الحمد لله رب العالمين والصلاة على خير خلقه محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
الكثير من الذنوب الكبيرة والموبقات قد تكون منتشـرة انتشارا واسعا في مجتمعاتنا الإسلامية بحيث أصبح التعايش معها بصورة اعتيادية ويومية، وربما لا يلاحظ المجتمع مدى خطورة هذه الموبقات من الذنوب سواء في هذه الحياة الدنيا أم في الحياة الأخروية، بل لا يدرك المجتمع - مع الأسف الشديد- فظاعة هذه الذنوب وأثر انتشارها وما يترتب عليها من الفساد والإفساد، خصوصاً ما لها من آثار وضعية واجتماعية ونتائج وخيمة من التفكك ونشر الرذيلة والابتعاد عن روح الشريعة.
ومن الذنوب التي أولتها الشريعة اهتماماً بالغاً وزجرت عنها: قذف المحصنات، فهو من جملة الذنوب التي تعتبر قبيحة جدا (والذنوب كلها قبيحة)، لما لها من المساس بالأواصر الاجتماعية والعلاقات الأسرية، وما تؤديه من تسقيط الفرد بأبشع صورة، وتلويث سمعته بأقذر الأوصاف، وإنّ وجود مثل هذه الذنوب في مجتمعاتنا الإسلامية ينذر بأمر خطير، وهو انتشار جملة من الأمراض من قبيل حب شياع الفاحشة في المؤمنين، وخلق حالة من الفوضى وعدم الاطمئنان والطعن بأعراض الناس (وعرض المرء أعز ما لديه).
لذا سنتعرض في هذه الأسطر إلى معنى المحصنات ومعنى القذف، وما هي الآيات والروايات التي تعرضت لـقذف المحصنات، ثم ما هي العقوبة التي يستحقها مرتكب هذا الذنب، وفي الخاتمة نحاول بيان علاج مثل هذه الأمراض الاجتماعية، فنقول:
معنى المحصَنات: المحصَنات: جمع محصَنة وهي المرأة المتزوجة، والُمحْصنَةُ، والُحصِنةُ كذلك: هي المرأة العفيفة البعيدة عن الرِيبة والشك، وأصل الإحصان المنع، والحصن هو بناءٌ يمنع العدو من الوصول إلى ساكن الحصن.
معنى قذف المحصنات: القذف هو: الرمي والسَّب، ومعناه هنا: رمي المرأة بالزنا أو ما كان في معناه، أي يقذفونهنَّ بالزنا، وأصل الرمي القذف بالحجارة، واستُعير هذا المعنى شكل مجازي حينما يقذِف إنسانٌ امرأةً بلسانه ويتهمها بالزنا.
الآيات الواردة في قذف المحصنات:
إن من ثوابت الدين الإسلامي - طبقا لنصوص القرآن الكريم وأحاديث المعصومين(عليهم السلام) - أن المؤمن له من الحرمة والمكانة ما لا يوازيه شيء عند الله، فهو محترم النفس والمال والعِرض، ولذا فانتهاك أي واحدة من هذه الخصوصيات الثلاثة يُعد من أكبر الموبقات، لذا فقد حرّم الله تعالى على المسلم التطاول على أخيه المسلم بطعن في عِرضه (سواء في هذا الحكم الرجال والنساء)، والقذف من أشنع أنواع التطاول وانتهاك الأعراض، وأبلغها في الإضرار بالمقذوف والإساءة إليه، لذا كان من أشد الذنوب، فكان التحذير منه في القرآن الكريم شديداً، ومقروناً بالعقاب الدنيوي الذي يردع الواقع فيه من الذنب، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:4)، وقول عز اسمه: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور:23).
يبين الله تعالى في هذه الآية أن مَن قَذَف امرأة محصنة حرة عفيفة ورماها بالزنا أو البغاء أو الفاحشة فإنه ملعون في الدنيا والآخرة متوعد بالعذاب العظيم.
والغافلات: أي الغافلات عن الفواحش، فهن في غفلة عن الإثم وهن البريئات الطوايا، المطمئنات النفس، لأنهن لم يفعلن شيئا يحذرنه، ويخِفن منه.
الروايات الواردة في قذف المحصنات:
إن من أعظم المحرمات في الإسلام قذف المحصنات، ومن أكبر الكبائر عند الله: رمي الغافلات المؤمنات بالزنى وارتكاب الفاحشة، ظلما وزورا، لما في ذلك من تلويث سمعة الإنسان البريء، وما فيه من تجريء الناس على المعصية وإشاعة الفاحشة في المجتمع المؤمن، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) (الوسائل: ج11، ص261).
فهو(صلى الله عليه وآله) اعتبر رمي المحصنات الغافلات المؤمنات: من (الموبقات السبع) التي حذّر الأمة منها، و(الموبقات) أي المهلكات، فهي مهلكات للفرد، ومهلكات للجماعة، مهلكات في الدنيا، ومهلكات في الآخرة.
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (الزاني أشد ضربا من شارب الخمر، وشارب الخمر أشد ضربا من القاذف، والقاذف أشد ضربا من التعزير) (الكافي: ج7، ص214).
بل أكثر من ذلك نجد أن الإسلام منع من قذف غير المسلم كما في رواية عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) أنه نهى عن قذف مَن ليس على دين الإسلام، فعن أبي الحسن الحذاء، قال: (كنت عند أبي عبد الله(عليه السلام) فسألني رجل ما فعل غريمك؟ قلت: ذاك ابن الفاعلة، فنظر إليّ أبو عبد الله(عليه السلام) نظراً شديداً، قال: فقُلت: جُعلت فداك، إنه مجوسي أمه أخته، فقال: أو ليس ذلك في دينهم نكاحا؟!) (الكافي: ج7، ص240).
عقوبة قاذف المحصنات:
من خلال تتبع الروايات الواردة عن أهل بيت الرحمة(عليهم السلام) يتبين لنا أن لقاذف المحصنات عقوبتين عقوبة دنيوية وعقوبة أُخروية، وهذا يبين لنا ما لهذا الذنب من حرمة عظيمة عند الله عز وجل، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (ومَن رمى محصنا أو محصنة أحبط الله عمله، وجَلَده يومَ القيامة سبعون ألف ملك من بين يديه ومن خلفه، وتنهش لحمه حيّات وعقارب، ثم يؤمر به إلى النار) (ثواب الأعمال: ص285).
وفي رواية أخرى أن امرأة جاءت إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقالت: (يا رسول الله إني قلت لأَمَتي: يا زانية، فقال: هل رأيت عليها زنا؟ فقالت: لا، فقال: أما إنها ستُقاد منك يوم القيامة، فرجعت إلى أمتها فأعطتها سوطا، ثم قالت: اجلديني، فأبت الأمة، فأعتقتها، ثم أتت إلى النبي(صلى الله عليه وآله) فأخبرته، فقال: عسى أن يكون به) (الوسائل: ج28، ص174).
هذا العقاب الأخروي أما بالنسبة إلى العقاب الدنيوي فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): (القاذف يُجلد ثمانين جلدة، ولا تُقبل له شهادة أبدا، إلا بعد التوبة أو يُكذِّب نفسه، فإن شهد له ثلاثة وأبى واحد، يُجلد الثلاثة ولا تقبل شهادتهم حتى يقول أربعةٌ: رأينا مثل الميل في المكحلة) (الوسائل: ج18، ص433).
ويشمل القذف قذف الرجل زوجته، فعن أبي بصير، عن أبي عبد الله(عليه السلام): (عن رجل قذف امرأته فتلاعنا، ثم قذفها بعد ما تفرقا أيضا بالزنا، أعليه حد؟ قال: نعم عليه حد) (الكافي: ج7، ص212).
بيان وجه العلة في حد القذف:
وقد بينت بعض الروايات - بالإضافة إلى ذلك - علة جلد مرتكب هذه الخطيئة، فقد روى الشيخ الصدوق عن محمد بن سنان، عن الرضا(عليه السلام) فيما كتب إليه: (وعلة ضرب القاذف، وشارب الخمر ثمانين جلدة، لان في القذف نفي الولد، وقطع النسل، وذهاب النَسَب، وكذلك شارب الخمر، إذا شرب هذى، وإذا هذى افترى، وإذا افترى جلد، فوجب عليه حد المفتري) (علل الشرائع: ج2، ص545)، وعن محمد بن سنان، عن الرضا(عليه السلام) فيما كتب إليه من جواب مسائله: (وحرم الله قذف المحصنات لما فيه من فساد الأنساب ونفي الولد، وإبطال المواريث، وترك التربية، وذهاب المعارف، وما فيه من الكبائر والعلل التي تؤدي إلى فساد الخلق) (الوسائل: ج28، ص174).
لماذا قيدت الشريعة الشهادة بأربعة شهود:
تقدم أنه مَن ادعى على شخص ورماه بالفاحشة، ولم يأتِ بأربعة شهود تُعد شهادته قذفا ويقام عليه الحد (ثمانون جلدة ولا تقبل له شهادة إلا بعد التوبة)، ولنا أن نسأل لماذا قيدت الشريعة اشتراط إتمام الدعوى وإثباتها بأربعة شهود؟
وللإجابة على هذا السؤال نقول: أكدت الشريعة على عدم شياع الفاحشة في المجتمع الإسلامي وعدم انتشار المفاسد فيه، تحجيما لها كي يتم القضاء عليها وعدم الخوض في مثلها، لما لها من التأثير في تفكك المجتمع والقدح في أعراض الناس وتشويه سمعتهم، وكما عبرت الرواية السابقة بـ(فساد الخلق) (الوسائل: ج28، ص174)، ثم أن من يشيع القذف والقدح في عرض الإنسان يكون مصداقا لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور:19)، فنفس شياع الفاحشة في المجتمع الإسلامي تكون أرضية خصبة في انتشار الرذائل والذنوب والموبقات، مما يؤدي إلى اعتياد الناس على الفواحش، والابتعاد عن شريعة الله التي أخرج بها الناس من الظلمات إلى النور ومن رذائل الأخلاق إلى محاسنها.
والتأكيد على الشهود الأربع خصوصاً لمثل هذه الذنوب، كي يتحرز الإنسان من رمي التهم جُزافا ومن دون تروٍ وتدقيق، فعليه التأني في ما يدّعي وعدم التعجل بالتقول على الآخرين، فكثيرا ما يحدث من عدم وضوح الرؤيا والاستعجال في الحكم سواء في ذلك الأمر الخطير أم الحقير، فكيف إذا كان رميا بالفاحشة؟ وهو من أشد ما يطعن فيه المرء، ومن أصعب ما يفقده في حياته (سمعته) بل من الأمور التي لا رجوع لها، وقد عللت بعض الروايات الشهود الأربع في إثبات وقوع الفاحشة، نذكر منها:
عن أبي عبد الله(عليه السلام) أنه قيل له: (لم جُعل في الزنا أربعة من الشهود، وفي القتل شاهدان؟ فقال: (إن الله تعالى أحل لكم المتعة وعلم أنها ستنكر عليكم، فجعل الأربعة الشهود احتياطا لكم، لولا ذلك لأتى عليكم، وقل ما يجتمع أربعة على شهادة بأمر واحد) (علل الشرائع: ج2، ص509)، وعن محمد بن سنان: إن الرضا(عليه السلام) كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: (جعلت شهادة أربعة في الزنا واثنان في سائر الحقوق لشدة حصب المحصن، لأن فيه القتل فجعلت الشهادة فيه مضاعفة مغلظة لما فيه من قتل نفسه وذهاب نسب ولده ولفساد الميراث) (علل الشرائع: ج2، ص196).
العلاج:
إن التأمل في أي تصرف من تصرفات الإنسان ومراجعته نفسه لما يصدر منه من قول أو فعل، له نتائج إيجابية ويأخذ المتأمل شيئا فشيئا بارتياد الطريق الصحيح والابتعاد عن كل ما هو مهلك أو مؤدي إلى الهلكة، فإن اللسان من أهم الجوارح لدى الإنسان، بل إن جميع الجوارح تثاب وتعاقب به، فدخول جل أهل النار فيها بسببه، قال علي بن الحسين(عليه السلام): (إن لسان ابن آدم يشرف على جميع جوارحه كل صباح فيقول: كيف أصبحتم؟ فيقولون: بخير إن تركتنا، ويقولون: الله الله فينا ويناشدونه ويقولون: إنما: نثاب ونعاقب بك) (الكافي: ج2، ص115)، ولهذا أكثر جوارح الإنسان عذابا يوم القيامة هو اللسان، فعن السكوني عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (يعذب الله اللسان بعذاب لا يعذب به شيئا من الجوارح فيقول: أي رب عذبتني بعذاب لم تعذب به شيئا، فيقال له: خرجَتْ منك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسفك بها الدم الحرام وانتهب بها المال الحرام وانتهك بها الفرج الحرام، وعزتي وجلالي لأعذبنك بعذاب لا أعذب به شيئا من جوارحك) (الكافي: ج2، ص116).
إذن على الإنسان أن يتأمل جيدا بما يقول وبما يحكم، وعليه أن يجعل نُصب عينيه الجزاء في الدنيا والآخرة، وليعتقد أن كل حكم أو قول أطلقه على إنسان من دون تروٍ أو دليل أو بينة ومن دون ضوابط شرعية، فليستعد للبلاء والابتلاء بمثله أو قريبا منه، فمَن طَرَق باب الناس طُرِق بابه، وسوف ترجع عليه التهمة بمثلها أو أشد منها، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (مكتوب في التوراة: أنا الله قاتل القاتلين ومفقر الزانين أيها الناس لا تزنوا فتزني نساؤكم كما تدين تدان) (الكافي: ج5، ص554).
لذا فالمفروض على كل مؤمن إذا سمع تهمةً أو قدحاً أو جرحاً في أخيه المؤمن أن يبادر لنصرته ويدافع عنه وينفي الرذيلة عنه، كي نسد الأبواب على المتصيدين والمنافقين والذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ولينظر الإنسان إلى ما أولته الشريعة من خَلق مجتمع متكافل متآزر يعيش حَسَن الخُلُق والفضيلة والابتعاد عن كل ما يؤدي إلى التمزيق والتشتيت لأواصره.
إذن لنتأمل بالروايات والآيات وما فيها من العقوبة والجزاء والوعد والوعيد فنحن في سفر ورحيل من دنيا إلى آخرة تتجسد فيها أعمالنا ويكون فيها البنيان الذي كانت لَبِناته من كَدِّ جوارحنا.
تنبيه:
وينبغي هنا أن نعرف أن القذف لا ينحصر بتهمة الزنا، وإن كان شرعاً جعل الحد خصوص هذه التهمة بل يتعدى ذلك إلى مطلق اتهام الإنسان وإلصاق بعض الأوصاف القبيحة به مثل الكذب أو غيره من التهم فهو وأن لم يكن فيه حد، ولكنه مع ذلك يستوجب العذاب لأنه يعد من الذنوب الكبيرة، إذ يدخل في هتك المؤمن إن كان الأمر صحيحاً، وفي بهتانه إن كان كاذباً.