الجواب عن الدعوى المذكورة

والجواب عن ذلك: أنه قد ورد بطرق مختلفة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد عهد إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا الأمر، فلم يتجاوز عهده.

وعنه (صلوات الله عليه) أنه قال: ((قال لي رسول الله(صلى الله عليه وآله): إن اجتمعوا عليك فاصنع ما أمرتك، وإلا فألصق كلكلك بالأرض. فلما تفرقوا عني جررت على المكروه ذيلي، وأغضيت على القذى جفني، وألصقت بالأرض كلكلي))[1]. وفي كلام للفضل بن العباس: ((وإنا لنعلم أن عند صاحبنا عهدا هو ينتهي إليه))[2] ... إلى غير ذلك[3].

ولعل الوجه في ذلك أحد أمرين، أو كلاهما:

الأول: أن دعوة الإسلام الرفيعة في بدء ظهورها لم تتركز ولم تأخذ موقعها المناسب في النفوس كعقيدة مقدسة، فإذا ظهر من أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) - الذي هو يمثل النبي (صلى الله عليه وآله) في موقعه - الاهتمام بالسلطة والمغالبة عليها، وترك النبي (صلى الله عليه وآله) جثة لم يجهز من أجل تحصيلها، كان ذلك وهناً على هذه الدعوة الشريفة يزعزع جانب القدسية والمبدئية فيها، ويضعف موقعها العقائدي في النفوس. وذلك من أعظم المخاطر عليها.

الثاني: أن الله عز وجل يعلم أن الأمر لا يتم له (عليه السلام) لو سابَق الأحداث، وسارع بأخذ البيعة ممن يستجيب له، لإصرار الحزب القرشي على صرف الخلافة عن أهل البيت عموماً، وعن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) خصوصاً، إصراراً لا يقف عند حدّ دون تحقيق مشروعهم. ولفقد أمير المؤمنين (عليه السلام) العدد الكافي من الأنصار من ذوي الثبات والإصرار على الحق ليتسنى له الوقوف أمام إصرارهم.

فتمسكه (صلوات الله عليه) بحقه، وسَبقه إليه بأخذ البيعة ممن هو مقتنع به، يستلزم نفس المحذور الذي يلزم من إصراره (صلوات الله عليه) على استرجاع حقه بعد أن سبقوه له. وهو انشقاق المهاجرين والأنصار على أنفسهم الموجب لوهن كيان الإسلام في بدء قيامه، بنحو قد يؤدي إلى الردة العامة أو نحوها، لعدم استحكام الدين في النفوس.

والبقية الصالحة التي تثبت على الدين لو سَلِمت بعد الانشقاق والصراع فهي من القلة والضعف، بحيث لا تقوى على تشييد كيان الإسلام الحق، والحفاظ عليه، ثم حمله للأجيال، وتبليغهم به.

بل قد يقضى على أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وعلى البقية الصالحة من الصحابة، نتيجة الصراع والإصرار المذكورين، فتضيع معالم الحق، ولا يبقى من يبلغ الأجيال بالدعوة على صفائها ونقائها، وينفرد المنحرفون أو المرتدون بالساحة.

أما تراجع أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) عن الخلافة بعد أن يبايَع، وتسليمها لجماعة الحزب القرشي إذا رأى منهم الإصرار، تجنباً لمخاطر الصراع. فهو أوهن عليه، وأضعف لموقفه من التريث في الأمر حتى يسابقوه، كما حصل. ولاسيما أنه قد يضفي شرعية على إصرارهم واسترجاعهم للسلطة.

على أن ذلك قد يزيد في مخاوفهم من أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، فيقضون عليه، كما قضي أخيراً على مرشح الأنصار سعد بن عبادة.

وقد ورد أنهم قد حاولوا قتله (عليه السلام) مع أنه لم يسابقهم، بل لمجرد كونه صاحب الحق شرعاً، وقد تلكأ في بيعة أبي بكر، كما تعرضنا لذلك في خاتمة كتابنا (أصول العقيدة)، فكيف يكون الحال لو سابقهم واستولى على الخلافة ثم استرجعت منه قسراً عليه؟!.

 


[1] شرح نهج البلاغة ج: ٢٠ ص: ٣٢٦.

[2] شرح نهج البلاغة ج: ٦ ص: ٢١. الموفقيات ص: ٥٨٠ ح: ٣٨٠.

[3] راجع الأمالي للمفيد ص: ٢٢٣-٢٢٤، والأماني للطوسي ص: ۹، وخصائص الأئمة ص: ٧٢-٧٥، والاحتجاج ج: ۱ ص: ۲۸۰-۲۸۱، ۲۹۱، وكشف الغمة ج: ۲ ص: ٤، وبحار الأنوار ج: ٢٩ ص: ٥٨٢. وغيرها من المصادر.