بعد أن كان الإمام أعرف الناس بالله وأقواهم بصيرةً به، فلا بدّ أن يكون أكثرهم تسليماً لأمره، فيرتضي ما به رضاه، ويحبّ ما أحبّه له، ويتجسّد لنا هذا التسليم الواقعي فيما يحدّثنا به الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَهْزِيَارَ عَنْ قُتَيْبَةَ الأَعْشَى قَالَ: (أَتَيْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) أَعُودُ ابْناً لَه، فَوَجَدْتُه عَلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُهْتَمٌّ حَزِينٌ فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ كَيْفَ الصَّبِيُّ؟ فَقَالَ(عليه السلام): والله إِنَّه لِمَا بِه -هذا كناية عن احتضاره وإشرافه على الموت- ثُمَّ دَخَلَ فَمَكَثَ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا وقَدْ أَسْفَرَ وَجْهُه وذَهَبَ التَّغَيُّرُ والْحُزْنُ، قَالَ: فَطَمِعْتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَلَحَ الصَّبِيُّ فَقُلْتُ: كَيْفَ الصَّبِيُّ جُعِلْتُ فِدَاكَ؟ فَقَالَ(عليه السلام): وقَدْ مَضَى لِسَبِيلِه، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ لَقَدْ كُنْتَ وهُوَ حَيٌّ مُهْتَمّاً حَزِيناً وقَدْ رَأَيْتُ حَالَكَ السَّاعَةَ وقَدْ مَاتَ غَيْرَ تِلْكَ الْحَالِ فَكَيْفَ هَذَا؟ فَقَالَ(عليه السلام): إِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّمَا نَجْزَعُ قَبْلَ الْمُصِيبَةِ فَإِذَا وَقَعَ أَمْرُ الله رَضِينَا بِقَضَائِه وسَلَّمْنَا لأَمْرِه)[1].
ويروى (أنه كان للأمام الصادق (عليه السلام) ابنٌ، فبينا هو يمشي بين يديه إذ غصّ فمات، فبكى وقال(عليه السلام): «لئن أخذتَ لقد أبقيتَ، ولئن ابتليتَ لقد عافيت.. » ثم حُمل إلى النساء، فلما رأينه صرخن، فأقسم عليهن أن لا يصرخن، فلما أخرجه للدفن قال(عليه السلام): «سبحان من يقتل أولادنا ولا نزداد له إلا حبّا»، فلما دفنه قال(عليه السلام):
«يا بني !.. وسّع الله في ضريحك، وجمع بينك وبين نبيك..»، وقال(عليه السلام): «إنّا قوم نسأل الله ما نحب فيمن نحب فيعطينا، فإذا أحب ما نكره فيمن نحب رضينا» [2].
وعَنْ العَلَاءِ بْنِ كَامِلٍ قَالَ: (كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله(عليه السلام) فَصَرَخَتْ صَارِخَةٌ مِنَ الدَّارِ فَقَامَ أَبُو عَبْدِ الله(عليه السلام) ثُمَّ جَلَسَ فَاسْتَرْجَعَ وعَادَ فِي حَدِيثِه حَتَّى فَرَغَ مِنْه ثُمَّ قَالَ(عليه السلام): إِنَّا لَنُحِبُّ أَنْ نُعَافَى فِي أَنْفُسِنَا وأَوْلَادِنَا وأَمْوَالِنَا فَإِذَا وَقَعَ الْقَضَاءُ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُحِبَّ مَا لَمْ يُحِبَّ الله لَنَا)[3].
بهذه الكلمات الصافية... يحدّد لنا الإمام(عليه السلام) عمق الإيمان وأصالة المعرفة، اللذين يمثّلان الامتياز الفريد الذي يتميّز به الواقع الروحي للأئمة من أهل البيت(عليهم السلام)...
ولا ينافي تسليمهم لأمر الله ما جرت عليه سيرتهم من إظهار الأسى والحزن بالنسبة لمأساة الإمام الحسين(عليه السلام) وما جرى عليه وعلى أهل بيته وأنصاره في واقعة الطف بكربلاء وتأكيدهم على الآخرين بإحياء ذكرى تلك المأساة في كلّ سنة، إذ الباعث على ذلك لهم ليس هو ثقل المصاب فحسب، بل الحرص على إبقاء الهدف الذي من أجله استشهد الإمام الحسين(عليه السلام) والخيرة الطيّبة من أهل بيته وأنصاره، حيّاً في ضمير الأُمّة، تعيشه كرمز للرفض المستمرّ ضدّ الطغيان والاستبداد، والانتهاكات الظالمة، التي يمارسها الحاكمون الغرباء عن واقع الرسالة، والحاقدون عليها.