الغيبة بواعثها وعلاجها

الغيبة بواعثها وعلاجها

معنى الغيبة ومواردها:

الغيبة: هي أن يُذكَر المؤمن بعيب في غيبته، والظاهر اختصاصها بصورة وجود سامع يُقصد إفهامه وإعلامه أو ما هو في حكم السامع، كما لو سُجل الكلام لكي يسمعه شخص بعد ذلك، وهي من أخسّ السجايا، وألأم الصفات، وأخطر الجرائم والآثام.

وقد عرّف الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) الغيبة عندما سأله أبو ذر قائلاً: (...يا رسول الله وما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره، قلتُ: يا رسول الله فإن كان فيه الذي يُذكر به، قال: اعلم أنك إذا ذكرته بما هو فيه فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهتّه) (الأمالي: ج2، ص150)، وقال الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام): (من ذكر رجلا من خلفه بما هو فيه مما عرفه الناس لم يغتبه، ومن ذكره من خلفه بما هو فيه مما لم يعرفه الناس فقد اغتابه، ومن ذكره بما ليس فيه فقد بهته) (الوسائل: ج8، ص604).

وبناء على هذه الروايات وروايات أخرى غيرها، فإذا كان العيب الموجود في المؤمن غير خفي على السامع وغيره، فإنَّ نَقلَه ليس غيبة، وإن دخل تحت عنوان المذمة والإيذاء والاستخفاف بالمؤمن- إن كان يؤذيه نقله- ولذا فهو حرام من جهة هذه العناوين الأخرى.

الغيبة في القرآن الكريم:

1- يقول تعالى في سورة النور: (إنَّ الَذينَ يُحِبُّونَ أن تَشيعَ الفاحِشَةُ في الذينَ آمَنوا لَهُم عَذابٌ أليم) (النور:19). قال الإمام الصادق(عليه السلام): (من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (الوسائل: ج12، ص280).

2- في سورة الحجرات يقول تعالى: (ولا يَغتَبْ بَعضُكم بَعضاً أيُحبُ أحَدُكُم أن يأكُلَ لَحمَ أخيهِ مَيتاً فَكَرِهْتُمُوه) (الحجرات:12)، وهذه الآية صريحة في النهي عن الغيبة لمكان وجود (لا) الناهية وفي التعبير بعد ذلك بقوله تعالى: (أيُحبُ أحَدُكُم أن يأكُلَ لَحمَ أخيهِ مَيتاً فَكَرِهْتُمُوه)، من البلاغة وروعة البيان ما لا يخفى، حيث نفّر تعالى عن الغيبة مشبهاً إياها بأكل لحم الإنسان الميت، الذي لا يختلف اثنان في استهجانه واستقباحه.

3- قال تعالى في سورة الهمزة: (ويلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَة)، جاء في تفسير مجمع البيان: هذا وعيد من الله سبحانه لكل مغتابٍ غيّابٍ مشاءٍ بالنميمة مفرِّق بين الأحبة، وقيل: الهمزة المغتاب واللمزة الطعان، وقيل: الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمزة الذي يلمزهم بلسانه وبعينه.

وأما (ويل) فهو اسم لدركة من دركات جهنم، أو اسم لواد فيها، وتستعمل للتعبير عن شدة العذاب.

وبناءً على ذلك فإن الغيبة من الذنوب التي جاء الوعيد عليها بالعذاب في أكثر من موضع من القرآن المجيد، فهي من الكبائر.

الغيبة في الروايات:

ورد في الروايات الشريفة الصادرة عن النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام) ذم عظيم للغيبة، ووصفت المغتاب بأوصاف عجيبة، نذكر فيما يلي بعض هذه الأخبار:

1- قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الآكِلة في جوفه) (الكافي: ج2، ص357)، وهذا التشبيه في الرواية يصف الغيبة بأنها تأكل دين الإنسان مشبهاً إياه بمرض الآكلة الذي يأكل بدنه، إذ أن المغتاب -كما ورد في بعض الروايات- يعطي من حسناته لمن اغتابه ليرضيه يوم القيامة أو يأخذ من سيئات من اغتابه وعلى كل حال فهو نقصان من دينه. 

2- قال(صلى الله عليه وآله): (تحرم الجنة على ثلاثة: على المنّان، وعلى المغتاب، وعلى مدمن الخمر) (الوسائل: ج12، ص281)، وعبارة: (تحرم الجنة) فيه من الشدة ما لا يخفى، إذ أن (تحرم) هنا بمعنى (تمتنع) الجنة فلا يدخلها كل واحد من هؤلاء. 

3- قال(صلى الله عليه وآله): (من اغتاب مؤمنا، فكأنما قتل نفسا متعمدا) (المستدرك: ج9، ص125)، وهذا التشبيه لتشنيع الفعل وبيان شدته.

4- قال(صلى الله عليه وآله): (من اغتاب مسلما أو مسلمة، لم يقبل الله تعالى صلاته ولا صيامه أربعين يوما وليلة، إلا أن يغفر له صاحبه) (جامع الأخبار: ص171)، وعدم قبول الصلاة والصيام مع أدائهما طبعاً، كما ورد في شارب الخمر، وإلا فلو لم يؤدها مرتكباً لكبائر أخرى هي ترك الصلاة والصيام.

5- قال(صلى الله عليه وآله): (يؤتى بأحد يوم القيامة يوقف بين يدي الله، ويدفع إليه كتابه فلا يرى حسناته، فيقول: إلهي ليس هذا كتابي فإني لا أرى فيها طاعتي، فقال: إن ربك لا يضل ولا ينسى، ذهب عملك باغتياب الناس، ثم يؤتى بآخر ويدفع إليه كتابه فيرى فيها طاعات كثيرة، فيقول: إلهي ما هذا كتابي فإني ما عملت هذه الطاعات، فيقول: إن فلانا اغتابك، فدفعت حسناته إليك) (جامع الأخبار: ص171)، وهذا من أشد العقوبات للمتأمل، إذ يكفي كلمة واحدة تصدر من الإنسان في حق أخيه لتنقل حسناته إليه وتنتقل سيئات ذلك الشخص إلى المغتاب، ولا يُدرى بعد ذلك ما هي سيئاته؟ إذ قد تكون مما يوجب الدخول في النار والعياذ بالله.

6- قال(صلى الله عليه وآله): (كذب من زعم أنه وُلِد من حلال، وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة، اجتنبوا الغيبة فإنها إدام كلاب النار) (جامع الأخبار: ص172)، وفي هذا من التشنيع والتفظيع ما لا يحتاج إلى بيان.

7- في خبر معاذ الطويل المشهور عن النبي(صلى الله عليه وآله): (إن الحَفَظَة تصعد بعمل العبد وله نور كشعاع الشمس حتى إذا بلغ السماء الدنيا والحفظة تستكثر عمله وتزكيه فإذا انتهى إلى الباب قال الملك الموكل بالباب اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه أنا صاحب الغيبة أمرني ربي أن لا أدع عمل من يغتاب الناس يتجاوزني إلى ربي) (المحجة البيضاء: ج6، ص142).

8- قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (مررت ليلة أُسري بي، على قوم يخمشون وجوههم بأظفارهم، فقلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟  فقال: هؤلاء الذين يغتابون الناس، ويقعون في أعراضهم) (مجموعة ورام: ص115).

9- قال(صلى الله عليه وآله): (رأيت ليلة الإسراء رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قيل: من هم؟ قال: الذين يغتابون الناس) (المستدرك: ج9، ص126).

10- قال(صلى الله عليه وآله): (إن عذاب القبر من النميمة، والغيبة، والكذب) (جامع الأخبار: ص172).

وما مرّ في مضامين هذه الأحاديث الشريفة عن النبي (صلى الله عليه وآله) من أعظم ما يوصف به ذنب من الذنوب، وهو دليل على عِظم الغيبة عند الله وسوء عاقبتها في الدنيا والآخرة، فلابد من تطهير ألسنتنا منها ثم لتطهر مجتمعاتنا شيئاً فشيئاً من هذا الداء الخطير.

بواعث الغيبة:

الأسباب الباعثة على الغيبة كثيرة، ونحن نشير إلى بعضها إجمالاً:

الأول: تشفي المغتاظ وذلك إذا غضب على شخص لسبب ما، فإنه إذا هاج غضبه يتشفى بذكر مساوئ هذا الشخص، وسبق اللسان إليه بالطبع إن لم يكن عنده دين وورع، فيصير حقدا ثابتا فيكون سببا دائما لذكر المساوئ، فالحقد والغضب من البواعث العظيمة على الغيبة.

الثاني: موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء ومساعدتهم على الكلام، فإنهم إذا كانوا يتفكهون بذكر الأعراض، فيرى أنه لو أنكر أو قطع المجلس استثقلوه ونفروا عنه، فيساعدهم ويرى ذلك من حسن المعاشرة ويظن أنه مجاملة في الصحبة.

الثالث: إرادة الافتخار والمباهاة وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره، فيقول: فلان جاهل وفهمه ركيك وكلامه ضعيف، وغرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه ويريهم أنه أفضل منه، أو يحذر أن يعظم مثل تعظيمه فيقدح فيه لذلك.

الرابع: الحسد، وهو أنه ربما يحسد من يثني الناسُ عليه ويحبونه ويكرمونه، فيريد زوال تلك النعمة عنه، فلا يجد سبيلا إليه إلا بالقدح فيه، فيريد أن يسقط اعتباره عند الناس، حتى يكفّوا عن إكرامه والثناء عليه، لأنه يثقل عليه أن يسمع ثناء الناس عليه وإكرامهم له وهذا هو الحسد، والحقد والحسد قد يكونا مع الصديق المحسن والقريب الموافق.

الخامس: اللعب والهزل وقضاء الوقت بالضحك، فيذكر غيره بما يُضحك الناس عليه، وهذا الفعل من اللهو المحرم.

السادس: السخرية والاستهزاء استحقارا له، فإن ذلك كما يجري في الحضور فإنه يجري أيضا في الغيبة ومنشؤه التكبر واستصغار للمستهزأ به.

السابع: الرحمة، وهو أن يحزن ويغتم بسبب ما ابتلي به غيره، فيقول: المسكين فلان قد غمّني ما ارتكبه من القبح، أو ما حدث به من الإهانة والاستخفاف! فيكون صادقا في اغتمامه، إلا أنه لما ذكر اسمه وأظهر عيبه صار مغتابا، وقد أمكن له الاغتمام بدون ذكر اسمه وعيبه، فأوقعه الشيطان فيه ليبطل ثواب حزنه ورحمته.

الثامن: الغضب لله تعالى، فإنه قد يغضب على مُنكَر قارفه إنسان فيُظهِر غضبه ويذكر اسمه ليبطل به على غير وجه النهي عن المنكر، وكان الواجب أن يظهر غضبه عليه على ذلك الوجه خاصة، وهذا مما يقع فيه الخواص أيضا فإنهم يظنون أن الغضب إذا كان لله تعالى كان عذرا كيف كان وليس كذلك.

هذا وقد روي عن مولانا الصادق(عليه السلام) التنبيه عليها إجمالا بقوله(عليه السلام): (أصل الغيبة تتنوع بعشـرة أنواع: شفاء غيظ، ومساعدة قوم، وتصديق خبر بلا كشف، وتهمة، وسوء ظن، وحسد، وسخرية، وتعجب وتبرم، وتزين...) (المستدرك: ج9، ص117).

علاج الغيبة:

إن الطريق في علاج الغيبة اجمالاً، يمكن بيانه في النقاط التالية:

1- مضافا إلى ذم الغيبة الوارد في الآيات والروايات، فإن العقل أيضا حاكم بأن الغيبة أخبث الرذائل، وقد كان السلف لا يرون العبادة في الصوم والصلاة، بل في الكف عن أعراض الناس، لأنه كان عندهم أفضل الأعمال، ويرون خلافه صفة المنافقين، ويعتقدون أن الوصول إلى المراتب العالية في الجنة يتوقف على ترك الغيبة، لما ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنه قال: (من حَسُنت صلاتُه وكثُر عيالُه، وقلَّ مالُه ولم يغتبْ المسلمين، كان معي في الجنة كهاتين) (جامع السعادات: ج2، ص235).

2- أن يتذكر مفاسدها الأخروية والتي ذكرت بعضها الآيات والروايات المتقدمة، بأن يعلم أنه بغيبته سوف يتعرض لسخط الله تعالى، وأن يعلم بأن الغيبة تحبط حسناته، فإنها تنقل في القيامة حسناته إلى من اغتابه بدلا عما أخذ من عرضه، فإن لم يكن له حسنات نُقل إليه من سيئات المغتاب، ولا ريب في أن العبد يدخل النار إذا ترجحت كفة سيئاته، وربما تنقل إليه سيئة واحدة مما اغتاب به مسلما، فيحصل به الرجحان ويدخل لأجله النار، وأقل ما في المقام أن ينقص من ثواب صالحات أعماله، وذلك بعد المخاصمة والمطالبة والسؤال والجواب والمناقشة في الحساب وهذه كلها من شدائد يوم القيامة، فإن أصل الوقوف للحساب يوم القيامة من أهوال القيامة فضلاً عن نفس الحساب، كما فيه من المهانة والخوف من العقاب وذل السؤال وغيره مما لا يحصى ولا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.

روي عن بعضهم: (أن رجلا قيل له: إن فلانا قد اغتابك، فبعث إليه طبقا من رطب، وقال: بلغني أنك قد أهديت إليّ من حسناتك، فأردت أن أكافيك عليها، فاعذرني، فإني لا أقدر أن أكافيك على التمام) وهو مع ذلك متعرض لمقت الله تعالى ومشبّه عنده بأكل الميتة، إلى غير ذلك من المفاسد.

3- أن يتذكر مفاسدها في الدنيا، فإنه قد تصل الغيبة إلى من اغتيب، فتصير منشأ لعداوته أو لزيادة عداوته، فيتعرض لإيذاء المغتاب وإهانته، وربما انجر الأمر بينهما إلى ما لا يمكن تداركه من الضرب والقتل وأمثال ذلك.

4- وينفعه أن يتذكر عيوب نفسه ولا يغفل عنها، فيتجسس على عيوب إخوانه، ويظهرها بين الناس، فما باله يبصر القذى في عين أخيه، ولا يبصر الجذع في عينه.

فإذا أردت أن تذكر عيوب غيرك، فتذكر عيوبك، وتيقّن بأنك لن تصيبَ حقيقةَ الإيمان، حتى تمتنع من أن تعيب الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بإصلاح ذلك العيب في نفسك، وإذا كان شغلك إصلاح عيوب نفسك، لم تكن فرصة للاشتغال بغيرك، ففي الحديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: (من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره) (نهج البلاغة: ج4، ص81)، وطوبى لمن أشغلته عيوبه عن عيوب الناس، وحينئذ كنت من أحب العباد إلى الله لقول النبي(صلى الله عليه وآله): (طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب المؤمنين من إخوانه) (الوسائل: ج15، ص289).

فيجب أن يتدبر الإنسان في نفسه فإن وجد فيها عيبا، فينبغي أن يستحيي من أن يترك نفسه ويذم غيره، بل ينبغي أن يعلم أن عجز الغير في التنزه عن ذلك العيب كعجزه إن كان ذلك عيبا يتعلق بفعله واختياره، وإن كان أمرا خَلْقيا فالذم له ذم للخالق، فإن من ذم صنعة فقد ذم الصانع، قال رجل لبعض الحكماء يا قبيح الوجه فقال: (ما كان خَلق وجهي إلي فأحسّنه).

وإن لم يجد عيبا في نفسه فليشكر الله ولا يلوث نفسه بأعظم العيوب، فإنّ ذِكْر عيوب الناس وأكْل لحم الميتة من أعظم العيوب فيصير حينئذ ذا عيب، بل لو أنصف من نفسه، لعلم أنّ ظنّه بنفسه أنه بريء من كل عيب هو حقيقة الجهل بنفسه وهو من أعظم العيوب.

5- وينفعه أن يعلم أنّ تألم غيره بغيبته كتألمه بغيبة غيره له، فإذا كان لا يرضى لنفسه أن يغتاب فينبغي أن لا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه، فعن المعلى بن خنيس، عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) قلت له: (ما حق المسلم على المسلم؟ قال:... أيسر حق منها أن تحب له ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك) (الوسائل: ج12، ص205).

6- إن العاقل ينبغي أن يتأمل في أن من يغتابه إن كان صديقا ومحبا له، فإظهار عيوبه وعثراته بعيد عن المروة والإنصاف، وإن كان عدوا له، فتحمل خطاياه ومعاصيه ونقل حسناته إلى ديوانه غاية الحماقة والجهل.

7- وبعد ذلك فليراقب لسانه، ويُقدِّم التروِّي في كل كلام يريد أن يتكلم به، فإن تضمن غيبة سكت عنه، وكلَّف نفسه ذلك على الاستمرار، حتى يرتفع عن نفسه الميل الجلي والخفي إلى الغيبة.

 

لتحميل الملف