إن الرياء داء عضال يغضب الرب، والتحذير منه وصية الأنبياء، فإن الله عز وجل حذّرنا من الرياء في الأقوال والأفعال وذلك في كثير من آيات القرآن الكريم، لسوء عاقبته، وخدشه في التوحيد، وبيّن لنا سبحانه أن الرياء يحبط الأعمال الصالحة، وهكذا الروايات الواردة عن النبي وآله (صلوات الله عليهم أجمعين) حذّرت من الرياء وشددت حرمته، وبعد هذا وذاك فإن الرياء مرض نفسي واجتماعي قلّما تخلو منه مجتمعاتنا الإسلامية، وله آثار خطيرة على مستوى الفرد والمجتمع.
وهذه المحاولة تقع في إطار محاربة بعض الظواهر الاجتماعية التي تبتلى بها مجتمعاتنا، وإيجاد الحلول الناجعة لها عن طريق استعراض الآيات الكريمة والروايات الشريفة التي تعرضت لها، وبيان المساوئ الدنيوية والأخروية التي تنجم منها، لنصل في النهاية إلى تصور كامل عن هذا الداء الخطير الذي يحبط العمل ويسخط الرب ويترك الإنسان فريسة ذنوبه وآثامه حيث لا منجي يومئذ من الله وعذابه إلا من أتى الله بقلب سليم.
معنى الرياء:
الرياء لغة: مصدر قولهم: راءاه يرائيه رياء ومراءاة، وهو مشتق من الرؤية، والمراد به إظهار العبادة، ليراها الناس فيحمدوا صاحبها.
والرياء اصطلاحاً: وهو طلب المنزلة في قلوب الناس بإراءتهم خصال الخير أو ما يدل عليها من الآثار، بأي عمل اتفق، فهو من أصناف طلب الجاه.
الرياء في القرآن الكريم:
قد ورد ذم الرياء في الكتاب في آيات عديدة:
1- قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ...) (البقرة:264)، فقد قرن الله تعالى في هذه الآية الشريفة بين الرياء وإبطال العمل.
2- وقال تعالى:(وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) (النساء:38)، وهنا عطف الله تعالى عدم الإيمان بالله ولا باليوم الآخر على الرياء، واعتبرهما صفتين متلازمتين في الإنسان فمتى وجدت الأولى وجدت الأخرى.
3- وقال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ) (النساء:142)، وهنا يبين الله سبحانه صفتين للمرائي، وهما الكسل عن العبادة في الخلوة، وخداع الناس، وبين واقع الحال وهو أن المخدوع نفس المرائي لا الناس، لأنه في الحقيقة يخسر عمله في الآخرة ولا يحصل من الناس على شيء.
4- وقال تعالى: (يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء:142)، وهذه صفة المرائي الرئيسية، وهي عدم ذكر الله تعالى حقيقة بينه وبين نفسه إلا قليلاً، فهو ليس له دافع يدفعه إلى العمل لله تعالى بل يعمل لإرضاء الناس.
الرياء في الروايات:
1- المرائي مشرك:
قال شدّاد بن أوس: رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يبكي فقلت: ما يبكيك؟ قال: (إني تخوفت على أمتي الشرك، أما إنهم لا يعبدون صنماً ولا شمساً ولا قمراً ولكنهم يراءون بأعمالهم) (شرح النهج: ج2، ص179) وهذا الحديث الشريف صريح في وصف المرائي بالمشرك، فهو يشرك في عمله الذي يكون لله غيرَه من خلقه.
وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله عز وجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالها: أذهبوا إلى الذي كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا: هل تجدون عندهم الجزاء) (البحار: ج69، ص266)، وقال أبو عبدالله(عليه السلام): (كل رياء شرك، إنه من عمل للناس كان ثوابه على الناس ومن عمل لله كان ثوابه على الله) (الكافي: ج2، ص296).
2- المرائي يخدع نفسه: عن الإمام الصادق عن أبيه(عليه السلام): إن رسول الله(صلى الله عليه وآله) سُئل: (فيما النجاة غداً فقال: إنما النجاة في أن لا تخادعوا الله فيخدعكم، فإنه من يخادع الله يخدعه، ويخلع منه الإيمان، ونفسَه يخدع لو يشعر، فقيل له: وكيف يخادع الله؟ قال: يعمل بما أمره الله، ثم يريد به غيره، فاتقوا الله واجتنبوا الرياء، فإنه شرك بالله، إن المرائي يُدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، حبط عملك وبطل أجرك، ولا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له) (الأمالي: ص678).
3- الجنة حرام على المرائي: عن النبي(صلى الله عليه وآله) قال: (إن الجنة تكلمت وقالت: إني حرام على كل بخيل ومُراء) (أسرار الصلاة: ص142).
4- المرائي لا يستحي من الله: عن الكاظم(عليه السلام) أنه قال: (وينبغي للعاقل إذا عمل عملاً أن يستحيى من الله - إذ تفرّد بالنعم - أن يشارك في عمله أحداً غيره) (تحف العقول: ص297).
5- جهنم تعج من المرائين: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (إن النار وأهلها يعجون من أهل الرياء، فقيل: يا رسول الله وكيف تعج النار؟ قال: من حَرِّ النار التي يعذبون بها) (أسرار الصلاة: ص142).
6- جزاؤه النار: عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله(عليه السلام) يقول: (يجاء بالعبد يوم القيامة قد صلى فيقول: يا رب قد صليت ابتغاء وجهك، فيقال له: بل صليت ليقال: ما أحسن صلاة فلان اذهبوا به إلى النار) (الوسائل: ج1، ص72)، وعن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قال النبي(صلى الله عليه وآله): (إن المَلَك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به فإذا صعد بحسناته يقول الله عز وجل: اجعلوها في سجين إنه ليس إياي أراد بها) (الكافي: ج2، ص296).
7- المرائي يكله الله إلى من عمل له: عن أبي عبد الله(عليه السلام): (أنه قال لعبّاد بن كثير البصري في المسجد: ويلك يا عباد إياك والرياء فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى مَن عمل له) (الكافي: ج2، ص296).
8- المرائي منافق: عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق) (الكافي: ج2، ص291)، وهذا الوصف الدقيق هو حقيقة الرياء، إذ الرياء أن لا يكون ما يظهر على تصرفات الشخص نابعاً من قلبه ونيته في العبادة، بل هو لأمر آخر، وهو إراءة الناس ذلك، لكسب مدحهم وثوابهم من دون الله.
9- الله يقلل عمل المرائي في أعين الناس: عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: (من أراد الله عز وجل بالقليل من عمله أظهر الله له أكثر مما أراد، ومن أراد الناس بالكثير من عمله في تعب من بدنه وسهر من ليله أبى الله عز وجل إلا أن يقلله في عين من سمعه) (الكافي: ج2، ص296)، وهذه العقوبة وحدها كافية لردع المرائي عن الرياء لو تأمل وأنصف من نفسه، وسبحان الله الرحيم كيف يردع الإنسان عن الوقوع في الهلكة وينقذه منها بعقوبته.
10- علامات المرائي: قال أمير المؤمنين(عليه السلام): (ثلاث علامات للمرائي: ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان وحده، ويحب أن يحمد في جميع أموره) (الكافي: ج2، ص296).
أسباب الرياء:
إن أصل الرياء هو حب الدنيا ونسيان الآخرة، وقلة التفكر فيما عند الله، وقلة التأمل في آفات الدنيا وعظيم نِعَم الآخرة وأصل ذلك كله حب الدنيا وحب الشهوات، وهو رأس كل خطيئة، ومنبع كل ذنب لأن العبادة إذا كانت لله تعالى كانت خالية من كل ما يشوبها لا يريد بها إلا وجه الله تعالى والدار الآخرة، وميل الإنسان إلى حب الجاه، والمنزلة في قلوب الناس، والرغبة في نعيم الدنيا، هو الذي يعطب القلب، ويحول بينه وبين التفكر في العاقبة والاستضاءة بنور العلوم الربانية، وقد ذكرت للرياء أسباب عديدة، ومعرفتها مفيدة في العلاج، ومفيدة للوقاية منه، وسنتعرض لبيان بعضها على النحو الآتي:
1- النشأة الأولى: إذ قد ينشأ الولد في أحضان بيت دأبه وديدنه الرياء أو السمعة، فينشأ على هذا الأمر حتى يصبح جزء لا يتجزأ من شخصيته.
2- الصحبة أو الرفقة السيئة: وقد تحتويه صحبة أو رفقة سيئة، لا همّ لها إلا الرياء أو السمعة، فيقلدهم ويحاكيهم، لاسيما إذا كان ضعيف الشخصية، شديد التأثر بغيره، وبتوالي الأيام يتمكن هذا الداء من نفسه، ويطبعها بطابعه، لذلك من الضروري أن تكون الصحبة طيبة تحترم شرع الله وتعمل به.
3- الرغبة في الصدارة أو المنصب: وقد تدفع الرغبة في الصدارة أو في المنصب إلى الرياء أو السمعة، حتى يثق به من بيدهم هذا الأمر، فيجعلوه في الصدارة أو يبوءوه المنصب، ولعل ذلك هو السر في تأكيد الإسلام على اختبار أو ابتلاء الناس قبل الوثوق بهم، أو الركون إليهم لاسيما إذا كانوا على حال يتوقع منهم ذلك.
4- الطمع بما في أيدي الناس: وقد يحمله الطمع بما في أيدي الناس، والحرص على الدنيا إلى الرياء أو السمعة ليثق به الناس، وترق قلوبهم له فيعطونه ما يملئ جيبه، ويُشبع بطنه.
5- إشباع غريزة حب الثناء من الناس: وقد يدعوه حب المحمدة، أو الثناء من الناس إلى الرياء وتنتفخ نفسه، بذلك والعياذ بالله.
6- إظهار الآخرين إعجابهم به وبما يصدر عنه من أعمال: وقد يكون إظهار الآخرين إعجابهم به وبما يصدر عنه من أعمال، هو الباعث على الرياء أو السمعة، كي يكون هناك مزيد من هذا الإعجاب.
7- الجهل أو الغفلة عن العواقب أو الآثار الناجمة عن الرياء أو السمعة: وأخيرًا قد يكون الجهل أو الغفلة عن العواقب أو الآثار الناجمة عن الرياء أو السمعة هي السبب في مراءاة الناس، فإن من جهل أو غفل عن عاقبة شيء ما، لا سيما إذا كانت هذه العاقبة ضارة، تؤدي إلى هذا الفعل ولازمه، حتى يصير خُلُقاً له.
علاج الرياء:
أما الأدوية العلمية القالعة لجذور الرياء فمنها:
1- استحضار مراقبة الله تعالى للعبد: فقد ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنه قال في وصيته لأبي ذر: (يا أبا ذر اعبد الله كأنك تراه، فإن كنت لا تراه، فإنه يراك) (الأمالي: ص526)، فمن استشعر رقابة الله له في أعماله يهون في نظره كل أحد، ويوجب له ذلك التعظيم والمهابة لله تعالى.
2- أن يسعى الإنسان إلى الاتصاف بصفة الصلاح والإخلاص: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (إن أعلى منازل الإيمان درجة واحدة، من بلغ إليها فقد فاز وظفر وهو أن ينتهي بسريرته في الصلاح إلى أن لا يبالي لها إذا ظهرت ولا يخاف عقابها إذا استترت) (البحار: ج71، ص369).
3- ليعلم أن الرياء مُوجِب للمَقت من الله ومعرِّض للخزي في الدنيا والآخرة: حيث ينادى على المرائي يوم القيامة على رؤوس الأشهاد: يا فاجر يا غاوي يا مرائي أما استحيت إذ اشتريت بطاعة الله عَرَض الدنيا، راقبت قلوب العباد واستهزأت بطاعة الله وتحبّبت إلى العباد بالتبغّض إلى الله، وتزينت لهم بالشين عند الله وتقرّبت إليهم بالبعد من الله وطلبت رضاهم بالتعرض لسخط الله، أما كان أحد أهون عليك من الله) (مجموعة ورام: ص99).
4- الرياء يعرّض صاحبه في الدنيا إلى الهمّ بسبب ملاحظة قلوب الخلق: فإن رضا الناس غاية لا تُدرك، فكلما رضي عنه فريق سخط عليه فريق آخر، ومن طلب رضا الناس في سخط الله سخط الله عليه وأسخطهم أيضاً عليه.
5- أن يتذكر المرائي أن مدح الناس وذمهم لا ينفعه عند الله يوم القيامة: وأي غرض يتحقق له في مدح الناس وإيثار ذم الله تعالى لأجل حمدهم؟.
6- ليعلم المرائي أن الناس لو علموا ما في باطنه من قصد الرياء وإظهاره الإخلاص لمقتوه: وسيكشف الله تعالى عن سره حتى يُبغِّضه إليهم و يُعرِّفهم أنه مراءٍ ممقوت عند الله تعالى، ولو أخلص لله لكشف الله لهم إخلاصه وحبّبه إليهم وسخّرهم له وأطلق ألسنتهم بحمده.
7- ليعلم المرائي أن مدح الناس لا ينفعه وهو مذموم عند الله ومن أهل النار: وذمهم لا يضره وهو محمود عند الله في زمرة المقربين وكيف يضره ذمهم أو كيدهم والنبي(صلى الله عليه وآله) يقول: (من آثر محامد الله على محامد الناس كفاه الله مؤنة الناس) (عدة الداعي: ص216)، وقال النبي(صلى الله عليه وآله): (من أصلح أمر آخرته أصلح الله أمر دنياه، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس) (عدة الداعي: ص216).
8- ينبغي أن يذكر الإنسان شدة حاجته وقوة فاقته يوم القيامة إلى ثواب أعماله: فإنه (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ* إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء:88- 89)، فإن العمل الصالح يقول لصاحبه عند أهوال القيامة: (اركبني ولطالما ركبتك في الدنيا فيركبه ويتخطى به شدايدها) (عدة الداعي: ص216).
9- ترك صحبة المعروفين بالرياء: ثم الارتماء في أحضان المخلصين الصادقين، فإن ذلك له دوره في إقلاع النفس عن هذه الآفة، حتى تبرأ منها تماماً.
10- الوقوف على أخبار المرائين، ومعرفة عواقبهم: فإن ذلك مما يساعد على تجنب هذا الداء، أو هذه الآفة، لئلا تكون العاقبة كعاقبة هؤلاء.
وأما الدواء العملي فإنه يعوّد نفسه إخفاء العبادات ويغلق دونها الأبواب كما يفعل بالفواحش ويقنع باطلاع الله وعلمه، ولا ينازع نفسه إلى طلب علم غير الله فلا دواء أنجح من ذلك، وكان عيسى(عليه السلام) يقول للحواريين: (إذا صام أحدكم صوماً فليدهن رأسه ولحيته ويمسح شفتيه بالزيت لئلا يرى الناس أنه صائم، وإذا أعطى بيمينه فليُخفِ عن شماله، وإذا صلى فليرخِ ستر بابه، فإن الله يقسّم الثناء كما يقسّم الرزق) (عدة الداعي: ص220)، وذلك وإنْ شقّ في بداية المجاهدة، لكن إذا صبر عليه مدة بالتكلف سقط عنه ثقله وهان عليه بتواصل ألطاف الله وما يمده به من حسن التوفيق والتأييد: (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الرعد:11)، فمِنَ العبد المجاهدة ومِنَ الله الهداية: (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (التوبة:120).