لقد مارس الإمام الصادق(عليه السلام) العمل المجهد من أجل العيش الكريم، رغم ما يتمتّع به من مركز علمي واجتماعي وقيادي، فعَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: (رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ الله(عليه السلام) وبِيَدِه مِسْحَاةٌ وعَلَيْه إِزَارٌ غَلِيظٌ يَعْمَلُ فِي حَائِطٍ لَه والْعَرَقُ يَتَصَابُّ عَنْ ظَهْرِه فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ أَعْطِنِي أَكْفِكَ فَقَالَ لِي: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَتَأَذَّى الرَّجُلُ بِحَرِّ الشَّمْسِ فِي طَلَبِ الْمَعِيشَةِ)[1].
وربّما يتصوّر البعض أن مركز الإمام(عليه السلام) يمنعه من ممارسته مثل هذا العمل فيعترض باستغراب، فعَنْ عَبْدِ الأَعْلَى مَوْلَى آلِ سَامٍ قَالَ: (اسْتَقْبَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله(عليه السلام) فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ شَدِيدِ الْحَرِّ فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ حَالُكَ عِنْدَ الله عَزَّ وجَلَّ وقَرَابَتُكَ مِنْ رَسُولِ الله(صلى الله عليه وآله) وأَنْتَ تُجْهِدُ لِنَفْسِكَ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ الأَعْلَى خَرَجْتُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ لأَسْتَغْنِيَ عَنْ مِثْلِكَ)[2]، وبهذه الإجابة الدامغة حدّد الإمام(عليه السلام) قيمة العمل ومعطياته.
وجدير بالذكر أن الإمام (عليه السلام) يدبّر أمر معاشه بحكمة وروية ويضع للتجارة نظاماً مالياً دقيقاً يضمن به سلامة ماله من الخسارة والتلف، والكسب الحلال، فقد حدّث ولده الإمام الكاظم(عليه السلام) قائلاً: (إنّ رجلا أتى جعفراً صلوات الله عليه شَبِيهاً بِالْمُسْتَنْصِحِ لَه، فَقَالَ: لَه يَا أَبَا عَبْدِ الله كَيْفَ صِرْتَ اتَّخَذْتَ الأَمْوَالَ قِطَعاً مُتَفَرِّقَةً ولَوْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ [وَاحِدٍ] كَانَتْ أَيْسَرَ لِمَؤُونَتِهَا وأَعْظَمَ لِمَنْفَعَتِهَا، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله(عليه السلام): اتَّخَذْتُهَا مُتَفَرِّقَةً فَإِنْ أَصَابَ هَذَا الْمَالَ شَيْءٌ سَلِمَ هَذَا الْمَالُ والصُّرَّةُ تُجْمَعُ بِهَذَا كُلِّه)[3]، فعندما يكون المال مجتمعاً في موضع واحد يكون بمجموعه مهدّداً بالتلف بتعريضه لنائبة طبيعية طارئة، أو تجاوزٍ مشبوه، أمّا عندما يكون متفرّقاً فإنّ سلامة البعض تبقى مضمونة عندما يتعرّض البعض الآخر منه للنوائب أو التجاوزات، وهو أمرٌ لم يكن ليدرك الناصح حكمته فيما أشار به على الإمام(عليه السلام).
ومن أروع ما وردنا عن الإمام الصادق(عليه السلام) في مجالات الكسب الحلال والعمل الصالح ما حدّث به أبو جعفر الفزاري، قال: (دَعَا أَبُو عَبْدِ الله(عليه السلام) مَوْلًى لَه يُقَالُ لَه مُصَادِفٌ فَأَعْطَاه أَلْفَ دِينَارٍ وقَالَ لَه: تَجَهَّزْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَى مِصْرَ فَإِنَّ عِيَالِي قَدْ كَثُرُوا، قَالَ: فَتَجَهَّزَ بِمَتَاعٍ وخَرَجَ مَعَ التُّجَّارِ إِلَى مِصْرَ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْ مِصْرَ اسْتَقْبَلَتْهُمْ قَافِلَةٌ خَارِجَةٌ مِنْ مِصْرَ فَسَأَلُوهُمْ عَنِ الْمَتَاعِ الَّذِي مَعَهُمْ مَا حَالُه فِي الْمَدِينَةِ، وكَانَ مَتَاعَ الْعَامَّةِ، فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّه لَيْسَ بِمِصْرَ مِنْه شَيْءٌ فَتَحَالَفُوا وتَعَاقَدُوا عَلَى أَنْ لَا يَنْقُصُوا مَتَاعَهُمْ مِنْ رِبْحِ الدِّينَارِ دِينَاراً فَلَمَّا قَبَضُوا أَمْوَالَهُمْ وانْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ فَدَخَلَ مُصَادِفٌ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله(عليه السلام) ومَعَه كِيسَانِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ أَلْفُ دِينَارٍ فَقَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكَ هَذَا رَأْسُ الْمَالِ وهَذَا الآخَرُ رِبْحٌ، فَقَالَ(عليه السلام): إِنَّ هَذَا الرِّبْحَ كَثِيرٌ ولَكِنْ مَا صَنَعْتَه فِي الْمَتَاعِ؟ فَحَدَّثَه كَيْفَ صَنَعُوا وكَيْفَ تَحَالَفُوا، فَقَالَ(عليه السلام): سُبْحَانَ الله تَحْلِفُونَ عَلَى قَوْمٍ مُسْلِمِينَ أَلَّا تَبِيعُوهُمْ إِلَّا رِبْحَ الدِّينَارِ دِينَاراً ثُمَّ أَخَذَ أَحَدَ الْكِيسَيْنِ فَقَالَ: هَذَا رَأْسُ مَالِي ولَا حَاجَةَ لَنَا فِي هَذَا الرِّبْحِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُصَادِفُ مُجَالَدَةُ السُّيُوفِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ الْحَلَالِ)[4]، فكان موقف الإمام(عليه السلام) في هذا المقام هو موقف الإسلام الذي يرفض الاستغلال في أيّ مجال من مجالات الحياة، ويحدّد عملياً إنسانية الإسلام في المعاملة ورفضه التجاوزات، سواءً في ذلك الاستغلال المالي أو الاستغلال العملي، وغير ذلك من وجوه الاستغلال البغيض، لأنّه تعبيرٌ آخر عن الخيانة والسرقة، بصورة قد يتراءى منها وكأنّها مشروعة.