يواجه مجتمعنا اليوم موجة من التحلل والانقياد وراء المخططات الاستعمارية على المستوى الفكري والاجتماعي، فأصبح الفرد المسلم يواجه مجموعة من التيارات المعادية للإسلام تتبنى شعار الإفساد والتعري سواء على المستوى الإعلامي بجميع أقسامه من القنوات التلفازية والإذاعية أو ما تنشره مؤسساتها ومنظماتها اللادينية من أفكار محاولة بذلك ترسيخها في ذهن الشباب المسلم كالحرية المطلقة القائمة على أساس الإباحية، والمسوغة لكلا الجنسين في إقامة العلاقات الغير مشروعة، وتهيئة السبل الكفيلة بإشاعة الفساد كتحفيز الجانب الشهواني لديهم من خلال التمثل بشخصيات تلفزيونية بشكل مبتذل، وإخراج الأفلام الخليعة وقصص الحب اللامشروع والبرامج التثقيفية الجنسية وفتح المواقع والصفحات الألكترونية التي تغذي طموحاتهم، وما يوصل إلى الغاية التي يبتغونها من فساد المجتمع.
والإنسان المسلم بحاجة إلى حصانة تمنعه من ارتكاب ما يؤدي إلى انتهاك كرامته الدينية وشخصيته الملتزمة، والعفة خير ما يتمسك به الفرد المؤمن لصون النفس من الانحراف عن جادة الشريعة، ولا يتأتى ذلك بالامتناع عن الفساد الخُلُقي مرة أو مرتين، وإنما يكون بالتتابع لاكتساب الملكة كما سنبينه فيما بعد، إذن الإنسان بحاجة إلى ملكة تقيه مما يؤدي به إلى الهاوية والرذيلة، أعاذنا الله وإياكم من ذلك، ونسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا إلى ما فيه الصلاح في أمور دنيانا وأخرانا.
معنى العفة:
العفة لغة: هي الكف عما لا يحل ويجمل، أو هي اعتدال القوة الشهوية في كل شيء من غير ميل إلى الإفراط أو التفريط.
العفة اصطلاحاً: ذُكِر للعفة اصطلاحاً، في نظر الإسلام، تعريفات متعددة، فقد قيل، العفة هي: الكف عن الحرام وعن السؤال من الناس، وقيل: (الاستعفاف) هو الصبر والنزاهة عن القبائح، وعفة البطن والفرج: صونهما عن المحرمات والشبهات، وقيل في العفة - إضافة إلى ذلك-: اجتناب ما لا يحمد، وهو حبس النفس عن الحسد والقناعة (وهي الرضا باليسير).
وفي مقابلها: التهتك وعدم المبالاة في ارتكاب المحرمات والقبائح.
أنواع العفة:
للعفة أنواع مختلفة بحسب أنواع الذنوب والمعاصي، فالإنسان الذي يسعى إلى الاتصاف بالعفة لا بد أن يستوعب جميع أنواعها، ولا يغفل عن بعضها، وهي:
أولاً: عفة النفس: والتي تحصل بتزكيتها وتطهيرها من الرذائل حيث قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:9- 10)، وبتحصيل هذا - النوع من العفة- يحصل الإنسان على الأنواع الأخرى منها.
ثانياً: عفة الجوارح: وتحصل بتسخيرها في ما يرضي الله تعالى ووقايتها مما يغضبه، فعفة اليد تكون بأن لا يمدها إلى المحرمات، وعفة الرجل بأن لا يمشي بها إلى الباطل والمحرمات، وعفة اللسان بأن لا ينطق بما لا يرضي الله تعالى، وعفة السمع بعدم الاستماع للمحرمات، وعفة البصر بغضه عن المحارم.
ثالثاً: عفة البطن: وتحصل بحفظها من الحرام، فلا يأكل ما حَرّم الله ولا يرتكب الشبهات، كما في الحديث: (... وليحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى...) (البحار: ج 6، ص 131).
رابعاً: عفة الفرج: عدم الاستمتاع به في الحرام وحفظه كما أمره تعالى بقوله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ...* وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) (النور:30- 31).
العفة في القرآن الكريم:
أشار القرآن الكريم في بعض المواضع من آياته إلى العفة، ومن خلالها بيّن أن لها موردين، وأشار أيضا إلى بعض الأمور التي يجب على الإنسان مراعاتها لكي يكون مؤهلاً للاتصاف بصفة العفة، فمما يُستفاد من الآيات القرآنية في هذا المجال:
أولاً: جاءت العفة في قسم من تلك الآيات في مورد التعفف والترفع عما لا يملكه الإنسان من أموال الغير، وهذا ما دلت عليه الآية الكريمة: (يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً...) (البقرة:273)، وكذلك ما ورد في الآية الكريمة: (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ...) (النساء:6).
ثانياً: وذُكرت في القسم الآخر منها في مورد التسامي بالغرائز والرغبات الفطرية عن التشبه بالحيوانات، وهذا ما ذكرته الآيتان الكريمتان:
(وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (النور:33)، (وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (النور:60).
والمورد الثاني من موارد العفة في القرآن هو الذي يقع فيه كلامنا، وإن كان كل من الموردين داخل في معنى العفة، ولكن المهم والذي ينعقد فيه البحث هو الثاني، فنقول:
إن الله تعالى لما جعل كتابه العزيز دستوراً للناس في هذه الحياة يسيرون على نهجه ويستضيئون بنوره، فقد ضمّنه كثيراً من الإرشادات العملية التي تكفل لمن يسير عليها حياة سعيدة في الدارين، وفيما يخص الجانب العملي للمرأة فقد أرشدها لكيفية التصرف الذي يضمن لها عفتها واحترامها في المجتمع بالإضافة إلى فوزها برضوان الله وفضله وجنته في الآخرة، فلنستعرض معاً بعض الآيات التي حثت المرأة على العفاف بشكل عملي لتكون بذلك قد ساهمت في تحصين المجتمع ضد الفساد والانحراف:
قال الله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إلى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور:31)، وقال تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) (الأحزاب:33)، وقال تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) (الأحزاب:53).
ومن الجدير بالذكر أن الحجاب والعفة والحياء لا تحمي المرأة من الأخطار والانتهاكات الخارجية فقط، بل توفر لها مناعة دائمة مضمونة التأثير ضد شهوات النفس، وحجاباً واقياً ضد تسويلات الشيطان وإغوائه وحبائله حيث تغلق أبواب تلك الشرور وتجعل المرأة وجوارحها في مأمن من معصيته تعالى، فإن العين تزني وَزِنا العين النظر إلى ما حرم الله، الأذن تزني وزنا الأُذن السماع إلى ما حرم الله... فعن الصادق أو الباقر(عليه السلام) قال: (ما من أحد إلا وهو يصيب حظا من الزنا، فزنا العينين النظر، وزنا الفم القُبَل، وزنا اليدين اللمس، صدَّق الفرجُ ذلك أم كذَّب) (مشكاة الأنوار: ج1، ص122)، فكل من هذه الممارسات مراتب للزنا، والمرتبة الأشد هي التي تكون في الفرج، وهذا الحديث من الأحاديث الرائعة التي توسع معنى الزنا وتجعله شاملاً لكل مقدماته ولا يقتصر على المعنى المعروف منه، وهو يشير إلى أن الخوض في إحدى مقدمات الزنا من النظر أو اللمس أو... يؤدي غالباً إلى الوقوع في الحرام فلذا سمى كلاً منهما باسم النتيجة.
فما نجده في مجتمعاتنا من الحديث بالباطل بين النساء والرجال، وكذلك ما شاع في هذه الأيام من تسويلات شيطانية بعناوين براقة مزيفة مثل الدردشة والتواصل الاجتماعي وغيرها مما ابتدعه الغرب بالدرجة الأولى لإفساد مجتمعاتنا، كله من حبائل الشيطان وخدعه ومزالقه التي ينبغي للمؤمن عدم السير فيها والتجنب عن سلوكها.
العفة في روايات المعصومين (عليهم السلام):
وردت أحاديث كثيرة في الإشارة إلى وجوب العفة ووصفها بأنها أفضل العبادة، كما في قول أمير المؤمنين(عليه السلام): (إن أفضل العبادة عفة البطن والفرج) (الكافي: ج2، ص79).
وقال الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله): (ثلاث أخافهن بعدي على أمتي: الضلالة بعد المعرفة، ومضلات الفتن، وشهوة البطن والفرج).
وعن أبي بصير قال: قال رجل لأبي جعفر الباقر(عليه السلام): (إني ضعيف العمل، قليل الصيام، ولكني أرجو أن لا آكل إلا حلالا، قال: فقال له: أي الاجتهاد أفضل من عفة بطن وفرج) (الكافي: ج2، ص79).
وعن المفضل قال: قال أبو عبد الله الصادق(عليه السلام): (إنما شيعة جعفر مَن عَفَّ بطنَه وفرجَه واشتد جهاده وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر) (الوسائل: ج15، ص251).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): (الصبر عن الشهوة عفة) (المستدرك: ج11، ص263).
وعنه(عليه السلام) قال: (أفضل العفة الورع في دين الله والعمل بطاعته) (البحار: ج74، ص390).
وعنه(عليه السلام) قال: (العفة رأس كل خير) (عيون الحكم والمواعظ: ص45)، وقال(عليه السلام): (أهل العفاف أشرف الأشراف) (عيون الحكم والمواعظ: ص125).
وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله الصادق(عليه السلام) يقول: (... ومَن أعَفَّ بطنه وفرجه كان في الجنة مَلِكا محبوراً...) (الأمالي: ص646).
لذا نجد أن الإسلام قد حث كثيراً على مسألة العفة والعفاف، من جهة البطن والفرج باعتبارهما أهم أنواع العفة في مقابل المعصية التي يكتسبها الإنسان من هذين السبيلين.
ما هي العوامل التي ترسخ العفة وتنميها؟
من أهم العوامل التي ترسّخ ملكة العفة عند النساء والرجال هي:
أولاً: الزواج المبكر: إن الحاجة إلى الإشباع العاطفي موجودة عند كل إنسان فإذا لم يملأ الإنسان ذلك الفراغ عنده فسوف يعاني ضغوطاً نفسية وجسدية...فيأتي الزواج حلاً شافياً للجميع، حيث ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): (ما من شاب تزوج في حداثة سنه إلا عجَّ شيطانه: يا ويله يا ويله عصم مني ثلثي دينه، فليتقِ الله العبد في الثلث الباقي) (البحار: ج11، ص221).
ثانياً: عدم رؤية المشاهد المحرمة: إن انتشار الفضائيات وتنوع وسائل الاتصال بالعالم له إيجابياته الكبيرة على الصعيد العلمي والاقتصادي والحضاري والديني، إلا أن هناك سلبيات ينبغي الحذر منها وهي النظر إلى المشاهد المحرمة التي تهيج في الإنسان غريزته الشهوية وتثيرها، ففي الحديث: (كم من شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً) (الوسائل: ج15، ص210)، وفي دعاء الإمام زين العابدين(عليه السلام): (واستغاث بك من عظيم ما وقع به في علمك، وقبيح ما فضحه في حكمك، من ذنوب أدبرت لذاتها فذهبت، وأقامت تبعاتها فلزمت) (الصحيفة السجادية: ص152)، فهذا النظر المحرم يفتح عليه باب الشيطان، ويحفز النفس الأمارة بالسوء، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: (النظر سهم من سهام إبليس مسموم وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة) (البحار: ج101، ص40)، وقال(عليه السلام): (كل عين باكية يوم القيامة إلا ثلاث أعين: عين بكت من خشية الله، وعين غضت عن محارم الله، وعين باتت ساهرة في سبيل الله) (البحار: ج90، ص329).
ثالثاً: عدم الاستماع إلى الموسيقى والغناء: إن حالة الخفة والنشوة والهيجان التي تحدث في النفس عند سماع الغناء والموسيقى المحرمة تؤدي بالإنسان إلى الجرأة على فعل المحرمات، وتقوده بالنتيجة إلى ممارسة الفاحشة، ففي الحديث الشريف: (الغناء رقية الزنا)، أي: الوسيلة الموصلة إلى الزنا، وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة ولا تجاب فيه الدعوة ولا يدخله الملك) (الكافي: ج6، ص433).
رابعاً: مخالفة الهوى: إن العفة صفة لا تتحقق إلا بمخالفة الإنسان هواه، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): (أيها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: إتباع الهوى، وطول الأمل، فأما إتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة) (نهج البلاغة: ج1، ص92).
خامساً: صفة الحياء: إن الحياء يقوي كثيراً من الملكات الفاضلة ومنها ملكة العفة حيث ورد عن الإمام علي(عليه السلام): (سبب العفة الحياء) (عيون الحكم والمواعظ: ص282)، وقال(عليه السلام): (أصل المروءة الحياء وثمرته العفة) (عيون الحكم والمواعظ: ص112).
سادساً: العلم: إن إيمان العبد وتقواه وورعه وجميع خصاله الحميدة لا تكمل ولا تترسخ إلا بالعلم، والعلم هنا يقصد به أن يكون العبد على بصيرة من أمره غير متحير ولا ضال بل عنده سراج العلم يضيء له الدرب ويرشده إلى كل خير وعلى العكس من ذلك الجاهل فيبقى متحيراً متخبطاً تعترض في طريقه العثرات يسير على غير هدى كما ورد في الحديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام): (العامل بغير علم كالسائر على غير طريق، فلا يزيده بعده عن الطريق إلا بعداً من حاجته، والعامل بالعلم كالسائر على الطريق الواضح) (البحار: ج1، ص209).