الحمد لله الذي أمر بالصدق ونهى عن الكذب في كل وقت وحين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الملقب بالصادق الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين.
اقتضت ضرورة العقول مطابقة لمقتض الفطرة أن الكذب من قبائح الصفات ورذائلها فهو يأتي بالخراب على النفوس ويجعل الديار بلاقع، لذا أرشدت الأدلة الأربعة: القرآن، والسنة، والإجماع، والعقل، إلى مبغوضيته وحرمته.
فلو استعرضنا القرآن الكريم والروايات الشريفة التي تتكلم عنه وكيف أنها تصفه بأبشع الأوصاف، وتشدد على تركه معلنة أن النار مثوى لفاعله، علمنا أنه من الذنوب الكبيرة، بل أن بعض النصوص تصرح بعدّه من أكبر الكبائر، فقد روي أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: (ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقول الزور) (المحجة البيضاء: ج5، ص242)، وروي عن الإمام العسكري(عليه السلام): (جعلت الخبائث كلها في بيت واحد وجعل مفتاحها الكذب) (البحار: ج69، ص263).
ولا فرق في حرمة الكذب بين أن يكذب بلسانه أو بقلمه أو بالإشارة، وأيضا لا فرق بين أن يبتدئ هو بالكذب ويخترعه، أو يكون مسبوقا به وهو ناقل له بلا تبيّن.
أمّا ما ورد في القران الكريم وبقية مصادر التشريع عن حرمته وصفات فاعليه وشدة العقوبة المناسبة لراكبه، فبيانه كالآتي:
الكذب في القرآن الكريم:
قال تعالى: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (النحل:105)، وقال عز من قائل: (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) (الزمر:3)، وقال جل وعلا: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) (الجاثية:7)، وقد يؤدي الكذب بصاحبه أن يكون ممن يستحق اللعن والغضب الإلهي، قال تعالى: (فَنَجْعَل لّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (آل عمران:61).
الكذب في الروايات:
الأخبار الواردة في عظم ذنب الكذب وشدة عقوبته ومفسدته ومضرته كثيرة منها:
قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (المؤمن إذا كذب من غير عذر لعنه سبعون ألف ملك، وخرج من قلبه نتن حتى يبلغ العرش فيلعنه حملة العرش، وكتب الله عليه بتلك الكذبة سبعين زنية، أهونها كمن زنى مع أمه) (المستدرك: ج9، ص87).
وقال(صلى الله عليه وآله): (إن العبد ليكذب الكذبة فيتباعد المَلَك منه مسيرة ميل من نتن ما جاء به) (جامع السعادات: ج2، ص249).
وجاء في وصيته(صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين(عليه السلام): (يا علي إياك والكذب، فإن الكذب يُسوّد الوجه، ثم يُكتب عند الله كذّابا، وإن الصدق يُبيّض الوجه ويُكتب عند الله صادقا، واعلم أن الصدق مبارك والكذب مشؤوم) (تحف العقول: ص13).
وقال(صلى الله عليه وآله): (يا علي أنهاك عن ثلاث خصال عظام: الحسد والحرص والكذب) (الخصال: ج1، ص62).
وعنه(صلى الله عليه وآله): (الكذب رأس النفاق وهو مفسدة عظيمة في الدُّنيا والدِّين) (شرح أصول الكافي: ج1، ص252).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا يصلح من الكذب جد ولا هزل، ولا أن يَعِدَ أحدكم صبيَّه ثم لا يفي له، إن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وما يزال أحدكم يكذب حتى يقال: كذب وفجر، وما يزال أحدكم يكذب حتى لا يبقى في قلبه موضع إبرة صدق، فيسمى عند الله كذابا) (الأمالي: ص505).
وعنه(عليه السلام): (... اعتياد الكذب يورث الفقر) (الخصال: ص504).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الرجل ليكذب الكذبة فيحرم بها صلاة الليل، فإذا حرم صلاة الليل حرم بها الرزق) (علل الشرائع: ج2، ص51).
أنواع الكذب:
للكذب أنواع مختلفة بحسب المناشيء النفسية التي تدفع الإنسان إلى الكذب يمكن تلخيصها بالأنواع الآتية.
الكذب الادعائي: ينشأ هذا الكذب عادة من الشعور بالنقص، حيث يحاول تعظيم ذاته وجعلها مركزاً للانتباه والإعجاب، فنراه يتحدث عن أفعاله وقوته، فهو يدعي ما ليس له من الصفات والأفعال إرضاءً لشعورهِ بالنقص.
الكذب الانتقامي: يظهر هذا النوع من الكذب في حالات الغيرة والحسد أو الشعور بعدم المساواة، فقد نرى أن بعض الناس يكذبون فيتهمون الآخرين الذين يكرهونهم باتهامات يترتب عليها عقابهم أو تشويه سمعتهم.
الكذب الدفاعي: فقد يقدم الشخص على الكذب خوفاً من العقوبة، فيلجأ للكذب للهروب من تلك العقوبة، كما نراه واضحاً عند الأطفال وهو ينشأ عن ضعف الشخصية.
الكذب العنادي: ينتشر هذا النوع من الكذب عند بعض المجادلين؛ فلأجل مضادة صاحبه يحاول أن يختلق شيئا لمجرد المعاندة، وهذا النوع سببه عدم الإذعان للحق والتعصب الأعمى للمذهب أو الرأي الذي يعتقد به.
الكذب التقليدي: فالطفل مثلاً نراه يكذب منطلقاً من تقليد من حوله كالآباء والأصدقاء، فهو يتولد عند الإنسان من التربية الخاطئة التي يتلقاها من أبويه فلا يتحسس بعد ذلك قبح الكذب، وقد ورد عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنه قال: (ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه اللذان يهودانه وينصـرانه ويمجسانه) (الوسائل: ج15، ص125)، وخطورة هذا النوع تكمن في أن الكذب يكون مرضياً، لذا فهو من أخطر حالات الكذب فقد يصبح عند الإنسان عادة وقد يصل إلى حد الإكثار منه ويصدر عنه بالرغم من محاولة عدم الكذب.
مساوئ الكذب:
إنما حرمت الشريعة الإسلامية (الكذب) وأوعدت عليه بالهوان والعقاب، لما ينطوي عليه من أضرار خطيرة، ومساوئ جمة، والتي منها:
1- الفضيحة وذهاب ماء الوجه وانهيار المكانة الاجتماعية للشخص الكاذب، فهو باعث على سوء السمعة، وسقوط الكرامة وسلب الثقة منه لدى الناس، فلا يُصدّق الكذاب وإن نطق بالصدق، ولا تقبل شهادته، ولا يوثق بمواعيده وعهوده.
2- إنّه يجر الإنسان إلى أن يكذب مرّات عديدة، وقد يدفع بصاحبه إلى أن يسلك في خط النفاق ويصبح من زمرة المنافقين، لأنّ الكذب فرع من فروع النفاق، والكاذب هو الذي يُظهر غير ما يُبطن ويتكلم بخلاف الواقع وبخلاف ما يعلمه في نفسه، فهذا الاختلاف بين الظاهر والباطن سوف يسري بالتدريج إلى سائر أعماله وسلوكياته حتى يُمسـي منافقاً كاملاً، وقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام)أنّه قال: (الكذب يؤدي إلى النفاق) (ميزان الحكمة: ج3، ص2677).
3- عدم استفادة الناس من لياقاته وطاقاته الإيجابيّة، لأنهم سوف يتعاملون معه من موقع الشك والتردد في سلوكياته وكلماته، ولهذا السبب نجد أنّ الروايات الإسلامية نزّلت الكاذب منزلة الميّت، حيث ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام): (الكذاب والميت سواء، فإن فضيلة الحي على الميت الثقة به، فإذا لم يوثق بكلامه فقد بطلت حياته) (ميزان الحكمة: ج3، ص2677).
4- إنه يُضعِف ثقة الناس بعضهم ببعض، ويشيع فيهم أحاسيس التوجس والتناكر.
5- وقد يخفى على الكثير ما للكذب من مضرة على الصحة، فقد أثبت العلم الحديث، أن الإنسان عندما يكذب يستهلك دماغه طاقة أكبر مما يستهلكه في حالة الصدق!: (... لأن الكذب عملية معقدة فيها التصور... والتخيل... والاختراع... والتركيب... والتأليف...)، وهذا بدوره يؤثر -سلباً- على الذاكرة والقلب وضغط الدم وغيره...!.
6- وفوق كل ما مرّ فللكذب آثار روحية سيئة، ومغبة خطيرة، أشارت إليها النصوص السالفة والتي منها ابتعاد الملائكة عن الكاذب وحرمانه من صلاة الليل وعدم قبول بعض عباداته... إلى كثير من الآثار السلبية، التي ذُكرت في الروايات، وسطّرتها كتب العلماء، فمنها ما يتسبب في حرمان الإنسان من الرزق ويؤدّي به إلى الوقوع في هوّة الفقر والمسكنة، ففي الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)أنّه قال: (الكذب ينقص الرزق) (كنز العمال: ج3، ص633)، وهذا النقصان في الرزق يمكن أن يكون ناتجاً من أسباب معنوية واجتماعية على حد سواء، لأنّ الكذب يسلب اعتماد الناس وثقتهم من هذا الشخص الكاذب، فينعزل اجتماعياً مما يؤثر على نفسيته بشكل سلبي.
مراتب الكذب:
بعد مراجعة الروايات الواردة في المقام يُعلم أن الكذب له عدة مراتب بعضها من الكبائر قطعاً وبعضها أكبر الكبائر، ولأجل مزيد الاطلاع نذكر مراتب الكذب:
1- الكذب على الله تعالى والرسول(صلى الله عليه وآله) والإمام(عليه السلام): إن أسوأ مراتب الكذب، الكذب على الله تعالى والرسول والإمام (صلوات الله عليهم)، قال تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (النحل:116)، وقال الإمام الصادق(عليه السلام): (الكذب على الله وعلى رسوله من الكبائر) (الكافي: ج2، ص339)، والكذب على الرسول(صلى الله عليه وآله) والإمام(عليه السلام) هو أن يخترع حديثاً من عنده ثم ينسبه إليهما، أو يسمع حديثاً من شخص أو يراه في كتاب وهو يعلم بأنه كذب، ومع ذلك ينسبه إلى الإمام(عليه السلام) أو إلى الرسول(صلى الله عليه وآله)، نعم إذا تيقن بصحة حديث من خلال القرائن الموجودة، فإنه يجوز له نقله ونسبته إلى المعصوم.
وورد في بعض الروايات أن العبد إذا أشهد الله على أمر خلاف الواقع قال تعالى: (أَلَمْ تجد من هو أضعف مني تشهده على ذلك)، وهذا القسم من الكذب بالإضافة إلى حرمته التكليفية في نفسه فإنه يبطل الصوم، إذا كان متعمداً فيه.
2- القَسَم والشهادة والكتمان: من جملة موارد الكذب التي لا شك في أنها من الكبائر القَسَم الكاذب، والشهادة الكاذبة، وكتمان الشهادة.
أما اليمين الكاذبة: فهي من أبشع صور الكذب وأشدها خطراً وإثما،ً فإنها جناية مزدوجة وجرأة صارخة على المولى عز وجل بالحلف به كذباً وبهتاناً، وجريمة نكراء تمحق الحقوق وتهدر الكرامات، فمن أجل ذلك جاءت النصوص في النكير على فاعلها وذمها والتحذير منها: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (إيّاكم واليمين الفاجرة، فإنها تدع الديار من أهلها بلاقع) (الوسائل: ج23، ص204).
وأما شهادة الزور وكتمانها: فهي جريمة خطيرة، وظلم سافر هدام، تبعث على غمط الحقوق، فقد ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): (لا ينقضي كلام شاهد الزور من بين يدي الحاكم حتى يتبوأ مقعده من النار، وكذلك من كتم الشهادة) (الكافي: ج7، ص383).
3- الكذب الضار: من جملة أقسام الكذب التي لاشك في أنها من الكبائر، وهو الكذب الذي فيه مضرة ومفسدة، وطبعاً كلما كانت مفسدته ومضرته أكبر كان إثمه وعقوبته أشد، وقد يكون الكذب أحياناً سبباً لتلف الأموال، وهتك الحرمة، وإسالة الدماء، ولذا يكون هذا النوع من الكذب أيضاً من أشد أنواع الكذب لأنه يضيف إلى حرمة الكذب حرمة الإيذاء وبعض العناوين المحرمة الأخرى كالتسبب في القتل أو هتك العرض أو إضاعة الأحوال وتلفها.
4- حرمة الكذب حتى لو كان بدافع المزاح والهزل: ينبغي التورع عن كل أنحاء الكذب حتى لو كان بدافع المزاح والهزل، فعن أبي ذر في وصية النبي(صلى الله عليه وآله)له: (وإن الرجل ليتكلم بالكلمة في المجلس ليضحكهم بها فيهوي في جهنم ما بين السماء والأرض، يا أبا ذر: ويل للذي يُحدِّث فيكذب ليُضحِك القوم، ويل له، ويل له، ويل له) (الأمالي: ص537)، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): (لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده) (الكافي: ج2، ص340)، وما قلناه حول حرمة الكذب هازلاً إنما هو في صورة ما إذا لم يكن فيه جرح لفؤاد المؤمن، وإيذاء له، وإلا فلا شك أنه من الذنوب الكبيرة حينئذ، لأنه يدخل في الكذب الضار المتقدم ذكره.
علاج الكذب:
1- أن يتأمل في ما ورد في ذمّه من الآيات والأخبار، ليعلم أنه لو لم يتركه لأدركه الهلاك الأبدي.
2- ليتذكر أن كل كاذب ساقط عن القلوب في الدنيا ولا يعتني أحد بقوله، وكثيرا ما يفتضح عند الناس بظهور كذبه، ومن أسباب افتضاحه أن الله سبحانه يسلط عليه النسيان، حتى أنه لو قال شيئا ينسى أنه قاله، فيقول خلاف ما قاله، فيفتضح، وإلى ذلك أشار الصادق (عليه السلام) بقوله: (إن مما أعان الله به على الكذّابين النسيان) (الكافي: ج2، ص341).
3- ليتأمل في الآيات والأخبار الواردة في مدح ضده، أعني الصدق.
4- ليقدم التروي في كل كلام يريد أن يتكلم به، فإن كان كذبا يتركه.
5- وليجتنب مجالسة الفساق وأهل الكذب، ويجالس الصلحاء وأهل الصدق، ليزول عنه تدريجياً الكذب ويتحلى بالصدق بسبب طول المعاشرة، ومخافة الهجران.