الصدقة من أعظم القربات إلى الله وأحبّها إليه، وهي بذاتها عمل إنساني فاضل، ومشاركة عملية يمارسها الإنسان في تخفيف آلام الفقراء والمعوزين، ممّن لم تسعهم قدراتهم المعاشية فقصرت بهم خطى العمل عن أن تستوعب احتياجاتهم وضروراتهم الحياتية، وأفضل الصدقة ما كان معروفاً من غير سؤال، وسرّاً من غير إعلان، وهي التي كان يمارسها أهل البيت(عليهم السلام) لتكون خالصة لوجهه.
وعلى نهج أهل البيت(عليهم السلام) كان الإمام الصادق(عليه السلام) أرأف أهل زمانه بالفقراء والمساكين، مهما كان طريقهم ومعتقدهم حتى لو كان على غير طريقته(عليه السلام).
ففي يوم من الأيام قال الإمام الصادق(عليه السلام) لمحمد ابنه: (كم فضل معك من تلك النفقة؟ قال: أربعون ديناراً قال: اخرج وتصدق بها، قال: إنه لم يبق معي غيرها قال: تصدق بها، فان الله عز وجل يخلفها، أما علمت أن لكل شيء مفتاحا، ومفتاح الرزق الصدقة، فتصدق بها، ففعل، فما لبث أبو عبد الله(عليه السلام) إلا عشرة حتى جاءه من موضع أربعة آلاف دينار، فقال: يا بني أعطينا لله أربعين ديناراً فأعطانا الله أربعة آلاف دينار)[1].
وأيضاً يروى: (أن فقيرا سأل الصادق(عليه السلام) فقال لعبده: ما عندك؟ قال: أربعمائة درهم، قال: أعطه إياها، فأعطاه، فأخذها وولّى شاكرا فقال لعبده: أرجعه، فقال: يا سيدي سَألتُ فأعطيتَ فماذا بعد العطاء؟ فقال له: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): خير الصدقة ما أبقت غنى، وإنا لم نغنك، فخذ هذا الخاتم فقد أعطيت فيه عشرة آلاف درهم، فإذا احتجت فبعه بهذه القيمة)[2].
أما الصدقات في السر فإنها من أفضل الأعمال وأحبها لله لأنها من الأعمال الخالصة التي لا يشوبها أي غرض من أغراض الدنيا، وقد ندب إليها أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، كما أنها كانت منهجاً لهم، فكل واحد منهم(عليهم السلام) كان يعول جماعة من الفقراء وهم لا يعرفونه.
فيروي لنا (المُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ أن الإمام الصادق(عليه السلام) خَرَجَ فِي لَيْلَةٍ قَدْ رُشَّتْ -أي أمطرت- وهُوَ يُرِيدُ ظُلَّةَ بَنِي سَاعِدَةَ فَاتَّبَعْتُه فَإِذَا هُوَ قَدْ سَقَطَ مِنْه شَيْءٌ فَقَالَ: بِسْمِ الله اللَّهُمَّ رُدَّ عَلَيْنَا، قَالَ: فَأَتَيْتُه فَسَلَّمْتُ عَلَيْه قَالَ(عليه السلام): مُعَلًّى؟ قُلْتُ: نَعَمْ جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَقَالَ لِي: الْتَمِسْ بِيَدِكَ فَمَا وَجَدْتَ مِنْ شَيْءٍ فَادْفَعْه إِلَيَّ، فَإِذَا أَنَا بِخُبْزٍ مُنْتَشِرٍ كَثِيرٍ فَجَعَلْتُ أَدْفَعُ إِلَيْه مَا وَجَدْتُ فَإِذَا أَنَا بِجِرَابٍ -وهو وعاء من جلد شاة يوضع فيه الدقيق ونحوه- أَعْجِزُ عَنْ حَمْلِه مِنْ خُبْزٍ فَقُلْتُ:
جُعِلْتُ فِدَاكَ أَحْمِلُه عَلَى رَأْسِي، فَقَالَ: لَا أَنَا أَوْلَى بِه مِنْكَ ولَكِنِ امْضِ مَعِي، قَالَ: فَأَتَيْنَا ظُلَّةَ بَنِي سَاعِدَةَ فَإِذَا نَحْنُ بِقَوْمٍ نِيَامٍ فَجَعَلَ يَدُسُّ الرَّغِيفَ والرَّغِيفَيْنِ حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ يَعْرِفُ هَؤُلَاءِ الْحَقَّ ؟ فَقَالَ(عليه السلام): لَوْ عَرَفُوه لَوَاسَيْنَاهُمْ بِالدُّقَّةِ -والدقة هي الملح-، إِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ شَيْئاً إِلَّا ولَه خَازِنٌ يَخْزُنُه إِلَّا الصَّدَقَةَ فَإِنَّ الرَّبَّ يَلِيهَا بِنَفْسِه وكَانَ أَبِي إِذَا تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ وَضَعَه فِي يَدِ السَّائِلِ ثُمَّ ارْتَدَّه مِنْه فَقَبَّلَه وشَمَّه ثُمَّ رَدَّه فِي يَدِ السَّائِلِ، إِنَّ صَدَقَةَ اللَّيْلِ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وتَمْحُو الذَّنْبَ الْعَظِيمَ وتُهَوِّنُ الْحِسَابَ، وصَدَقَةَ النَّهَارِ تُثْمِرُ الْمَالَ وتَزِيدُ فِي الْعُمُرِ......)[3].
وأيضا ينقل لنا هشام بن سالم: (كان أبو عبد الله(عليه السلام) إذا أعتم وذهب من الليل شطره، أخذ جراباً فيه خبز ولحم ودراهم فحمله على عنقه ثم ذهب به إلى أهل الحاجة من أهل المدينة فقسّمه فيهم ولا يعرفونه، فلما مضى أبو عبد الله(عليه السلام) فقدوا ذلك فعلموا أنه كان أبا عبد الله )[4].
ومن صِلاته السرّية أيضاً أن أبا جعفر الخثعمي قال: (أعطاني أبو عبد الله(عليه السلام) خمسين دينارا في صرة، فقال لي: ادفعها إلى رجل من بني هاشم، ولا تعلمه أني أعطيتك شيئا، قال: فأتيته، فقال: من أين هذه؟ جزاه الله خيرا، فما يزال كل حين يبعث بها، فنكون مما نعيش فيه إلى قابل، ولكن لا يصلني جعفر بدرهم في كثرة ماله)[5]، وفي هذا النقل ينبّهنا الإمام(عليه السلام) على أمر مهم، وهو آفة الصدقة، وذلك بأن يطلب المتصدق بصدقته مدحه ونشر صنيعه بين الناس، فالإمام(عليه السلام) يريد أن يُعلّم الشيعة أن قيمة الصدقة بالإخفاء مهما أمكن وكلما خفيت أوجبت عظم الثواب عند الله تعالى، على أن الله تعالى سوف ينشر فضله بين الناس عاجلاً أو آجلاً.
هذه بعض الأمثلة الرائعة التي وردتنا عن الإمام الصادق(عليه السلام) في هذا المجال الإنساني، وحسبنا بها عظةً ودرساً وبياناً للرعاية الإنسانية التي أولاها الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) للمحرومين من كرامة العيش، والمعذّبين في الأرض.