علامات الظهور واشكالية التطبيق

علامات الظهور واشكالية التطبيق

المقدمة:

لا زال الكلام في السلسلة المهدوية، وقد تحدثنا في الحلقة السابقة في موضوع (المنع من التوقيت)، ولإجل تتميم البحث نتناول في هذه الحلقة (علامات الظهور واشكالية التطبيق) إن شاء الله تعالى.

تُشكِّل علامات ظهور الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بصنفيها المحتومة وغير المحتومة مُحدّداً عَقْدياً رسمياً صاغه المعصومون (عليهم السلام) في مُجمل منظومة القضية المهدوية وظاهرة الانتظار في آخر الزمان وقُبيل الظهور والقيام المهدوي الحق، صياغةً يتمكن معها الإنسان المؤمن من التعاطي مع أحداث ما قُبيل الظهور الشريف، وتحديد موقفه تجاه ما يحصل في حال الترقب والترصد والانتظار للإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، لكن هذا المُحدِّد العقدي قد يخضع في صنفه غير المحتوم إلى آليات نظام البداء الإلهي الحكيم، فيحصل فيه تبدّل وتغيير وفق ظروف مرحلة اقتضاء التحقق وعدمه، لذا لايمكن الجزم بوقوعه ميدانيا لطالما تحكمه قوانين البداء الإلهي الحكيم وكونه قضاءً غير محتوم، ومعلوم أنَّ البداء الإلهي الذي تقول به مدرسة أهل البيت المعصومين (عليهم السلام) هو الإظهار بعد الإخفاء، بمعنى أنَّ الله تعالى قد يُظهر أشياء قد أخفاها على غيره مُطلقاً فيختص بها لوحده ولا يُظهرها إلاَّ في وقتها المناسب وفقاً لنظام الوجود الأصلح والأكمل.

ومن هنا تأتي إشكاليّة التطبيق في العلامات التي تسبق وقت تحقق العلامة الحتمية الجزمية، كما يحدث مثلاً  الآن في الشام (سوريا) تحديداً بما يُقارب مفهوماً وثقافةً أحداث ما قُبيل الظهور الشريف للإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وتنبع إشكاليّة التطبيق في العلامات من كونها قد تأتي بخلاف ما رسمه وحدده المعصومون (عليهم السلام) لنا في فترة ما قُبيل الظهور الشريف وبذلك يلزم الكذب على المعصوم (عليه السلام) وحاشاه عن ذلك، لذا نجد الأئمة المعصومين (عليهم السلام) قد وضعوا حلولاً وخيارات منطقية وعقلانية في صورة التعاطي مع أحداث ما قُبيل الظهور الشريف حتى يتوضَّح الموقف، ويتبين صدقه وصوابه، وقد جاء هذا البحث ليعالج ظاهرة قد اعتبرت سلبيةً إلى حد كبير، وهي ظاهرة التعامل مع علامات الظهور من زاوية معينة لا تنسجم مع الأهداف الحقيقية.

تنبيه:

نود أن ننبه في هذه الحلقة أننا لسنا في مقام تعداد لكل علامة بعينها، بل نحن بصدد بيان ضابطة كلية للتفريق بين العلامات.

وفيما يلي طائفة من الروايات التي بينّت العلامات، وقد جاء ما اخترناه على قسمين.

القسم الأول: قد صنف العلامات إلى صنفين: محتوم وغير محتوم، مع ذكره لبعض الخصوصيات.

القسم الثاني: اكتفى بذكر العلامة التي هي من المحتوم كما سيظهر من الصفحات التالية:

 والروايات من القسم الأول هي:

1- عن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن من الأمور أموراً موقوفة، وأموراً محتومة، وأن السفياني من المحتوم الذي لابد منه). الغَيبة للنعماني: ص313.

2- عن معلى بن خنيس، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (من الأمر محتوم، ومنه ما ليس بمحتوم ومن المحتوم خروج السفياني في رجب). الغَيبة: ص311.

3- عن زرارة، عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) في قوله تعالى: (..ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ..).سورة الأنعام:آية2. فقال: (إنهما أجلان: أجل محتوم، وأجل موقوف، فقال له حمران: ما المحتوم؟
قال (عليه السلام): الذي لله فيه مشيئة. قال حمران: إني لأرجو أن يكون أجل السفياني من الموقوف.

فقال أبو جعفر(عليه السلام) : لا والله، إنه لمن المحتوم). الغَيبة: ص303.

البداء وعلامات الظهور:

لعل قائل يقول: إن البداء في المحتوم ينافي حتميته؛ لأن معنى البداء في شيء هو العدول عنه، فحتمي الوجود يصبح ـ بواسطة البداء ـ غير حتمي، وكذلك العكس.

وعلى هذا.. فلا يبقى ثمة فرق بين المحتوم وغيره، فلا معنى لهذا التصنيف؟!

وفي مقام الجواب نقول:

يُحتمل أن يكون المراد بالبداء في المحتوم: البداء في خصوصياته، لا في أصل وجوده، كخروج السفياني قبل ذهاب بني العباس ونحو ذلك.

ولكن ... سياق الرواية التي تتحدث عن حتمية نفس الحدث، وعروض البداء فيه نفسه، يأبى عن صرف البداء إلى الخصوصيات، ولا أقل من أنه خلاف الظاهر.. فلابد من البحث عن إجابة أخرى تكون أوضح، وأتم.

والجواب الأشمل على التساؤل المطروح كالتالي: هناك أمور يمكن استفادتها من الروايات،منها: 

أن الإخبار يكون عن تحقّق المقتضيات للأحداث والوقائع من دون تعرض لشرائطها وموانعها، فقد تتحقق تلك، وتفقد هذه، فيوجد الحدث وقد لا يوجد، وقد أشرنا في الحلقة الأولى (المنع من التوقيت) إلى ذلك إجمالا، ولإيضاح الفكرة أكثر نعزز ذلك بأمثلة تقريبية:

أما بالنسبة للمانع، فهو نظير بيت بُنِيَ على ساحل البحر، وكان البناء من القوة بحيث يستطيع البقاء مائة سنة.

ولكن إذا ضربته مياه البحر، أو تعّرض لعاصفة عاتية، أو لزلزال، فلسوف ينتهي عمره في أقل من نصف هذه المدة فيصحّ الإخبار عن المدة الأولى من دون تعرض لذلك المانع المعارض، أو الذي يعرض له.

وكذلك الحال لو كان للإنسان حقل زرعه قمحاً، وقد استحصد، فإنه يصح له أن يقول: إن لدي مقدار ألف كيلو من القمح، ولكنه لا يدري: أن طفلاً سيلقي فيه عود ثقاب فيحرق، أو سوف يأتي سيل فيقضي عليه.

وأما بالنسبة إلى الشرط، فهو نظير شجرة خضراء غرست في الموقع وفي المكان المناسب، ولكنّ شرْطَ نموّها وحياتها هو إيصال الماء إليها، فإذا لم يتحقق هذا الشرط، امتنعت عليها الحياة، فيخبر عن حياة الشجرة، وعن عمرها، من دون الأخذ بنظر الاعتبار عدم تحقق ذلك الشرط كما قلنا.

ومن الأمثلة التي وردة على لسان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، والأئمة الأطهار (عليهم السلام) نذكر:

1- عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن الرجل ليصل رحمه وقد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيرها الله عز وجل ثلاثين سنة، ويقطعها وقد بقي من عمره ثلاثون سنة فيصيرها الله ثلاث سنين، ثم تلا (عليه السلام)
(يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ). سورة الرعد: آية39، بحار الأنوار: ج47، ص163.

2- وقد ذكرت بعض الروايات أمثلة على حصول البداء في وقت ظهور القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) (... إن موسى (عليه السلام) وعد قومه ثلاثين يوما، وكان في علم الله عز وجل زيادة عشرة أيام لم يخبر بها موسى، فكفر قومه واتخذوا العجل من بعده لما جاز عنهم الوقت، وإن يونس وعد قومه العذاب، وكان في علم الله أن يعفو عنهم ، وكان من أمره ما قد علمت..) الغَيبة للنعماني: ص303.

 وقد عبرت الروايات عن هذا القسم تارة بـ(الموقوف) وأخرى
 بـ(ما ليس بمحتوم).  وعن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله الإمام الصادق (عليه السلام) (ما عُظِّمَ اللهُ بمثلِ البداء). الكافي للكليني: ج١، ص١٤٦، أي ما عظم الله تعالى بشيء من أوصاف ومحامد يكون مثل البداء؛ لأن تعظيمه تعالى ووصفه بالبداء الذي هو فعل من أفعاله مستلزم لتعظيمه ووصفه بجميع الصفات الكمالية مثل العلم والقدرة والتدبير والإرادة، والاختيار وأمثالها.

المحتوم (الذي لله فيه المشيئة):

وهو ما يكون الإخبار فيه عن تحقق العلة التامة، بجميع أجزائها وشرائطها، وفقد الموانع، بحيث يصبح وجود المعلول ـ الحدث ـ أمراً حتمياً، لا يغيّره سوى تدخّل الإرادة الإلهية، فمثلاً قد اعتدنا: أن يسير توالد الناس، والموت، والحياة، على وتيرة واحدة، ويتم بالأسباب المعروفة.

كما أن ثبات الأرض والجبال، وتماسكها، وثقلها، واستقرارها هو السنّة التي ألفناها وعرفناها في جميع مقاطع حياتنا.

ولكن مشيئة الله سبحانه، قد تلغي ذلك كما في قضية ولادة عيسى ـ بل هي سوف تلغي حتماً ـ هذه الحالة عند انتهاء أمد الدنيا ـ وبذلك تكون نفس مشيئته، وليس فقد الشرط، ولا وجود الموانع سبباً في وقف التوالد، وفي صيرورة الجبال كالعهن المنفوش. نعم، إن ذلك كله سيكون، من دون أن يحدث أي خلل أو نقص في العلة التامة، وقد سمّي هذا القسم بـ (المحتوم) وعبّر عن تدخل المشيئة الإلهية فيه بـ(البداء)، وقد صرحت الرواية المتقدمة بهذا حيث قالت: ...فقال له حمران: ما المحتوم؟، قال (عليه السلام): (الذي لله فيه المشيئة).

وفي مقابل ذلك: مالا يمكن أن يتغير بحالٍ مع قدرته تعالى على ذلك لأن التغيير فيه يتنافى مع صفاته الربوبية.

فمثلاً: الله قادر على فعل القبيح، وعلى الظلم، ولكن يستحيل صدوره منه: (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا). سورة الكهف: آية49،
لأن ذلك يتنافى مع عدل الله سبحانه، ومع كونه لا يفعل القبيح.

وكذا الحال بالنسبة إلى كل ما يتنافى مع حكمته ورحمته، وخلف الوعد أيضاً من هذا القبيل، فيستحيل منه تعالى، وقد جاء في الرواية بأن قيام القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) من هذا القبيل، أي من الميعاد، والله سبحانه لا يخلف الميعاد، عن عبد الله الخالنجي، قال : حدثنا أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: كنا عند أبي جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) فجرى ذكر السفياني، وما جاء في الرواية من أن أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر (عليه السلام): هل يبدو لله في المحتوم ؟قال (عليه السلام): نعم.
قلنا له: فنخاف أن يبدو لله في القائم.

فقال (عليه السلام): (إن القائم من الميعاد، والله لا يخلف الميعاد). الغَيبة للنعماني: ص315.

وقد تبين أن أخبار العلامات على ثلاثة أصناف:

الأول: ما ليس بمحتوم وهي التي يمكن أن يعتريها التغيير والبداء.

الثاني: العلامات المحتومة وهي ما كان لله فيها المشيئة، أي قد تقتضي المصلحة الإلهية وقوع التغيير والبداء فيها.

الثالث: العلامات المحتومة التي لا يتدخل الله سبحانه وتعالى فيها مع قدرته على ذلك.

وأخيراً إنَّ ظهور الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وقيامه بالحق والعدل هو مُرتبط كلياً بإرادة الله تعالى النافذة وجودياً، ومرتبط بظروف وشروط مرحلة التحقق والوقوع فعليّاً، وهذه الظروف والشروط تتحقق قُبيل وقتها بما يضمن حتميَّة تحقق الظهور الشريف وقيام دولة الحق الإلهيّة في الأرض.

 عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) يَقُولُ: ( إِيَّاكُمْ والتَّنْوِيه، أَمَا واللَّه لَيَغِيبَنَّ إِمَامُكُمْ سِنِيناً مِنْ دَهْرِكُمْ، ولَتُمَحَّصُنَّ حَتَّى يُقَالَ مَاتَ قُتِلَ هَلَكَ بِأَيِّ وَادٍ سَلَكَ، ولَتَدْمَعَنَّ عَلَيْه عُيُونُ الْمُؤْمِنِينَ ولَتُكْفَأنَّ  كَمَا تُكْفَأُ السُّفُنُ فِي أَمْوَاجِ الْبَحْرِ، فَلَا يَنْجُو إِلَّا مَنْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاقَه، وكَتَبَ فِي قَلْبِه الإِيمَانَ وأَيَّدَه بِرُوحٍ مِنْه، ولَتُرْفَعَنَّ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَايَةً مُشْتَبِهَةً لَا يُدْرَى أَيٌّ مِنْ أَيٍّ قَالَ فَبَكَيْتُ ثُمَّ قُلْتُ فَكَيْفَ نَصْنَعُ قَالَ فَنَظَرَ إِلَى شَمْسٍ دَاخِلَةٍ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّه تَرَى هَذِه الشَّمْسَ قُلْتُ نَعَمْ، فَقَالَ واللَّه لأَمْرُنَا أَبْيَنُ مِنْ هَذِه الشَّمْسِ) الكافي للكليني:ج1، ص336.

يبقى السؤال: ماهو تكليفنا في زمن الغَيبة؟، لماذا الانتـظار؟، ما هـي طبيـعته ؟، ما هو مردوده النفـسي والاجتماعي؟، هذا ما سنتحدث عنه في الحلقات القادمة من هذه السلسلة المباركة إن شاء الله تعالى.

 

تحميل الملف