المنع من التوقيت

المنع من التوقيت

المقدمة:

إن من الأمور الشائعة في هذه الأيام هو وجود كثير من الناس حين تواجههم الأزمات، ويجدون انفسهم وجهاً لوجه مع الأحداث الكبيرة، والخطيرة نجدهم يظهرون اهتماماً متزايداً بقضية الإمام المهدي ((عجل الله تعالى فرجه الشريف)) وبعلائم الظهور، ويبحثون عن المزيد مما يمنحهم بصيص أمل، ويلقي لهم بعض الضوء على ما سيحدث في المستقبل القريب أو البعيد.

وإننا وإن كنا نعتبر لجوء الناس إلى (عجل الله تعالى فرجه الشريف) الدين وإلى النصوص الدينية، وشعورهم بأنه هو الذي يملك الإجابات الصحيحة على كثير من تساؤلاتهم، ولديه الحلول الجذرية لما يعانون منه، من أزمات، وبلايا، إلا ان تعاطيهم مع القضايا الغيبية وبالخصوص قضية الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ينذر بانحراف خطير في المجال العقائدي، وذلك حينما يقصر النظر على زاوية واحدة منه، وهي تلك التي تشغل بال الناس، وتستأثر باهتمامات الكثيرين منهم، ألا وهي علامات ظهوره ((عليه السلام)) وما رافق ذلك من إخبارات غيبية بما سيحدث في آخر الزمان، أو في طول الزمان الممتد من عصرهم (صلوات الله وسلامه عليهم) إلى حين ظهور الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه.

عدم تحديد وقت الظهور:

قد يدّعي البعض أنه بالإمكان التوقيت لظهور الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ولكن من خلال البحث ودراسة الأدلة الشرعية، نجد أن النهي عن التوقيت من الأمور التي ورد التأكيد عليها في كثير من الروايات، وإحالته إلى الله سبحانه وتعالى، ويستفاد من بعض الأخبار تكذيب من وَقّتَ لظهوره وقتاً معيناً؛ لأن ذلك سر من أسرار الله سبحانه وتعالى، وأن من وَقّتَ له (عليه السلام) وقتاً فقد شارك الله في علمه، فعن محمد بن المفضل قال سالت سيدي أبا عبد الله الصادق (عليه السلام): يا مولاي فلا يوقت له وقت؟ قال (عليه السلام):

(...يا مفضل لا توقت فمن وَقّتَ لمهدينا وقتاً فقد شارك الله في علمه وادعى انه يظهره على امره..) الهداية الكبرى للخصيبي: ص392.

  والحكمة الإلهية اقتضت أن يكون وقت الظهور مجهولاً ومكتوماً عن الناس، كخفاء الأمور الأخرى، مثل ليلة القدر، أو وقت الموت، وإخفاء وقت ظهوره (عليه السلام)، يتضح لنا ذلك من الآتي:

  جاء في التوقيع الصادر عن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بواسطة النائب الثاني محمد بن عثمان العمري: (..وأما ظهور الفرج فإنه إلى الله تعالى ذكره وكذب الوقّاتون) كمال الدين وتمام النعمة للصدوق:ص484، وجاء في توقيع الناحية المقدسة بواسطة النائب الرابع علي بن محمد السمريَّ: (... فقد وقعت الغيبة الثانية فلا ظهور إلا بعد إذن الله تعالى..) كمال الدين وتمام النعمة:ص516، وعن محمّد بن مسلم، قال: قال أبو عبد الله (الصادق) (عليه السلام) (يا محمّد، مَن أخبركَ عنّا توقيتاً، فلا تهابَنَّ أن تُكذّبه، فإنّا لا نُوَقِّت لأحدٍ وقتاً) الغَيبة للنعماني:ص300.

  وروى النعماني بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: ( جعلت فداك، متى خروج القائم (عليه السلام)؟
فقال (عليه السلام): (يا أبا محمّد، إنّا أهل البيت لا نوقّت، وقد قال – النبي- محمّد (صلى الله عليه وآله): كذب الوقّاتون يا أبا محمّد، إنّ قدّام هذا الأمر خمس علامات، أوّلهنّ : النداء في شهر رمضان، وخروج السفياني، وخروج الخراساني، وقتل النفس الزكيّة، وخسف بالبيداء) الغَيبة للنعماني:ص301.

وعن الفُضَيل بن يسار، قال: سألتُ أبا جعفر (الباقر) (عليه السلام): هل لهذا الأمر وقت ؟ فقال (عليه السلام): (كذب الوقّاتون، كذب الوقّاتون، كذب الوقّاتون..) الكافي للكليني:ج1،ص368.

وعن عبد الرحمن بن كثير قال : كنت عند أبي عبد الله (الصادق) (عليه السلام) إذ دخل عليه مهزم الأسدي فقال: أخبرني جعلت فداك متى هذا الامر الذي تنتظرونه ؟ فقد طال، فقال (عليه السلام): (يا مهزم كذب الوقاتون، وهلك المستعجلون، ونجا المسلِّمُون، وإلينا يصيرون) الغَيبة للشيخ الطوسي:ص426.

قد يقول قائل: إن هناك فرقاً، بين أن يكون التوقيت منسوباً لأهل البيت (عليهم السلام)(، أو منسوباً لغيرهم (أفراد عاديـين ممن ليسوا من أهل العصمة)، وأن التوقيت المأمورين بتكذيبه في أخبارهم (عليهم السلام)، هو المنسوب لهم فقط؟!

 فيجاب على هذا القول أو الاحتمال: بعدم ورود شيء من الأدلة المشيرة إلى ذلك في أخبارهم (عليهم السلام)، فتبقى أدلة المنع على عمومها في شمولها للمنع من صدور التوقيت منهم (عليهم السلام) أو من سائر الناس عموماً، وعليه فيكون التوقيت المأمورون بتكذيبه سواءً نسب إلى أهل البيت (عليهم السلام) أو إلى سائر الناس إعمالاً للعموم المستفاد من خبر الفضيل وغيره من الأخبار.

الحكمة في خفاء وقت ظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف):

 إنّ العلة في النهي عن توقيت أو تحديد أو تعيين يوم الظهور يرتبط بالحكمة الإلهية، وبالأسرار الكثيرة التي تكتنف سيرتة، وحياته (عجل الله تعالى فرجه الشريف) كقضية الغيبة مثلاً، لذا فالسر الأساس في عدم التوقيت ربما يرتبط بشؤون علم الغيب، وقد أخفى الله تبارك وتعالى وقت ظهور وليّه (عليه السلام)، ليكون المؤمنون منتظرين له (عليه السلام)
في جميع أوقاتهم، وقد روي في (الإقبال) عن الإمام الصادق (عليه السلام)
 أنّه قال لحمّاد بن عثمان: (.. وتوقَّعْ أمرَ صاحبِك ليلَكَ ونهارك، فإنّ الله كلَّ يومٍ هو في شأن، لا يَشغَلُه شأنٌ عن شأن ..)
السيد ابن طاووس: ج1، ص368.

 وعن المفضل بن عمر عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:

 (أقربُ ما يكون العباد إلى الله عزّو جلّ وأرضى ما يكون عنهم إذا افتقدوا حُجّة الله فلم يظهر لهم ولم يعلموا مكانه، وهم في ذلك يعلمون أنّه لم تبطل حجّة الله... فعندها فتوقَّعوا الفَرَج كلّ صباحٍ ومساء ...) الكافي للكليني:ج1،ص333.

  فانتظار ظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) يدعو المؤمنين إلى التقيّد بأوامر الشريعة الغرّاء ونواهيها، وإلى الاستقامة على جادّة الصراط؛ لأن ظهور الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) الذي سيكون مُباغتاً ـ يعني قيام دولته التي ينتصف فيها للمظلوم من الظالم، يُضاف إلى ذلك أنّ الأمّة التي تعيش الاعتقاد بالمهدي الحيّ الموعود –تعيش- حالة الشعور بالعزّة والكرامة، فلا تذلّ لجبروت أعداء الله تعالى وطغيانهم، ولا تتقهقر أمام هجماتهم مهما بلغت في الشراسة، لأنّها تتطلّع إلى ظهوره المظفّر في كلّ ساعة، فهي - لذلك - تأنف من الهَوان والذُّل، وتستصغر قوى الاستكبار مهما بلغتْ من عُدّة أو عَدَد.

وقد روي عن أبي المرهف قال: قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام):
(هلكت المحاضير، قال: قلت: وما المحاضير؟ قال: المستعجلون، ونجا المقرّون..) الغَيبة للنعماني: ص203، ومفادها ظاهراً وقوع المستعجلين لأمر ظهوره (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في الهلكة والضلال، وكذلك الذين يعيشون عالم التمنّي لتوقيت ظهوره ممّا يحدو بهم إلى العفويّة في الانسياق وراء كلّ ناعق، وهذه الحيرة والاضطراب ليست إلاّ للانقطاع وفقد الاتّصال، وهو مقتضى الصبر والانتظار والترقّب؛ لأنّه في مورد فقد الاتّصال وانقطاع الخبر وعدم وسيلة للارتباط. وكذلك مفاد روايات التمحيص والامتحان بسبب شدّة المحنة في غيبته بفقد واسطة الارتباط، فتزداد الريبة بوجوده حتّى يرجع أكثر القائلين بإمامته عن هذا الاعتقاد، لا سيّما مع كثرة الفتن والمحن والبلاء.

وعن منصور الصيقل، قال: دخلت على أبي جعفر الباقر(عليه السلام)  وعنده جماعة، فبينا نحن نتحدّث وهو على بعض أصحابه مقبل؛ إذ التفت إلينا وقال: (في أي شيء أنتم، هيهات هيهات، لا يكون الذي تمدّون إليه أعناقكم حتّى تمحّصوا، هيهات، ولا يكون الذي تمدّون إليه أعناقكم حتّى تميّزوا، ولا يكون الذي تمدّون إليه أعناقكم حتّى تغربلوا، ولا يكون الذي تمدّون إليه أعناقكم إلاّ بعد إياس، ولا يكون الذي تمدّون إليه أعناقكم حتّى يشقى من شقي، ويسعد من سعد) قرب الإسناد للحميري القمي: ص369.
 ويستفاد منها الحذر من الانجرار وراء كلّ مدّعي، وذلك بسبب قلّة الصبر والضعف عن الثبات في الفتن لقلّة البصيرة.

فالمراد من الانتظار هو وجوب التمهيد والتوطئة لظهور الإمام المنتظر(عجل الله تعالى فرجه الشريف) وعلى أساس ما تقدم ننتهي إلى النتيجة الآتية وهي: إن الانتظار ليس هو التسليم.. وإنما هو واجب أخر يضاف إلى قائمة الواجبات الإسلامية.

 فعن يمان التمّار قال: كنّا عند أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) جلوساً فقال لنا: (إن لصاحب هذا الأمر غيبة، المتمسك فيها بدينة كالخارط للقتاد، ثم قال: هكذا بيده، فأيّكم يمسك شوك القتاد بيده؟ ثم أطرق مليّاً، ثم قال (عليه السلام): إن لصاحب هذا الأمر غيبة، فليتق الله عبد وليتمسك بدينه). الكافي للكليني، ج1، ص335.

 اسقاط الروايات على الاحداث:

 البعض من الناس ما أن يسمع بحادثة أو أزمة من الازمات العامة، إلا ويربط ذلك بقضية الظهور المقدس، والحال أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، قد وضعوا لنا علامات وضوابط وقواعد وشواهد وأمارات، وكل ما يتعلق بخروج الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، فعلى سبيل المثال هناك من يجزم أن ما يحدث في المنطقة هي علامات للظهور، لكن لو رجعنا إلى الروايات والضوابط، وأوكلنا الأمر لذوي التخصص من العلماء، ونسألهم عما يحدث لا نسمع منهم ممن يدعي جازماً قرب الظهور، أو أن هذه من علامات الظهور،لذا حين نرجع للروايات نرى التصنيف لعلامات الظهور منها حتمية وأخرى غير حتمية، ومن خلال فهمنا لذلك نحدد الواقعة أو الحدث المتعلق بالظهور المقدس.

  إنّ ما نريد قوله أيها الأخوة الاعزاء، هناك من الرواة من وعى وحفظ الأمانة وأداها، ومنهم من وسوس له الشيطان أن يحرف الحديث أو يختلقه فكذبوا على النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، فأهلكوا أنفسهم وأتعبوا من بعدهم أعاذ الله المسلمين من شرهم، وجاء المؤلفون في هذا الموضوع فقام بعضهم بإجلاء بعض الجوانب وإلقاء عدد من الأضواء جزاهم الله عن الإسلام وأهله خيراً، وجاء بعضهم كحاطب ليل، كأنما أشرب حب التخليط، يقبل كل ما روي، ويعمل لاقناعك به، ويتعسف الجمع بين متضاده ومتناقضه، أو يطبق العلامات على أحداث عصره بتفسيرات لا سند لها إلا الإحتمال المطلق، وكأنّ العلامات كلها تخص عصره وما بعده بسنوات، وليس منها علامة تحققت في الماضي الطويل أو تجيء في المستقبل البعيد.

ما هو الحل؟!:

وكل ما تقدم يحتّم ويُلزم بوضع حلّ لهذا المشكل، تُتَلافى معه تلك السلبيات مع الحرص على أن تؤدي تلك الاخبارات الغيبية الصادرة عن المعصومين (عليهم السلام) دورها الذي ألقيت من أجله،وقد بادروا (عليهم السلام) إلى وضع حل يضمن ذلك بصورة تامة ودقيقة وقد جاء منسجماً تماماً مع الهدف الذي ترمي إليه الإخبارات الصادرة عنهم (عليهم السلام).

وقبل التعرض لهذا الحل نشير إلى حقيقة هامة، إذا أدركناها فإنّه يسهل علينا معرفة صوابية ذلك الحل الذي قدموه (عليهم السلام).

الفرق بين ما وقع وبين ما سيقع:

وهذه الحقيقة هي: أن المعصومين (عليهم السلام) ما كانوا بإخباراتهم تلك يريدون ربط الناس بما سيقع، من أجل أن يستغرقوا فيه، أو ليكون ذلك عذراً أو مبرراً للوقوف على هامش الساحة في موقع المتفرج، إن لم يصبح عبئاً يثقل كاهل العمل المخلص والجاد، ويثقل خطب العاملين كذلك.

هذا كله.. عدا ما يمارسه الكثيرون ممن لديهم هذا الفهم من دور سلبي في مجال التثبيط، وإيجاد حالة من الفشل والإحباط.

 وقد يتعدى ذلك إلى إيجاد الانقسامات والاختلافات التي تستهلك الطاقات، وتستنفد الهمم والعزائم، ليصبح العدو - من ثم - أقدر على توجيه الضربات الساحقة، والماحقة، لكل جهد مخلص، أساسي وبنّاء.

 الحل الأنسب:

وبعد هذا التوضيح الذي ذكرناه نقول: إن هذا الحل يتلخص في إعطاء ضابطة عامة للأحاديث التي تتحدث عن المستقبل، وعن علامات الظهور للإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، تشير إلى أنها جميعاً حتى ما صح سنده منها إنما تتحدث عن أمور ليست بأجمعها حتمية الوقوع، فمن الجائز أن لا يقع بعض منها، ولكن هذا البعض لا يمكن لنا تحديده بالدقة، والسبب في ذلك هو: أن الإمام (عليه السلام) أو النبي (صلى الله عليه وآله)، إنما يتحدث ويخبر عن تحقق المقتضي لوجود ظاهرة، أو حدث مّا وفق ما هو مخزون في علم الغيب، بحيث لو سارت الأحداث على طبيعتها لتحقق ذلك المقتضي.

ولكنه (عليه السلام) لم يخبر عن شرائط تأثير تلك المقتضيات هل سوف توجد أم لا؟ كما أنه لم يخبر عن الموانع التي قد تعرض للمقتضي، وتمنعه من التأثير.

وإذن.. فإذا تحقق شيء مما أخبر عنه (عليه السلام)، فإن ذلك يكشف عن تحقق شرائطه، وفقد موانعه، وتمامية عناصر علته، وإذا لم يتحقق، فإن ذلك يكشف عن عروض مانع، أو فقد شرط تأثير ذلك المقتضي.

فهو (عليهم السلام) إنما يخبر عن أمور قد تختلف في المآل والنتيجة، ولكنها متحدة، وذات طبيعة واحدة، وفي نسق واحد من حيث تحقق مقتضياتها، وهذا بالذات هو ما تعنيه الروايات التي نصّت على حتمية بعض علامات الظهور، وأوضحت أن سائر ما يُذكَر في الروايات مما عدا ذلك قد لا يقع بعض منه إما لاحتمال أن لا يوجد شرط وقوعه، أو لوجود المانع من الوقوع، فلا مجال بعد لرسم خريطة للأحداث المستقبلية، ولا يصح صرف الجهد في التعرف على ما سيحدث، ومحاولات من هذا القبيل لن يكون لها الأثر المطلوب في ترغيب الناس، أو ترهيبهم، ما دام أنه لم يعد ثمة مجال للاستفادة من الأخبار صحيحها وسقيمها إلا بعد وقوع الحدث، فيأتي حينئذ دور المقارنة بين ما هو مذكور في الرواية، وبين ما وقع فعلاً ويكون الإيمان به، أو عدمه على هذا الأساس.

 

لتحميل الملف