أهمية التوبة:
التوبة أول مقامات الدين، ورأس مال السالكين، ومفتاح استقامة السائلين، ومطلع التقرب إلى رب العالمين، مَدْحُها عظيم، وفضلُها جسيم، قال الله تعالى: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة:222)، وناهيك في فضلها أنّها بلسم الذنوب، وسفينة النجاة، وصمّام الأمن من سخط الله تعالى وعقابه، وقد أبَت العناية الإلهية أن تُهمل العصاة يتخبطون في دياجير الذنوب، ومجاهل العصيان، دون أن يسعهم الله بعطفه السامي، وعفوه الكريم، فشوَّقهم إلى الإنابة، ومهَّد لهم التوبة، فقال سبحانه: (وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الأنعام:54)، وقال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر:53).
وقال عز وجل: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً) (نوح:10- 12)، وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (التائب حبيب الله، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له) (جامع السعادات: ج3، ص51).
وقال الإمام الباقر(عليه السلام): (إن الله تعالى أشدُّ فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها) (الكافي: ج2، ص435).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): (إذا تاب العبد توبة نصوحا، أحبه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة، فقلت: وكيف يستر عليه؟ قال: يُنسِي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب ويوحي إلى جوارحه: اكتمي عليه ذنوبه ويوحي إلى بقاع الأرض اكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب، فيلقى الله عز وجل حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب) (الكافي: ج2، ص430).
وعنه(عليه السلام): (ما من مؤمن يقارف في يومه وليلته أربعين كبيرة فيقول وهو نادم: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيّوم بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام وأسأله أن يصلي على محمد وآل محمد وأن يتوب عليّ، إلا غفرها الله له، ولا خير فيمن يقارف في يومه أكثر من أربعين كبيرة) (الوسائل: ج15، ص333).
معنى التوبة:
التَّوْبةُ في اللّغة: الرُّجُوعُ من الذَّنْبِ، يقال: تابَ إلى الله يَتُوبُ تَوْباً وتَوْبةً ومَتاباً: أَنابَ ورَجَعَ عن المَعْصيةِ إلى الطاعةِ، واسْتَتَبْتُ فُلاناً: عَرَضْتُ عليه التَّوْبَةَ مما اقْتَرَف، أَي: الرُّجُوعَ والنَّدَمَ على ما فَرَطَ منه، واسْتَتابه: سأَلَه أَن يَتُوبَ.
وأما التّوبة في الاصطلاح الشّرعي: فقد اختلفت الكلمات في معناها على أقوال: فقيل: النّدم على الذّنب لكونه ذنباً، وقد يزاد بالإضافة إلى ما تقدم هذا القيد: مع العزم على ترك المعاودة أبداً، والظّاهر: أنّ هذا العزم لازم لذلك النّدم غير منفك عنه، وقيل: النّدم على المعصية، لكونها معصية، والعزم على ترك المعاودة في المستقبل، لأنّ ترك العزم يكشف عن نفي النّدم.
حقيقة التوبة:
لا تتحقق التوبة الصادقة النصوح إلا بعد تبلورها، واجتيازها أطواراً ثلاثة:
فالطور الأول: هو طور يَقظَة الضمير، وشعور المذنب بالأسى والندم على معصية الله تعالى، وتعرضه لسخطه وعقابه، فإذا امتلأت نفس المذنب بهذا الشعور الواعي انتقل إلى:
الطور الثاني: وهو طور الرجوع إلى الله عز وجل، والعزم الصادق على طاعته، ونبذ عصيانه، فإذا ما أنس بذلك تحول إلى:
الطور الثالث: وهو طور تصفية النفس من رواسب الذنوب، وتلافي سيئاتها بالأعمال الصالحة الباعثة على توفير رصيد الحسنات، وتلاشي السيئات، وبذلك تتحقق التوبة الصادقة النصوح.
وليست التوبة هزلاً عابثاً، ولقلقةً يتشدق بها اللسان، وإنما هي: الرجوع الصادق إلى اللّه تعالى، ومجافاة عصيانه بعزم وتصميم قويين، والمستغفر بلسانه وهو سادر في المعاصي مستهتر كذّاب، كما قال الإمام الرضا (عليه السلام): (المستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربه) (الكافي: ج2، ص504).
مخاطر تأخير التوبة:
إن لتأخير التوبة وتسويف الإقلاع عن الذنوب مخاطر كبيرة، نذكر منها:
أولاً: إن تأخير التوبة مدعاة لأن يخسر الإنسان لطف الله تعالى في محو المعصية والعفو عن الذنب عاجلاً، فالكثير من النصوص الدينية تشير إلى أن الله سبحانه وتعالى إنما يمحو الذنب عن عباده إذا ما سارعوا إلى التوبة حتى كأنهم لا ذنب لهم، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن العبد إذا أذنب ذنبا أجّل من غدوة إلى الليل، فإن استغفر الله لم يكتب عليه) (الكافي: ج2، ص437).
وعنه (عليه السلام): (العبد المؤمن إذا أذنب ذنباً أجَّلَه الله سبع ساعات، فإن استغفر الله لم يُكتب عليه شيء، وإن مضت الساعات ولم يستغفر كتبت عليه سيئة، وإنَّ المؤمنَ ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتى يستغفر ربه فيغفر له) (الكافي: ج2، ص437)، وكأن في ذلك - بمقتضى قول الإمام (عليه السلام) -
فرصة للإنسان للمراجعة والتوبة قبل أن تكتب عليه معاصيه.
ثانياً: ينطوي تأجيل التوبة على مخاطر، منها: ضعف إرادة المرء، واهتزاز وفتور عزيمته على التوبة، ويعود ذلك إلى أن الإنسان كلما استمر في القبول بالذنب وممارسته فإنه يتكيف معه ويتطبع به، من هنا تأتي أهمية اقتناص لحظات الهداية لاتخاذ قرار التوبة، حذراً من فوات هذه الفرصة، وبهذا نفهم قول الله تعالى حين يتحدث في محكم كتابه الكريم عن المسارعة إلى التوبة:(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء:17).
ومضمون التعبير القرآني: (يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ)، أي: لا يتأخرون في التوبة، وورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (لا دين لمُسوِّفٍ بتوبته) (موسوعة أحاديث أهل البيت: ج2، ص268)، وفي ذلك إشارة خطيرة من الإمام (عليه السلام) بأن من يُسوّف التوبة سيكون عرضة لفقدان الحالة الدينية في نفسه.
ثالثاً: عدم ضمان المرء لحياته، فإلى متى سوف يؤجّل المرء التوبة ومتى سيقلع عن الذنب، أتراه يضمن حياته، أفلا يخشى هجوم الأجل عليه وهو بعد لم ينجز التوبة؟ ورد عن الإمام علي (عليه السلام): (مسوّف نفسه بالتوبة، من هجوم الأجل على أعظم خطر) (المستدرك: ج12، ص130).
فعلى الإنسان أن يبادر إلى التوبة بمجرد أن يتنبه إلى الخطأ والمعصية، وهذا ما يوجه إليه الإمام الجواد (عليه السلام) بقوله: (تأخير التوبة اغترار - أي حالة من الغرور يعيشها الإنسان الذي يعتقد بطول الأمل والعمر- وطول التسويف حيرة
- أي يجعل الإنسان حائراً بين الصح والخطأ من حيث السلوك - والاعتلال على الله هلكة - أي يتحجج بالعثور على فرصة مناسبة، في وقت آخر، هذه كلها أعذار: (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) - والإصرار على الذنب أمن لمكر الله: (أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)) (تحف العقول: ص456).
أركان التوبة وشروطها:
التوبة هي الإقلاع عن الذنب، ويعتبر في تحقّقها ثلاثة قيود:
الأول: ترك الفعل في الحال.
الثاني: الندم على الماضي من الأفعال.
الثالث: العزم على الترك في الاستقبال.
جاء في نهج البلاغة أنه قال أمير المؤمنين(عليه السلام) لقائل قال بحضرته: (استغفر الله: ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العلّيين وهو اسم واقع على ستة معانٍ:
أولها: الندم على ما مضى.
والثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً.
والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة.
والرابع: أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّها.
والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد.
والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: أستغفر الله) (نهج البلاغة: ج4، ص97).
يشتمل هذا الحديث الشريف الذي نقله السيد الرضي (أعلى الله مقامه) عن إمام الموحّدين علي(عليه السلام)، على ركنين من أركان التوبة هما: الندامة، والعزم على ترك العودة.
فالندامة إقرار بالخطأ والذنب الذي اقترفه، وهذه بداية الانعطاف عن طريق المعصية والرجوع إلى طريق الطاعة.
وأما العزم على ترك العودة إليه، فهو توطين للنفس أن لا تعود إلى هذا الطريق بعد أن عرف أنه طريق خاطئ يؤدي به إلى الهلكة، وعرف طريق الحق الذي يوصله إلى الرضوان والطاعة، فهذان الأمران هما حقيقة التوبة وقوامها.
ويشتمل هذا الحديث أيضا على شرطين مهمين للقبول هما: إرجاع حقوق المخلوق لأهلها، وأداء حقوق الخالق سبحانه، وهذان الأمران مطلوبان، لأن العمل السابق الذي عمله بجهالة يمكن أن تترتب عليه تبعات بالنسبة للمخلوقين أو الخالق، وهذه التبعات لا تزول بمجرد ترك الذنوب، بل لابد من تداركها بعملٍ ما، حسب نوع الذنب، لكي يضمن أن لا يحاسب على ذنبه يوم القيامة، وسيأتي بيان الجانب العملي للتوبة من الذنب.
وأما الأمران الأخيران وهما الخامس والسادس، فهما من شروط كمال التوبة، أي: أن التوبة الكاملة لا تتحقّق ولا تقبل من دونهما.
الطريق العملي للتوبة:
اعلم أن التوبة من الذنب وكيفية الخروج عنها تختلف بحسب نوع الذنوب التي كان يقارفها الإنسان، لأن المعاصي إما من حقوق الله وهي التي بينه وبين الله، أو حقوق الناس وهي التي بينه وبين المخلوق، والأولى -أي: حقوق الله- إما: واجبات أو محرمات، فهذه أقسام ثلاثة للتوبة:
الأول: فإذا كان قد ترك الطاعات الواجبة بينه وبين الله تعالى من الصلاة، والصوم، والزكاة، والخمس والكفارة وغيرها، فطريق التوبة عنها: أن يندم على ما فرّط في طاعة الله، ويعزم على تعويض ما فات، وذلك بأن يعلم مقدار ما تركه من الطاعات إن كان متيسراً، أو يجتهد في تحصيل هذا المقدار إن كان متعسراً، ثم يبادر في قضائه ولا يتهاون في ذلك، حتى يحصل له اليقين بفراغ الذمة عن الواجب المكلف به.
الثاني: وإذا كان قد فعل المحرمات التي بينه وبين الله، أعني المنهيات: كشرب الخمر، وضرب المزامير، والكذب، والزنا بغير ذات بعل - والعياذ بالله-، فطريق التوبة عنها: أن يندم عليها، ويوطن قلبه على ترك العود إلى مثلها أبداً.
الثالث: وأما إذا كان قد قارف الذنوب التي بينه وبين العباد، وهي المعبر عنها بحقوق الناس، وهي إما في المال، أو في النفس، أو في العرض، فالأمر فيها أصعب وأشكل: فما كان في (المال): يجب عليه أن يرده إلى صاحبه إن أمكنه، فإن عجز عن ذلك لِعُدم أو فقر، وجب أن يستحل منه، وإن لم يحله أو عجز عن الوصول إليه لغيبة الرجل غيبة منقطعة أو موته وعدم بقاء وارث له، فليتصدق عنه إن أمكنه، وإلا فعليه بالتضرع والابتهال إلى الله أن يرضيه عنه يوم القيامة، وعليه بتكثير حسناته هو وتكثير الاستغفار لصاحبه، ليكون يوم القيامة عوضاً عن حقه، إذ كل مَن له حق على غيره لا بد أن يأخذ يوم القيامة عوضاً عن حقه، إما بعض طاعاته أو بتحمل هذا الغير بعض سيئاته.
وما كان في (النفس): فإن كانت جناية جرت عليه خطأ وجب أن يعطي الدية، وإن كان عمداً وجب عليه أن يمكّن المجني عليه أو أولياءه - مع هلاكه - من القصاص حتى يقتص منه، أو يجعله في حل، وإن عجز عن ذلك فعليه الرجوع أيضاً إلى الله بالتضرع والابتهال أن يرضيه عنه يوم القيامة.
وما كان في (العرض): بأن شتم أحدا، أو قذفه، أو بهته، أو اغتابه، فحقه أن يكذّب نفسه عند من قال ذلك لديه، ويستحل من صاحبه مع الإمكان، إن لم يخف تهديده وزيادة غيظه وهيجان فتنته من إظهاره، فإن خاف ذلك، فليكثر الاستغفار له، ويبتهل إلى الله أن يرضيه عنه يوم القيامة.
ومجمل ما يلزم في التوبة عن حقوق الناس: إرضاء الخصوم مع الإمكان، وبدونه التصدق وتكثير الحسنات والاستغفار، والرجوع إلى الله بالتضرع والابتهال، وليرضيهم عنه يوم القيامة، ويكون ذلك بمشيئة الله، فلعله إذا علم الصدق من قلب عبده، ووجد ذله وانكساره، ترحم عليه وأرضى خصماءه من خزانة فضله، فلا ينبغي لأحد أن ييأس من روح الله.
وأخيراً نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المبادرين إلى التوبة وأن يتقبلها منا بقبول حسن ويوفقنا لكل خير وصلاح.