عَلِمَ ما تُريدونَ قَبل أن تَسألوهُ، وَإذا صُمتَ فَلا تَغتَب أحَداً، وَلا تُلبِسوا صيامَكُم بِظُلمٍ، وَلا تَكُن كالّذي يَصومُ رِئاءَ النّاسِ، مُغبَرَّةً وُجوهُهُم، شَعِثَةً رُؤوسُهُم، يابِسَةً أفواهُهُم لِكي يَعلَمَ النّاسُ أنَّهُم صيامٌ.

يا ابنَ جُندَب، الخَيرُ كُلُّه أمامَكَ، وَإنّ الشَّرَّ كُلَّه أمامَكَ، وَلَن تَرى الخَيرَ وَالشَّرَّ إلّا بَعدَ الآخِرَةِ، لأنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ جَعَلَ الخَيرَ كُلَّهُ في الجَنَّةِ وَالشَّرَّ كُلَّهُ في النَّارِ، لِأنَّهُما الباقِيانِ.

وَالواجِبُ على مَن وَهَبَ اللَّهُ لَهُ الهُدى وَأكرَمَهُ بِالإيمانِ، وَألهَمَهُ رُشدَهُ، وَرَكّبَ فيهِ عَقلًا يَتَعَرَّفُ بهِ نِعمَهُ، وَآتاهُ عِلماً وَحُكماً، يُدَبِّرُ بهِ أمرَ دينِهِ وَدُنياهُ أن يُوجِبَ على نَفسِهِ أن يَشكُرَ اللَّهَ وَلا يَكفُرَهُ، وَأن يَذكُرَ اللَّهَ وَلا يَنساهُ، وَأن يُطيعَ اللَّهَ وَلا يَعصِيَهُ، لِلقَديمِ الّذي تَفَرَّدَ لَهُ بِحُسنِ النَّظَرِ، وَلِلحَديثِ الّذي أنعَمَ عَلَيهِ بَعدَ إذ أنشَأهُ مَخلوقاً، وَلِلجَزيلِ الّذي وَعَدَهُ، وَالفَضلِ الّذي لَم يُكَلِّفهُ مِن طاعَتِهِ فَوقَ طاقَتِهِ، وَما يَعجِزُ عَن القِيامِ بِهِ، وَضَمِنَ لَهُ العَونَ على تَيسيرِ ما حَمَلَهُ مِن ذلِكَ، وَنَدبَهُ إلى الاستِعانَةِ على قَليلِ ما كَلَّفَهُ، وَهُوَ مُعرِضٌ عَمّا أمَرَهُ، وَعاجِزٌ عَنهُ، قَد لَبِسَ ثَوبَ الاستِهانَةِ فيما بَينَهُ وَبَينَ رَبِّهِ، مُتَقَلِّداً لِهَواهُ، ماضِياً في شَهواتِهِ ، مُؤثِراً لِدُنياهُ على آخِرَتِهِ، وَهُو في ذلِكَ يَتَمنّى جِنانَ الفِردَوسِ، وَما يَنبَغي لِأحَدٍ أن يَطمَعَ أن يَنزِلَ بِعَمَلِ الفُجَّارِ مَنازِلَ الأبرارِ.

أما إنَّهُ لَو وَقَعَت الواقِعَةُ، وَقامَتِ القيامَةُ، وَجاءَ تِ الطّامَّةُ، وَنَصَبَ الجَبَّارُ المَوازينَ لِفَصلِ القَضاءِ وَبَرَز الخَلائِقُ لِيَوم الحِسابِ، أيقَنتَ عِندَ ذلِكَ لِمَن تَكونُ الرِّفعَةُ وَالكَرامَةُ؟ وَبِمَن تَحِلُّ الحَسرَةُ وَالنَّدامَةُ؛ فاعمَل اليَومَ في الدُّنيا بِما تَرجو بِهِ الفَوزَ في الآخِرَةِ.

يا ابنَ جُندَب، قالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ في بَعضِ ما أوحى: إنَّما أقبَلُ الصَّلاةَ مِمَّن يَتَواضَعُ لِعَظَمتي، وَيَكُفُّ نَفسَهُ عَنِ الشَّهواتِ مِن أجلي، وَيَقطَعُ نَهارَهُ بِذكري، وَلا يَتَعَظّمُ على خَلقي، وَيُطعِمُ الجائِعَ، وَيَكسو العارِيَ، وَيَرحَمُ المُصابَ، وَيُؤوي الغَريبَ، فَذلِكَ يُشرِقُ نورُهُ مِثلَ الشَّمسِ، أجعَلُ لَهُ في الظُّلمَةِ نوراً، وَفي الجَهالَةِ حِلماً، أكلؤهُ بِعِزّتي، وَأستَحفِظُهُ مَلائِكَتي، يَدعوني فَأُلبِّيَهُ وَيَسألنُي فَاعطِيَهُ، فَمِثلُ ذلِكَ العَبدِ عِندي كَمَثَلِ جَنّاتِ الفِردَوسِ لا يُسبَقُ أثمارُها، وَلا تَتَغَيَّرُ عَن حالِها.

يا ابنَ جُندَب، الإسلامُ عُريانٌ فَلِباسُهُ الحَياءُ، وَزينَتُهُ الوَقارُ، وَمُروءَ تُهُ العَمَلُ الصّالِحُ، وَعِمادُهُ الوَرَعُ، وَلِكُلِّ شَيءٍ أساسٌ، وَأساسُ الإسلامِ حُبُّنا أهلَ البَيتِ.

يا ابنَ جُندَب، إنَّ للَّهِ تَبارَكَ وَتَعالى سوراً مِن نورٍ، مَحفوفاً بِالزَّبَرجَدِ وَالحَريرِ، مُنَجَّداً بِالسُّندُسِ وَالدّيباجِ، يُضرب هذا السّورُ بَينَ أوليائِنا وَبَينَ أعدائِنا، فَإذا غَلى الدِّماغُ، وَبَلغَتِ القُلوبُ الحَناجِرَ وَنَضِجَتِ الأكبادُ مِن طولِ المَوقِفِ ادخِلَ في هذا السّورِ أولياءُ اللَّهِ، فَكانوا في أمنِ اللَّهِ وَحِرزِهِ، لَهُم فيها ما تَشتَهي الأنفُسُ وَتَلَذُّ الأعيُنُ.

وَأعداءُ اللَّهِ قَد ألجَمَهُم العَرَقُ وَقَطَعَهُمُ الفَرَقُ وَهُم يَنظُرونَ إلى ما أعَدَّ اللَّهُ لَهُم، فَيَقولونَ: «مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مّنَ الْأَشْرَارِ» فَيَنظُرُ إلَيهِم أولياءُ اللَّهِ فَيَضحَكونَ مِنهُم، فذلِكَ قَولُهُ عز وجل: «أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ »، وَقَولُهُ: «فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ* عَلَى الْأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ»، فَلا يَبقى أحَدٌ مِمَّن أعانَ مُؤمِناً مِن أوليائِنا بِكَلِمَةٍ إلّا أدخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسابٍ .

المصدر: الوافي: ج26، ص273.