أحدهما: زيارة الإمام الحسين (صلوات الله عليه). ومنها انطلقوا لزيارة جميع المعصومين (صلوات الله عليهم)، وزيارة كثير من ابنائهم والابرار من اوليائهم، مذكرين بأحاديث للنبي (صلى الله عليه وآله) في ذلك.
مع تأكيد مكثف منهم (عليهم السلام) على ذلك لا يسعنا استقصاؤه. إلا أنه يحسن بنا أن نثبت حديثاً واحداً يتضمن جوانب مثيرة وملفتة للنظر.
حديث معاوية بن وهب
فقد روي بطرق كثيرة عن معاوية بن وهب قال: استأذنت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقيل لي: ادخل. فدخلت فوجدته في مصلاه في بيته، فجلست حتى قضى صلاته، فسمعته وهو يناجي ربه، وهو يقول:
اللهم يا من خصنا بالكرامة، ووعدنا بالشفاعة، وخصنا بالوصية، وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي، وجعل افئدة من الناس تهوي إلينا.
اغفر لي ولإخواني وزوّار قبر أبي عبد الله الحسين، الذين أنفقوا أموالهم، وأشخصوا أبدانهم، رغبة في برّنا، ورجاءً لما عندك في صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيك، وإجابة منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدونا، أرادوا بذلك رضوانك.
فكافِهم عنّا بالرضوان، واكلأهم بالليل والنهار، واخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلفوا بأحسن الخلف، واصحبهم. واكفهم شرّ كل جبار عنيد، وكل ضعيف من خلقك وشديد، وشرّ شياطين الإنس والجن.
وأعطهم أفضل ما أملوا منك في غربتهم عن أوطانهم، وما آثرونا به على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم.
اللهم إن أعداءنا عابوا عليهم بخروجهم، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا، خلافاً منهم على من خالفنا.
فارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تتقلب على حفرة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا.
اللهم إني استودعك تلك الابدان وتلك الانفس حتى توافيهم [ترويهم] من الحوض يوم العطش [الأكبر].
فمازال يدعو وهو ساجد بهذا الدعاء. فلما انصرف قلت: جعلت فداك، لو أن هذا الذي سمعت منك كان لمن لا يعرف الله عز وجل لظننت أن النار لا تطعم منه شيئاً أبداً. والله لقد تمنيت أني كنت زرته ولم أحج. فقال لي: ما أقربك منه، فما الذي يمنعك من زيارته؟.
ثم قال لي: يا معاوية ولِمَ تدع ذلك؟ قلت: جعلت فداك لم أدر أن الأمر يبلغ هذا كله. فقال: يا معاوية من يدعو لزواره في السماء أكثر ممن يدعو لهم في الأرض))[1].
ويبدو أن الشيعة أو عموم المسلمين اندفعوا لذلك من اليوم الأول بصورة مكثفة، وكأنهم كانوا مهيئين إلى أنه إذا قتل الإمام الحسين (صلوات الله عليه) فينبغي أن يزار، ويحيى ذكره.
فقد ورد أن الإمام زين العابدين (صلوات الله عليه) حينما رجع بالعائلة الثاكلة من الشام إلى المدينة المنورة طلبوا من الدليل أن يمر بهم على كربلاء، فوصلوا إلى مصرع الإمام الحسين (عليه السلام)، فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجماعة من بني هاشم ورجالاً من آل رسول الله(صلى الله عليه وآله)، قد وردوا لزيارة قبر الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، فتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم وأقاموا في كربلاء ينوحون على الإمام الحسين(عليه السلام)[2].
كما روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه جاء لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) وقام بالزيارة بآدابها على نحو ما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) في مراسيم زيارته (صلوات الله عليه)[3]، وأنه أول من زار الإمام الحسين(عليه السلام)[4].
وعن نوادر علي بن اسباط عن غير واحد قال: ((لما بلغ أهل البلدان ما كان من أبي عبد الله (عليه السلام) قدمت لزيارته مائة الف امرأة ممن كانت لا تلد، فولدن كلهن))[5].
تحقيق الوعد الإلهي ببقاء قبره الشريف علماً للمؤمنين
وكأن ذلك تحقيق للوعد الإلهي الذي تضمنته النصوص الكثيرة.
ومنها ما عن عقيلة بني هاشم زينب الكبرى (عليها السلام)، بنت الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، حين مرّوا بهم على الإمام الحسين واهل بيته وصحبه (صلوات الله عليهم)، وهم مضرجون بدمائهم مرملون بالعراء، فضاق صدر الإمام زين العابدين (عليه السلام) مما رأى، فاخذت تسليه وقالت له: (( لا يجزعنك ما ترى. فوالله ان ذلك لعهد من رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى جدك وابيك وعمك . ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأمة، وهم معروفون في أهل السماوات، أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة. وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام. وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلا ظهوراً، وأمره إلا علّواً)).
ولما سألها الإمام زين العابدين (عليه السلام) عما تعرفه من هذا العهد المعهود حدثته بحديث أم أيمن الطويل، وفيه يقول جبرئيل (عليه السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله): ((ثم يبعث الله قوماً من أمتك لا يعرفهم الكفار لم يشركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولانية، فيوارون أجسامهم، ويقيمون رسماً لقبر سيد الشهداء بتلك البطحاء يكون علماً لأهل الحق وسبباً للمؤمنين إلى الفوز ... وسيجدّ أناس حقّت عليهم من الله اللعنة والسخط أن يعفوا رسم ذلك القبر ويمحوا أثره، فلا يجعل الله تبارك وتعالى لهم إلى ذلك سبيلاً))[6].
وعلى كل حال فقد استمر شيعة أهل البيت (عليهم السلام) على ذلك حتى صار في فترة قصيرة شعاراً لهم معروفاً عنهم يمتازون به عن غيرهم.
تجديد الذكرى بمرور السنة
ثانيهما: تجديد الذكرى بتعاقب السنين، بحيث يكون وقت الفاجعة من السنة موسماً سنوياً يتجدد فيه الأسى والحسرة ومظاهر الحزن ونحو ذلك مما يناسب الذكرى الأليمة.
فقد ورد عنهم (عليهم السلام) التأكيد على اتخاذ يوم عاشوراء يوم مصيبة وحزن وبكاء، مع التعطيل فيه، وعدم السعي لما يتعلق بأمر الدنيا.
ففي حديث ابراهيم بن أبي محمود قال: قال الرضا (عليه السلام): إن المحرم شهر كان أهل الجاهلية يحرمون فيه القتال، فاستحلت فيه دماؤنا، وهتكت فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا. ولم ترع لرسول الله (صلى الله عليه وىله) حرمة في أمرنا .
إن يوم الحسين اقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذل عزيزنا. بأرض كرب وبلاء. أورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء. فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإن البكاء يحط الذنوب العظام.
ثم قال (عليه السلام): كان أبي (صلوات الله عليه) إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام. فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين (صلوات الله عليه) ))[7].
وفي حديث الحسن بن علي بن فضال عنه (عليه السلام): ((قال: من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة. ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه جعل الله عز وجل يوم القيامة يوم فرحه و سروره، وقرت بنا في الجنان عينه.
ومن سمى يوم عاشوراء يوم بركة وادخر فيه لمنزله شيئاً لم يبارك له فيما ادخر، وحشر يوم القيامة مع يزيد وعبيد الله بن زياد وعمر بن سعد (لعنهم الله) إلى أسفل درك من النار))[8]... إلى غير ذلك مما ورد عنهم (صلوات الله عليهم) .
وذلك لم يكن معروفاً قبل حادثة الطف إلا ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام) في ذكرى يوم الغدير[9]. لكنه لم يأخذ موقعه المناسب عند الشيعة بسبب الانتكاسة والمحن التي مني بها التشيع بقتل أمير المؤمنين (عليه السلام) حتى جدده الأئمة من ولده (صلوات الله عليهم) من قام للشيعة كيان ظاهر بعد فاجعة الطف، وتوجهوا (عليهم السلام) لتثقيف شيعتهم ونظم أمرهم.
وقد فتح ذلك الباب لتجديد الذكرى السنوية في جميع المناسبات المتعلقة بالدين والمذهب في الأحزان والأفراح.
[1] کامل الزیارات ص: ۲۲۸ - ۲۲۹، واللفظ له. الكافي ج: ٤ ص: ٥٨٢-٥٨٣ . ثواب الاعمال ص: ٩٥ . بحار الأنوار ج: ۹۸ ص: 8 -9.
[2] اللهوف في قتلى الطفوف ص: ١١٤ . بحار الأنوار ج: ٤٥ ص: ١٤٦.
[3] بحار الأنوار ج: ٦٥ ص: ۱۳۰ - ۱۳۱ - بشارة المصطفى ص: ١٢٥ - ١٢٦. مقتل الحسين للخوارزمي ج: ٢ ص: ١٦٧- ١٦٨ .
[4] مصباح المتهجد ص: ۷۸۷. مسار الشيعة ص: ٤٦.
[5] بحار الأنوارج: ٤٥ ص: ٢٠٠.
[6] راجع ملحق رقم (٦).
[7] الأماني للصدوق ص: ۱۹۰، واللفظ له. إقبال الأعمال ج: ٣ ص: ٢٨. بحار الأنوار ج: ٤٤ ص: ٢٨٣-٢٨٤.
[8] الأمالي للصدوق ص: ۱۹۱ . بحار الأنوار ج: ٤٤ ص: ٢٨٤.
[9] مصباح المتهجد ص: 754 - 755.