عقوق الوالدين في القرآن والسنة

عقوق الوالدين في القرآن والسنة

من الواضح أن نكران الجميل ومكافأة الإحسان بالإساءة، أمران يستنكرهما العقل والشرع، ويستهجنهما الضمير والوجدان، وكلما عظم الجميل والإحسان كان جحودهما أشد نكراً وأفظع جريرة وإثماً، وبهذا المقياس ندرك بشاعة عقوق الوالدين وفظاعة جرمه، حتى عُدَّ من الكبائـر الموجبة لدخول النار، ولا غرابة فالعقوق - فضلاً عن مخالفته المبادئ الإنسانية، وقوانين العقل والشرع - دال على موت الضمير، وضعف الإيمان، وتلاشي القيم الإنسانية في العاق، فقد بذل الأبوان طاقات ضخمة وجهوداً جبّارة، في تربية الأبناء وتوفير ما يبعث على إسعادهم وازدهار حياتهم مادّياً وأدبياً، ما يعجز الأولاد عن تثمينه وتقديره فضلاً عن مجازاته، فكيف يسوغ للأبناء تناسي تلك العواطف والألطاف ومكافأتها بالإساءة والعقوق؟.

من أجل ذلك حذّرت الشريعة الإسلامية من عقوق الوالدين أشدّ التحذير، وأوعدت عليه بالعقاب العاجل والآجل، فانظر إلى قوله تعالى على لسان عيسى بن مريمJ: (وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً) (مريم:32)، وكذلك قوله تعالى في وصف يحيى (عليه السلام): (وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً) (مريم:14)، فعقوق الوالدين موجب لصيرورة الإنسان عاصيا شقيا.

والعقوق لا حد له فهو يتحقق بكل قول أو فعل فتأمل في قوله تعالى: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً)(الإسراء:23)، والأُف هو أدنى العقوق، ورد عنه الإمام الصادق(عليه السلام): (لو علم اللّه شيئاً هو أدنى من أف، لنهى عنه، وهو من أدنى العقوق، ومن العقوق أن ينظر الرجل إلى والديه، فيحدّ النظر إليهما) (الكافي: ج2، ص261)، وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (من أحزن والديه فقد عقّهما) (الفقيه:ج4، ص269)، وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): (ثلاثة من الذنوب، تعجّل عقوبتها ولا تؤخر إلى الآخرة:عقوق الوالدين، والبغي على الناس، وكفر الإحسان) (الأمالي: ج1، ص12)، وعن النبي(صلى الله عليه وآله): (ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقول الزور) (المحجة البيضاء :ج5، ص242)، وعنه(صلى الله عليه وآله): (من أدرك والديه ولم يؤد حقهما فلا غفر الله له) (المستدرك: ج7، ص435)، وروي عن الإمام الصادق(عليه السلام): (ملعون ملعون من ضرب والديه، ملعون ملعون من عقّ والديه) (كنز الفوائد:ص63)، وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كلام له: (إياكم وعقوق الوالدين، فإن ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام، ولا يجدها عاق، ولا قاطع رحم، ولا شيخ زان، ولا جارٌّ إزاره خيلاء، إنما الكبرياء لله رب العالمين) (الكافي: ج2، ص261)، وقوله(صلى الله عليه وآله): (مَن أصبح مسخطا لأبويه، أصبح له بابان مفتوحان إلى النار) (المستدرك: ج15، ص175)، وقال الإمام الهادي(عليه السلام): (العقوق يعقب القِلة، ويؤدي إلى الذِلة) (البحار: ج71، ص84)، والأخبار في ذم العقوق أكثر من أن تحصى، وورد في الحديث القدسي: (بعزتي وجلالي وارتفاع مكاني! لو أن العاق لوالديه يعمل بأعمال الأنبياء جميعا لم أقبلها منه) (جامع السعادات: ج2، ص202)، وروي أيضا: (إن أول ما كتب الله في اللوح المحفوظ: إني أنا الله لا إله إلا أنا، مَن رضي عنه والداه فأنا منه راض، ومَن سخط عليه والداه فأنا عليه ساخط) (المستدرك: ج15، ص176).

وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (كل المسلمين يروني يوم القيامة، إلا عاق الوالدين، وشارب الخمر، ومن سمع اسمي ولم يصلِّ عليّ) (جامع السعادات: ج2، ص203).

فينبغي لكل مؤمن أن يكون شديد الاهتمام في تكريم والديه وتعظيمهما واحترامهما، ولا يقصّر في خدمتهما، ويحسن صحبتهما، وألّا يتركهما حتى يسألاه شيئا مما يحتاجان إليه، بل يُبادر إلى الإعطاء قبل أن يفتقرا إلى السؤال، كما ورد في الأخبار، وإن أضجراه فلا يقل لهما أف، وإن ضرباه لا يعبِّس وجهه، وقال لهما :غفر الله لكما، ولا يملأ عينيه من النظر إليهما إلا برحمة ورقة، ولا يرفع صوته فوق صوتهما، ولا يده فوق أيديهما، ولا يتقدم قدامهما، بل مهما أمكن له لا يجلس عندهما، وكلما بالغ في التذلل والتخضع كان أجره أزيد وثوابه أعظم.

وبالجملة: إطاعتهما واجبة وطلب رضاهما حتم، فليس للولد أن يرتكب شيئا من المباحات والمستحبات بدون إذنهما، ولذا أفتى العلماء بأنه لا يجوز السفر في طلب العلم إلا بأذنهما، إلا إذا كان في طلب علم الفرائض، من الصلاة والصوم وأصول العقائد، ولم يكن في بلده من يعلِّمه، ولو كان في بلده من يعلمه لم يجز له السفر.

وقد روي : أن رجلاً هاجر من اليمن إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأراد الجهاد، فقال له: (ارجع إلى أبويك فاستأذنهما، فإن أذنا فجاهد، وإلا فبرهما ما استطعت، فإن ذلك خير مما كلف به بعد التوحيد) (جامع  السعادات: ج2، ص205)،  وجاء آخر إليه للجهاد، فقال: (أَلَكَ والدة؟ قال:نعم! قال:فالزمها، فإن الجنة تحت قدمها) (جامع  السعادات: ج2، ص205).

مساوئ العقوق:

للعقوق مساوئ خطيرة، وآثار سيئة تنذر العاق وتتوعده بالشقاء الدنيوي والأخروي.

1- فمن آثاره أن العاقّ يعقّه ابنه جزاءً وفاقاً على عقوقه لوالديه، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (من برَّ والديه برَّه ولده) (المستدرك: ج15، ص178)، وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (بروا آبائكم يبركم أبناؤكم وعفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم) (الكافي: ج5، ص554)، وقد شهد الناس صوراً وأدواراً من هذه المكافأة على مسرح الحياة.

2- ومن آثار العقوق: أنه موجب لشقاء العاق، وعدم ارتياحه في الحياة، لسخط الوالدين ودعائهما عليه، وقد جاء في الحديث النبوي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إياكم ودعوة الوالد، فإنها ترفع فوق السحاب حتى ينظر الله تعالى إليها، فيقول: ارفعوها إليّ حتى أستجيب له، فإياكم ودعوة الوالد، فإنها أحدّ من السيف) (المستدرك: ج5، ص256)، وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (ثلاث دعوات لا يحجبن عن الله تعالى:دعاء الوالد لولده إذا بره، ودعوته عليه إذا عقه...) (الأمالي: ص280).

3- ومن آثار العقوق: أن العاق يشاهد أهوالاً مريعة عند الوفاة، ويعاني شدائد النزع وسكرات الموت، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (بر الوالدين وصلة الرحم يهونان الحساب، ثم تلى: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ)) (الأمالي: ص280)، فواصل الرحم أو البار بوالديه يُهوَّن عليه الحساب، أما العاق وقاطع الرحم فيبقى الحساب بالنسبة إليه على حاله من الأهوال والشدائد.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (البارُّ يطير مع الكرام البررة، وإن مَلَك الموت يبتسم في وجه البار ويَكْلَحُ في وجه العاق) (الكافي: ج15، ص176)، وعن الإمام الصادق(عليه السلام): (من أحب أن يُخفف الله عز وجل عنه سكرات الموت، فليكن لقرابته وصولاً، وبوالديه باراً، فإذا كان كذلك هوّن الله عليه سكرات الموت، ولم يصبه في حياته فقر أبداً) (الأمالي: ص234).

4- ومن آثار العقوق: (أنه من الذنوب الكبائر التي توعد الله عليها بالنار، كما صرحت بذلك الأخبار، قال الإمام الصادق(عليه السلام): (عقوق الوالدين من الكبائر، لأن الله عز وجل جعل العاق عصيا شقيا) (علل الشرائع: ج2، ص479).

5- العاق عمله غير مقبول عند الله تعالى، فقد روي عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنه قال: (ليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة) (المستدرك: ج15، ص193)، وروي أن موسى(عليه السلام) قال: (يا رب، أين صديقي فلان الشهيد؟ قال: في النار، قال: أليس وعدتَ الشهداء الجنة؟ قال: بلى، ولكن كان مصرا على عقوق الوالدين، وأنا لا أقبل من العَقوق عملا) (المستدرك: ج2، ص630)، وعن الإمام الصادق(عليه السلام): (من نظر إلى أبويه نظر ماقت وهما ظالمان له لم يقبل الله له صلاة) (الكافي:ج2، ص260)، هذا حاله إذا كانا ظالمين، فكيف إذا لم كانا بارين له؟

والجدير بالذكر، أنه كما يجب على الأبناء طاعة آبائهم وبرهم والإحسان إليهم، كذلك يجدر بالآباء أن يسوسوا أبناءهم بالحكمة، ولطف المداراة، ولا يخرقوا بهم فيضطروهم إلى العقوق والعصيان، فعن الإمام الصادق عن آبائه(عليهم السلام) - في وصية النبي(صلى الله عليه وآله) لعلي(عليه السلام) - قال: (يا علي، لعن الله والدين حملا ولدهما على عقوقهما، يا علي، يلزم الوالدين من عقوق ولدهما ما يلزم الولد لهما من عقوقهما، يا علي، رحم الله والدين حملا ولدهما على برهما) (الفقيه: ج4، ص269).

قصص عقوق الوالدين

عاقبة العقوق:

وعن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام): (إن رسول الله(صلى الله عليه وآله) حضر شابا عند وفاته، فقال له: قل: لا إله إلا الله، قال: فاعتقل لسانه مرارا، فقال لامرأة عند رأسه: هل لهذا أم؟ قالت: نعم، أنا أمه، قال: أفساخطة أنت عليه؟ قالت: نعم، ما كلمته منذ ست حجج، قال لها: إرضَي عنه، قالت: رضي الله عنه يا رسول الله برضاك عنه، فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): قل لا إله إلا الله، قال: فقالها، فقال النبي(صلى الله عليه وآله): ما ترى؟ فقال: أرى رجلا أسود، قبيح المنظر، وسخ الثياب، منتن الريح، قد وليني الساعة فأخذ بكظمي.

فقال النبي(صلى الله عليه وآله): قل (يا من يقبل اليسير، ويعفو عن الكثير، إقبل مني اليسير، واعف عني الكثير، إنك أنت الغفور الرحيم) فقالها الشاب، فقال له النبي(صلى الله عليه وآله): انظر ما ترى؟

قال: أرى رجلا أبيض اللون، حسن الوجه، طيّب الريح، حسن الثياب، قد وليني، وأرى الأسود وقد ولّى عني، قال: أعد، فأعاد، قال: ما ترى؟

قال: لست أرى الأسود، وأرى الأبيض قد وليني، ثم طفا (أي مات) على تلك الحال) (الأمالي: ص65).

أعقّ الناس وأبرَّهم:

ينقل عن الأصمعي أنه قال: حدثني رجل من الأعراب قال: خرجت من الحي أطلب أعق الناس وأبرّ الناس، فكنت أطوف بالأحياء، حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل، يستقي بدلو لا تطيقه الإبل في الهاجر والحرّ الشديد، وخلفه شاب في يده رشاء من قدّ ملوي (أي:حبل من جلد) ، يضربه به، قد شق ظهره بذلك الحبل، فقلت له: أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف، أما يكفيه ما هو فيه من هذا الحبل حتى تضربه؟

قال: إنه مع هذا أبي.

قلت: فلا جزاك الله خيراً. قال: اسكت، فهكذا كان يصنع هو بأبيه، وكذا كان يصنع أبوه بجده، فقلت:هذا أعق الناس.

ثم جُلتُ أيضاً حتى انتهيت إلى شاب في عنقه زنبيل، فيه شيخ كأنه فرخ، فيضعه بين يديه في كل ساعة، فيزقّه الطعام كما يُزقُّ الفرخ، فقلت له: ما هذا؟ فقال: أبي، وقد خرف، فأنا أكفله، قلت: فهذا أبرّ العرب، فرجعت وقد رأيت أعقّهم وأبرهم. (المحاسن والمساوئ: ج2، ص193 ).

 

لتحميل الملف