الخامس: التركيز على الارتباط بالله عز وجل، وعلى تحري رضاه بلزوم طاعته وتجنب معصيته، والاخلاص له، والرجاء لثوابه، والخوف من عقابه وحسن الظن به، والتوكل عليه، والتسليم له، والرضا بقضائه، والصبر على محنته وبلائه، واللجأ له، وطلب الحوائج منه... إلى غير ذلك من شؤون الارتباط به تعالى وتوثيق العلاقة معه.
وقد سبق أن ذلك كان معروفاً عن شيعة أهل البيت في الأجيال الأولى[1]، وذلك مما يعين على تركيزه في الأجيال اللاحقة، حيث يصير بمرور الزمن سمة شرف مميزة للكيان الشيعي تحملهم على التحلي به.
والأهم من ذلك أن الأئمة من أهل البيت (صلوات الله عليهم) الذين هم أئمة الشيعة وقدوتهم، في المرتبة العليا من الدين والإخلاص والواقعية والفناء في ذات الله عز وجل، وفي التأكيد على الالتزام بأحكامه وتعاليمه والدعوة لذلك بسلوكهم الرفيع، وأحاديثهم الشريفة، ومواعظهم الشافية.
وقد سلك الأئمة ( صلوات الله عليهم) في التركيز على هذه الأمور الثلاثة - التي لها أعظم الأهمية من الناحيتين العقائدية والعملية - طريقين:
التركيز على الأمور المذكورة في أحاديثهم (عليهم السلام)
أحدهما: بيان المضامين المذكورة وشرحها وتوضيحها في أحاديثهم الخاصة مع شيعتهم، كتراث محفوظ في الكتب، يرجع إليه من يريد التعرف على ثقافتهم (عليهم السلام)، والاطلاع على تعاليمهم الشريفة. ويدعمه في ذلك كثير من التراث الثقافي والتاريخي لعموم المسلمين.
وقد أكثروا (عليهم السلام) من ذلك على اختلاف أنحاء البيان في الإجمال والتفصيل، حسب اختلاف المقامات والمناسبات. كما يشهد بذلك الرجوع إلى تراثهم القيم، الذي حفظه وتوارثه علماء شيعتهم وحملة ثقافتهم جيلاً بعد جيل.
وبذلك تدعم الدعاوى العريضة التي يدعيها الشيعة في أهل البيت (صلوات الله عليهم) وفي خصومهم، وعليها يبتني التولي والتبري والتدين، التي يظهر بوضوح في كيان الشيعة الثقافي والعملي.
التركيز على الأمور المتقدمة في الأدعية والزيارات
ثانيهما: الأدعية والزيارات الكثيرة في المناسبات المختلفة. وقد كان لها الأهمية الكبرى في تركيز هذه الأمور...
أولاً: لما تتميز به من بيان فريد في الفصاحة والبلاغة، ورفعة المستوى، ورصانة الأسلوب، وقوة العرض، وجمال الطرح، مع علوّ المضمون وشرفه، وأصالته وارتكازيته.
ولذلك أعظم الأثر في أن تأخذ موقعها من القلوب وتترك أثرها في النفوس، فتتقبلها وتتفاعل بها وتبخع لها.
وثانياً: لأن من يؤدي وظيفة قراءتها ويقوم بهذا الشعار يتحول إلى عالم روحاني شريف، وجوّ عرفاني قدسي، حيث يخاطب الله جل جلاله بالدعاء، ويتضرع بين يديه، ويخاطب رموزه المقدسة بالزيارات في المناسبات الشريفة المختلفة، ويؤدي فروض الاحترام والتبجيل لها. وذلك أحرى بأن يحمل على الإيمان بتلك المضامين، والتفاعل بها.
وثالثاً: لأن أداء تلك الوظائف والقيام بتلك الشعائر لا يختص بفئة خاصة دون فئة، كأهل العلم مثلاً دون غيرهم، بل يشترك فيه جميع الشيعة الموالين لأهل البيت (صلوات الله عليهم)، على اختلاف طبقاتهم.
ولا سيما مع كثرة المناسبات المذكّرة بهذه الأمور، وتكررها على مدار السنة، بل قد يتكرر بعضها في كل يوم - كالتعقيب للصلوات المفروضة - أو على مدار الاسبوع، أو الشهر.
مضافاً إلى أهمية كثير من هذه المناسبات حتى صارت مواسم عامة يجتمع فيها الحشود الكبيرة والجموع الغفيرة. والى كثرة مراقدهم (صلوات الله عليهم) ومشاهدهم الشريفة، ومشاهد من يتعلق بهم وينسب إليهم ممن يقصده الشيعة بالزيارة. بالإضافة إلى بعض المساجد المعظمة التي يقصدها الشيعة ويؤدون فيها مراسم العبودية لله عز وجل.
وكان لذلك أعظم الأثر في تعميم هذه الثقافة في المجتمع الشيعي وتركيزها على الصعيد العام، بحيث صارت هذه الأمور من الملامح المميزة للكيان الشيعي العام، والسمات الظاهرة فيه، رغم كل المعوقات والمثبطات.
[1] تقدم عند الكلام في محاذير بيعة الإمام الحسين (عليه السلام) ليزيد، وأن موقف الشيعة من الأولين يحول دون تفاعل الجمهور معهم.