الإسراف أسبابه وآثاره وطرق علاجه

الإسراف أسبابه وآثاره وطرق علاجه

معنى الإسراف وأنواعه:

الإسراف بمعنى تجاوز الحد والزيادة عليه، وذلك إما من جهة الكمية كما لو صرف المال في شراء عدد أكثر مما يحتاجه من الملابس مثلاً، بأن كان يحتاج إلى خمسة قطع من الملابس فاشترى عشرة، وكما في صرف المال في موضع غير مناسب شرعا أو عقلا حتى لو كان المال بمقدار درهم واحد، أو من جهة الكيفية، كما في صرف المال لشراء شيء بصفة أزيد مما يحتاجه بأن اشترى سيارة مثلاً بمواصفات أزيد مما يحتاجه، أو أن يشتري لباسا بقيمة خمسمائة دينار ويلبسه والحال أن اللباس الذي يناسبه ويليق بحاله يساوي مائة دينار.. فهو إسراف وإن كان صرف المال في موضع مناسب لكن بأكثر مما يستحق، وقد أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى هذا المعنى بقوله: (للمسرف ثلاث علامات: يأكل ما ليس له، ويلبس ما ليس له، ويشتري ما ليس له) (البحار: ج72، ص304)، وقال بعض: إن صرف المال في غير موضعه المناسب يسمى تبذيراً، وصرف المال بأكثر مما يستحق المورد يسمى إسرافاً، ولكن قد يعبر عن كل منها بالآخر أيضاً فيستعمل الإسراف للمعنيين والتبذير كذلك.

 

الإسراف في القرآن:

يقول تعالى: (وكُلوا واشربوا ولا تُسـرِفوا إنه لا يُحبُ المُسـرفين) (الأعراف:31)، فقد عبّر الله تعالى عمّن يزيد في الآكل والشرب بأنه مسرف.

ويقول تعالى: (كُلوا من ثَمرِه ِإذا أثمَرَ، وآتوا حقَهُ يومَ حَصادِه ولا تُسرِفوا إنه لا يُحبُ المُسْرفِين) (الأنعام:141)، وهنا يصف الله تعالى من لا يؤدي الحقوق الشرعية بأنه مسرف.

ويقول تعالى: (كذلك يُضِلُّ اللهُ منْ هوَ مُسرِفٌ مُرتاب) (غافر:34)، في هذه الآية يبين الله تعالى أن الاعتقادات الباطلة أيضاً يوصف صاحبها بأنه مسـرف فيها، وذلك لأن الإسراف إفراط، وصاحب الاعتقاد الباطل قد أفرط في تفكيره حتى ابتعد عن الصراط السوي.

وقال تعالى في نفس السورة: (وإن المُسرفين هُم أصحابُ النار) (غافر:43)، وهنا يعطي الله تعالى معنى أعمق للإسراف يجعله صفة لأهل النار.

وقال تعالى: (ولا تُبذر تبذيرا، إن المُبذرين كانوا إخوانَ الشَياطينِ وكانَ الشَيطانُ لرَبهِ كَفورا) (الإسراء:26- 27)، وهنا يبين تعالى أن المبذر من صنف الشياطين بمعنى أنه في فعله مطيع لهم، ونتيجته الكفران سواء في ذلك كفران النعم وهو الجحود أو إنكار وجود الله تعالى وذلك بسبب التعدي على أحكام الله.

الإسراف في الروايات:

روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (إن الله إذا أراد بعبد خيراً ألهمه الاقتصاد وحسن التدبير وجنبه سوء التدبير والإسراف) (المستدرك: ج15، ص266)، فما يقابل الإسراف هو الاقتصاد وهو من نعم الله تعالى على عباده الذين يريد بهم الخير لما فيه من حسن العاقبة، بعكس مقابله فإنه يورث سوء العاقبة والعذاب الأليم.

وعن الإمام الصادق(عليه السلام): (إن مع الإسراف قلة البركة) (الكافي: ج4، ص55)، والإمام(عليه السلام) يشير إلى قانون طبيعي في الحياة فالمسرف لا تبقى في أمواله البركة لأنه ينفق ماله بغير حكمة وفي غير احتياج.

وعنه(عليه السلام): (أربعة لا يستجاب لهم، أحدهم كان له مال فأفسده فيقول: يا رب ارزقني، فيقول الله عز وجل: ألم آمرك بالاقتصاد) (الكافي: ج4، ص56).

وعنه(عليه السلام): (حَلّوا أنفسكم بالعفاف، وتجنبوا التبذير والإسراف) (المستدرك: ج15، ص266).

وعنه(عليه السلام): (سبب الفقر الإسراف) (المستدرك: ج15، ص266)، وهذا من أوضح الأمور التي لا تحتاج إلى بيان.

وعنه(عليه السلام): (مِن أشرَفِ الشَـرَف، الكف عن التبذير والسَرَف) (المستدرك: ج15، ص266)، وهذا الكلام على روعته البيانية يراد منه أن يغير أفكار الناس التي تنظر إلى الإنفاق غير المدروس على أنه محل افتخار وأن الاقتصاد بخل، فالإمام يريد أن يصحح المفاهيم ويبين أن الاقتصاد شرف.

أسباب الإسراف:

ولما كان الإسراف من الذنوب الكبيرة التي يستحق عليها العذاب، فلابد من الإقلاع عنها وهو لا يحصل إلا بعد معرفة الأسباب التي تؤدي إليه حتى يتلافاها الإنسان ومن جملة الأسباب التي تؤدي إلى الإسراف:

1- جهل المسرف بتعاليم الدين: الذي ينهى عن الإسراف بشتى صوره، فعاقبة المسرف في الدنيا الحسرة والندامة: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً) (الإسراء:29)، وفي الآخرة العقاب الأليم والعذاب الشديد: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ* فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ* وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ* لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ* إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ) (الواقعة:41- 45)، والترف صورة من صور السرف.

2- التربية الخاطئة: فقد ينشأ الإنسان في أسرة اعتادت على الإسراف والبذخ، فما يكون منه سوى الاقتداء والتأسي بهم، وهذه من المآسي التي تمارسها الأُسَر في حق أبنائها. 

3- السعة بعد الضيق: ذلك أن كثيراً من الناس قد يعيشون في ضيق، أو حرمان، أو شدة، أو عسر، فتجدهم صابرين محتسبين، وقد يحدث أن تتبدل الأحوال، فتكون السعة بعد الضيق، أو اليسر بعد العسر، وحينئذ يصعب على هذا الصنف من الناس التوسط أو الاعتدال؛ فينقلب على النقيض تماماً، فيكون مسرفاً مبذراً.

4- صحبة المسرفين: فالإنسان غالباً ما يتخلق بأخلاق صاحبه، لاسيما إذا طالت هذه الصحبة، وكان هذا الصاحب قوي الشخصية، شديد التأثير، وبذلك ندرك السر في تأكيد الإسلام، وتشديده على ضرورة انتقاء الصاحب أو الخليل، المتخلق بالأخلاق الفاضلة والدين الصحيح.

5- حب الظهور والتباهي: وقد يكون الإسراف سببه حب الشهرة والتباهي أمام الناس رياء وسمعة والتعالي عليهم، فيظهر لهم أنه سخي وجواد، فينال ثناءهم ومدحهم.

6- المحاكاة والتقليد: وقد يكون سبب الإسراف محاكاة الغير وتقليدهم حتى لا يوصف بالبخل.

7- الزوج والولد: فقد يُبتلى الإنسان بزوج أو ولد، دأبهم وديدنهم الإسراف، وقد لا يكون حازماً معهم، فيؤثّرون عليه، وبمرور الأيام، وطول المعاشرة، ينقلب مسرفاً مع المسرفين.

8- التهاون مع النفس: فالنفس البشرية تنقاد وتخضع، ويسلس قيادها بالشدة والحزم، وتتمرد وتتطلع إلى الشهوات، وتلح في الانغماس فيها بالتهاون واللين، وعليه: فإن الإنسان إذا تهاون مع نفسه، ولبى كل مطالبها، أوقعته لا محالة في المهالك ومن ضمنها الإسراف.

آثار الإسراف:

وبعد أن اطلعنا على أسباب الإسراف لابد أن نطلع على آثاره الفاسدة في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة، ليكون هذا من جملة المقدمات التي ينبغي معرفتها قبل الوصول إلى مرحلة العلاج، وهنا نعرض جملة من آثار الإسراف:

1- علة البدن: فالبدن محكوم بطائفة من السنن والقوانين الإلهية، بحيث إذا تجاوزها الإنسان بالزيادة أو بالنقص، تطرقت إليه العلة، وحين تتطرق إليه العلة، فإنّها تقعد بالإنسان عن القيام بالواجبات، والمسؤوليات الملقاة على عاتقه، أو المنوطة به.

2- قسوة القلب: فقسوة القلب لها أسباب مختلفة ومن ضمنها الانغماس في الشهوات والملذات، فإن القلب يرق ويلين بالجوع، أو بقلة الغـذاء، ويقسو ويجمد بالشبع، أو بكثرة الغذاء، وحين يقسو القلب، أو يجمد، فإنّ صاحبه ينقطع عن البر والطاعات، وحتى لو جاهد الإنسان نفسه، وقام بالبر والطاعات؛ فإنه لا يجد لها لذة ولا حلاوة، بل لا يجني من ورائها سوى النَصَب والتعب.

3- خمول الفكر: فخمول الفكر مرتبط بعدة عوامل، والبِطنة أحدها، فإذا خلت البطن، نشط الفكر، وإذا امتلأت؛ اعتراه الخمول، حتى قالوا قديماً: (إذا امتلأت البطنة نامت الفطنة).

4- الانهيار في ساعات المحن والشدائد: فالمسرف قضى حياته في الاسترخاء والترف، فلم يألف المحن والشدائد، ومثل هذا إذا وقع في شدة أو محنة؛ لا يلقى من الله أدنى عون أو تأييد، فيضعف وينهار، لأن الله عز وجل لا يعين ولا يؤيد إلا من جاهد نفسه، وكان صادقاً مخلصاً في هذه المجاهدة، بالإضافة إلى أنه لم يعوّد نفسه أو يروضها على الخشونة والشدة.

5- المساءلة غداً بين يدي الله: كما قال سبحانه: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (التكاثر:8)، فيوم القيامة يُسأل العبد عن كل ما يرد إليه من أموال وكل ما يكسبه في حياته من أعمال، قال الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام): (... واعلم أن في حلالها حساب وفي حرامها عقاب وفي الشبهات عتاب، فأنزِل الدنيا منزلة الميتة وخذ منها ما يكفيك، فإن كان ذلك حلالا كنت قد زهدت فيها، وإن كان حراماً لم يكن فيه وزر فأخذت كما أخذت من الميتة، وإن كان العقاب فإن العقاب يسير...) (البحار: ج44، ص139).

6- الوقوع تحت وطأة الكسب الحرام: ذلك أن المسرف قد تضيق به الدنيا، أو تنتهي موارده فيضطر تلبيةً لشهوته وحفاظاً على حياة الترف والنعيم التي ألفها إلى الوقوع في الكسب الحرام، إذ يستنكف من أن يراه الناس بحال أخرى غير حالته فيتوسل إلى ذلك بكل وسيلة.

7- أخوّة الشياطين: كما قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء:27)، وأخوة الشياطين تعني: الصيرورة منهم والانضمام إلى حزبهم، وإن ذلك لهو الخسران المبين.

8- الحرمان من محبة الله: كما قال سبحانه: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف:31)، وماذا يصنع من حرم محبة الله؟! إنه يعيش في قلق واضطراب، وألم نفسي، وإن أحاطت به الدنيا من كل جانب، قال الإمام الحسين(عليه السلام): (ماذا وَجَدَ مَنْ فَقَدَكَ وَما الَّذِي فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ) (إقبال الأعمال: ج3، ص345).

الطريق لعلاج الإسراف:

1- التفكر في الآثار والعواقب المترتبة على الإسراف: فإن ذلك من شأنه أن يحمل على تدارك الأمر، والتخلص من الإسراف، قبل فوات الأوان، وقد تقدمت جملة من هذه الآثار.

2- الحزم مع النفس: وذلك بفطمها عن شهواتها ومطالبها، وعدم التهاون بذلك أو التسويف في العلاج فإن المبادرة في فعل الخير مندوبة.

3- دوام النظر في روايات النبي وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين وسيرتهم: فإنها مليئة بالتحذير من الإسراف.

4- الانقطاع عن صحبة المسرفين: مع الارتماء في أحضان ذوي الهمم العالية والنفوس الكبيرة الذين طرحوا الدنيا وراء ظهورهم، الذين اقتدوا بالنبي وآله (صلوات الله عليهم)؛ فكان عَيشهم كِفافاً، ولا همّ لهم من الدنيا إلا أنها معبر أو قنطرة توصل للآخرة، فإن ذلك من شأنه أن يقضي على مظاهر السـرف والدّعة والراحة، بل ويجنبنا الوقوع فيها مرة أخرى.

5- دوام التفكر في الواقع الذي تعيشه البشـرية عموماً، والمسلمون على وجه الخصوص: فإنّ ذلك يساعد في التخلص من كل مظاهر الإسراف، بل ويحول دون التلذذ أو التنعم بشـيء من هذه الحياة.

6- دوام التفكر في الموت، وما بعده من شدائد وأهوال: فإن ذلك أيضاً يعين على نبذ كل مظاهر الإسراف والترف، ويحول دون الوقوع فيها مرة أخرى، استعداداً لساعة الرحيل ويوم اللقاء.

وأخيراً نختم كلامنا بما كتبه أمير المؤمنين(عليه السلام) لزياد فيِ ذم الإسراف وعلاجه جاء فيه: (فدع الإسراف مقتصداً، واذكر في اليوم غدا، وامسك عن المال بقدر ضرورتك، وقدِّم الفضل ليوم حاجتك، أترجو أن يعطيك الله أجر المتواضعين وأنت عنده من المتكبرين، وتطمع، وأنت متمرغ في النعيم تمنعه الضعيف والأرملة، أن يوجب لك ثواب المتصدقين؟ وإنما المرء مجزيٌّ بما أسلف وقادم على ما قدّم) (نهج البلاغة: ص377)، وهنا يبين أمير المؤمنين(عليه السلام)  مجموعة أمور مهمة تساعد على الإقلاع عن الإسراف بشكل عملي أو علمي، فالجانب العملي الذي يمنع الإسراف هو أن يمتنع عن إنفاق المال في غير محله أو زائداً عن حاجته عن طريق الاحتياط في الإنفاق والتحسب لما سيأتي من  الأيام إذ قد تمر عليه ظروف تحتاج إلى المال فيما يأتي من عمره فلابد له من الاحتياط في الإنفاق، هذا درس عملي يمنع من الإسراف وقد يكون المراد بـ (غداً) إشارة إلى دار الآخرة.

وقد أعطى الأمير(عليه السلام) درساً في علاج هذا المرض من أحسن الدروس، إذ حوّل هذه الصفة الذميمة إلى صفة حسنة بأن حوّل اهتمام الشخص المبذر من التمادي في لذاته وشهواته المالية إلى التفكير في آخرته، فلو لم يستطع عدم الإنفاق فلينفق المال فيما ينفع به يوم القيامة وذلك بأن يتصدق به على المستحقين فيكون هذا الإنفاق مذخوراً له ولا يعد إتلافاً للمال وتضييعاً له في الدنيا.

وكم من حكمة ومعنى عميق في هذا الدرس الأخلاقي الكبير من أمير المؤمنين(عليه السلام) كيف لا وهو معلم الإسلام الثاني بعد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).

هذه تذكرة منا عملاً بقوله تعالى عز وجل: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذاريات:55)، أسال الله أن نكون من الذاكرين والمذكرين وأن تنفعنا هذه التذكرة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم والحمد لله رب العالمين.

 

لتحميل الملف