الفصل الرابع: قصص التائبين

حيث إن نقل قصص أهل الإيمان والتقوى له أثر خاص في التنبيه والتوعية بحيث تدفع السامع نحو العمل، فهي محفزة للتوبة ومشجعة عليها لذا من المناسب أن ننقل في هذا المقام عدة قصص عن أهل التوبة، آملين أن يستفيد القارئ العزيز منها.

توبة بشر الحافي

في عصر الإمام الكاظم (عليه السلام) كان يعيش في بغداد رجل معروف يقال له (بشر)، وحدث يوماً أن كان الإمام الكاظم (عليه السلام)، ماراً من أمام بيت (بشر)، وكانت أصوات اللهو والطرب تملأ المكان فصادف أن فتحت جارية باب الدار لإلقاء بعض الفضلات، وحين رمت بها في الطريق سألها الإمام (عليه السلام)؟ قائلاً: يا جارية! هل صاحب هذه الدار حر أم عبد؟ فأجابته الجارية وهي مستغربة سؤاله: بل هو حر. فقال الإمام (عليه السلام): صدقت لو كان عبداً لخاف من مولاه. الإمام قال هذه الكلمة وانصرف، فعادت الجارية إلى الدار وكان (بشر) جالساً إلى مائدة الخمر، فسألها: ما الذي أبطأك؟ فنقلت له ما دار بينها وبين الإمام، وعندما سمع ما نقلته من قول الإمام: (صدقت، لو كان عبداً لخاف من مولاه) اهتز هزةً عنيفةٌ أيقظته من غفلته، وأيقظته من نومته، نومة الغفلة عن الله، ثم سأل (بشر) الجارية عن الوجهة التي توجه إليها الإمام (عليه السلام)، فأخبرته فانطلق يعدو خلفه، حتى أنَّه نسي أن ينتعل حذاءه، وكان في الطريق يحدث نفسه بأن هذا الرجل هو الإمام موسى بن جعفر C، وفعلاً لحق بالإمام واعتذر وبكى ثم هوى على يدي الإمام يقبلها وكان لسان حاله يقول: سيدي أريد من هذه الساعة أن أصبح عبداً ولكن عبداً لله، لا أريد هذه الحرية المذلة التي تأسر الإنسانية فيّ، وتطلق العنان للشهوة الحيوانية، لا أريد حرية السعي وراء الجاه والمنصب، لا أريد حرية الخوض في مستنقع الذنوب وأغدو أسيراً لها، لا أريد أن تؤسر فيّ الفطرة السليمة والعقل السليم، من هذه الساعة أريد أن أصبح عبداً لله ولله وحده، حراً تجاه غيره.

وتاب بشر على يد الإمام الكاظم (عليه السلام)، ومنذ تلك اللحظة هجر الذنوب ونأى عنها وأتلف كل وسائل الحرام، وأقبل على الطاعة والعبادة، حتى أصبح من زهاد أهل زمانه.

ونختم هذه القصة بفقرة من دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) وهو يناجي ربه: (وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاك، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرض، ولكن سولت لي نفسي، وأعانني على ذلك سترك المرخى به علي، فأنا الآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني؟ فوا سوأتاه غداً من الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفين جوزوا وللمثقلين حطوا أمع المخفين أجوز، أم مع المثقلين أحط؟ ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب، أما آن لي أن أستحيي من ربي)[1].

 

ستر الله للتائبين

جاء في كتاب مصابيح القلوب للسبزواري أنه لما نزلت آية تحريم الخمر أمر رسول ألله (صلى الله عليه وآله) أن ينادي المنادي أن لا يشرب أحد الخمر، وفي يوم من الأيام التقى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في طريقه برجل مسلم يحمل بيده قنينة خمر، فلما رأى رسول ألله (صلى الله عليه وآله) اضطرب خوفا وقال إلهي تبت إليك، لا تفضحني أمام نبيك، ولما أقترب منه رسول ألله (صلى الله عليه وآله) سأله عما في يده فقال: إنه خلُّ، فطلب منه رسول ألله (صلى الله عليه وآله) أن يصب قليلا منه في يده فلما صبه فإذا هو قد أنقلب إلى خل حقيقة، فبكى الرجل وقال يا رسول الله: والله إنه ما كان خلاً بل خمرا ولكنني تبت وسألت الله أن لا يفضحني أمامك! فقال (صلى الله عليه وآله) نعم من تاب بدّل الله سيئاته إلى حسنات: (فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)[2].

 

التوبة في اللحظات الأخيرة

عن معاوية بن وهب قال: (خرجنا إلى مكة ومعنا شيخ متأله متعبد لا يعرف هذا الأمر- أي: إنه ليس على مذهب الشيعة- يتم الصلاة في الطريق ومعه ابن أخ له مسلم، فمرض الشيخ فقلت لابن أخيه: لو عرضت هذا الأمر على عمك لعل الله أن يخلصه، فقال كلهم: دعوا الشيخ حتى يموت على حاله فإنه حسن الهيئة، فلم يصبر ابن أخيه حتى قال له: يا عم إن الناس ارتدوا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا نفرا يسيرا وكان لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) من الطاعة ما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان بعد رسول الله الحق والطاعة له، قال: فتنفس الشيخ وشهق وقال: أنا على هذا وخرجت نفسه، فدخلنا على أبي عبد الله (عليه السلام) فعرض علي بن السري هذا الكلام على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: هو رجل من أهل الجنة، قال له علي بن السري: إنه لم يعرف شيئا من هذا غير ساعته تلك!؟ قال: فتريدون منه ماذا؟، قد دخل والله الجنة)[3].

صاحب الأكفان

جاء في أمالي الشيخ الصدوق عن أبي حمزة الثمالي، عن زين العابدين علي بن الحسين C، قال: (كان في بني إسرائيل رجل ينبش القبور، فاعتل جار له فخاف الموت، فبعث إلى النباش، فقال له: كيف كان جواري لك؟ قال: أحسن جوار. قال: فإنّ لي إليك حاجة، قال: قضيت حاجتك، قال: فأخرج إليه كفنين، فقال: أحب أن تأخذ أحبهما إليك، وإذا دفنت فلا تنبشني، فامتنع النباش من ذلك، وأبى أن يأخذه، فقال له الرجل: أحب أن تأخذه، فلم يزل به حتى أخذ أحبهما إليه، ومات الرجل، فلما دفن قال النباش: هذا قد دفن، فما علمه بأني تركت كفنه أو أخذته، لآخذنه، فأتى قبره فنبشه، فسمع صائحا يقول ويصيح به: لا تفعل، ففزع النباش من ذلك، فتركه وترك ما كان عليه (أي: ترك نبش القبور)، وقال لولده: أي أب كنت لكم؟ قالوا: نعم الأب كنت لنا، قال: فإنّ لي إليكم حاجة، قالوا: قل ما شئت، فإنا سنصير إليه إن شاء الله، قال: فأحب إذا أنا مت أن تأخذوني فتحرقوني بالنار، فإذا صرت رمادا فدقوني، ثم تعمدوا بي ريحا عاصفا، فذروا نصفي في البر، ونصفي في البحر، قالوا: نفعل، فلما مات فعل به وُلْدُه ما أوصاهم به، فلما ذرّوه قال الله جل جلاله للبر: إجمع ما فيك، وقال للبحر: إجمع ما فيك، فإذا الرجل قائم بين يدي الله جل جلاله، فقال الله عز وجل: ما حملك على ما أوصيت به ولدك أن يفعلوه بك؟ قال: حملني على ذلك - وعزتك - خوفُك، فقال الله جل جلاله: فإني سأرضي خصومك وقد آمنت خوفك، وغفرت لك)[4].

قال الشاعر:

أيُّهاذا النـاسُ مـا حـلَّ بكم   عجباً من سهوِكُمْ كـلَّ العجبْ

وسقــامٌ ثمَّ موتٌ نـازلٌ ثمَّ   قـــــبرٌ ونــــزولٌ وجَــــلبْ

وحسابٌ وكتــابٌ حافــظٌ   ومــوازيـنُ ونـــارٌ تلـتهـــبْ

وصراطٌ مَنْ يَقَعْ عــنْ حدِّهِ   فإلى خــزيٍ طـــويلٍ ونَصَـبْ

 

العابد والشيطان

جاء في الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: كان عابد في بني إسرائيل لم يقارف من أمر الدنيا شيئا، فنخر إبليس نخرة - ينخر: مد الصوت في خياشيمه- فاجتمع إليه جنوده فقال: مَنْ لي بفلان؟ فقال بعضهم: أنا له، فقال: مِن أين تأتيه؟ فقال: مِن ناحية النساء، قال: لست له لم يجرب النساء، فقال له: آخر: فأنا له، فقال له: مِن أين تأتيه؟ قال: مِن ناحية الشراب واللذات، قال: لست له ليس هذا بهذا، قال آخر: فأنا له، قال: مِن أين تأتيه؟ قال: من ناحية البَّر قال: انطلق فأنت صاحبه، فانطلق إلى موضع الرجل فأقام حذاه يصلي قال: وكان الرجل ينام والشيطان لا ينام، ويستريح والشيطان لا يستريح، فتحول إليه الرجل وقد تقاصرت إليه نفسه واستصغر عمله، فقال: يا عبد الله بأي شيء قويت على هذه الصلاة؟ فلم يجبه، ثم أعاد عليه، فلم يجبه ثم أعاد عليه، فقال: يا عبد الله إني أذنبت ذنبا وأنا تائب منه فإذا ذكرت الذنب قويت على الصلاة، قال: فأخبرني بذنبك حتى أعمله وأتوب فإذا فعلته قويت على الصلاة؟ قال: ادخل المدينة فسل عن فلانة البغية فأعطها درهمين ونل منها، قال: ومن أين لي درهمين ما أدري ما الدرهمين فتناول الشيطان من تحت قدمه درهمين فناوله إياهما فقام فدخل المدينة بجلابيبه يسأل عن منزل فلانة البغية فأرشده الناس وظنوا أنه جاء يعظها فأرشدوه فجاء إليها فرمى إليها بالدرهمين وقال: قومي فقامت فدخلت منزلها وقالت: ادخل وقالت: إنك جئتني في هيئة ليس يؤتى مثلي في مثلها فأخبرني بخبرك فأخبرها فقالت له: يا عبد الله إن ترك الذنب أهون من طلب التوبة، وليس كل من طلب التوبة وجدها، وإنما ينبغي أن يكون هذا شيطانا مُثَّل لك، فانصرفْ فإنك لا ترى شيئا - أي: لن أقترب منك-، فانصرفَ وماتت من ليلتها، فأصبحتْ فإذا على بابها مكتوب: احضروا فلانة فإنها من أهل الجنة، فارتاب الناس فمكثوا ثلاثا لم يدفنوها ارتيابا في أمرها، فأوحى الله عز وجل إلى نبي من الأنبياء لا أعلمه إلا موسى بن عمران (عليه السلام) أن ائت فلانة فَصَلَّ عليها ومُر الناس أن يصلوا عليها فإني قد غفرت لها وأوجبت لها الجنة بتثبيطها عبدي فلانا عن معصيتي)[5].

 

توبة بهلول

جاء في أمالي الشيخ الصدوق: أن معاذ بن جبل دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) باكيا، فسلم فرد عليه السلام، ثم قال: ما يبكيك يا معاذ ؟ فقال: يا رسول الله، إن بالباب شابا طري الجسد، نقي اللون، حسن الصورة، يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها يريد الدخول عليك، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): أدخل علي الشاب يا معاذ، فأدخله عليه، فسلم فرد (عليه السلام)، ثم قال: ما يبكيك يا شاب؟ قال: كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوبا إن أخذني الله عز وجل ببعضها أدخلني نار جهنم، ولا أراني إلا سيأخذني بها، ولا يغفر لي أبدا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هل أشركت بالله شيئا؟ قال: أعوذ بالله أن أشرك بربي شيئا، قال: أقتلت النفس التي حرم الله؟ قال: لا، فقال: النبي (صلى الله عليه وآله): يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل الجبال الرواسي، قال الشاب: فإنها أعظم من الجبال الرواسي، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق، قال: فإنها أعظم من الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل السماوات السبع ونجومها ومثل العرش والكرسي، قال: فإنها أعظم من ذلك، قال: فنظر النبي (صلى الله عليه وآله) إليه كهيئة الغضبان ثم قال: ويحك يا شاب، ذنوبك أعظم أم ربك؟ فخر الشاب لوجهه وهو يقول: سبحان ربي! ما شيء أعظم من ربي، ربي أعظم يا نبي الله من كل عظيم، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): فهل يغفر الذنب العظيم إلا الرب العظيم ! قال الشاب: لا والله، يا رسول الله، ثم سكت الشاب، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): ويحك يا شاب ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك، قال: بلى، أخبرك: إني كنت أنبش القبور سبع سنين، أخرج الأموات وأنزع الأكفان، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار، فلما حُمِلت إلى قبرها ودُفِنت وانصرف عنها أهلها وجَنَّ عليها الليل، أتيت قبرها فنبشتها، ثم استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها، وتركتها متجردة على شفير قبرها، ومضيت منصرفا، فأتاني الشيطان، فأقبل يزينها لي ويقول: أما ترى بطنها وبياضها؟ أما ترى وركيها؟ فلم يزل يقول لي هذا حتى رجعت إليها ولم أملك نفسي حتى جامعتها وتركتها مكانها، فإذا أنا بصوت من ورائي يقول: يا شاب، ويل لك من ديّان يوم الدين، يوم يقفني وإياك كما تركتني عريانة في عساكر الموتى، ونزعتني من حفرتي، وسلبتني أكفاني، وتركتني أقوم جنبة إلى حسابي، فويل لشبابك من النار، فما أظن أني أشم ريح الجنة أبدا، فما ترى لي يا رسول الله؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله): تنح عني يا فاسق، إني أخاف أن أحترق بنارك، فما أقربك من النار! فما أقربك من النار! ثم لم يزل (صلى الله عليه وآله) يقول ويشير إليه، حتى أمعن من بين يديه، فذهب فأتى المدينة، فتزود منها، ثم أتى بعض جبالها فتعبد فيها، ولبس مسحا - كساء من شعر-، وغل يديه جميعا إلى عنقه، ونادى: يا رب، هذا عبدك بهلول، بين يديك مغلول، يا رب أنت الذي تعرفني، وزل مني ما تعلم، يا سيدي يا رب، إني أصبحت من النادمين، وأتيت نبيك تائبا، فطردني وزادني خوفا، فأسألك باسمك وجلالك وعظمة سلطانك أن لا تخيب رجائي، سيدي ولا تبطل دعائي، ولا تقنطني من رحمتك، فلم يزل يقول ذلك أربعين يوما وليلة، تبكي له السباع والوحوش، فلما تمت له أربعون يوما وليلة رفع يديه إلى السماء، وقال: اللهم ما فعلت في حاجتي؟ إن كنت استجبت دعائي وغفرت خطيئتي، فأوح إلى نبيك، وإن لم تستجب لي دعائي ولم تغفر لي خطيئتي وأردت عقوبتي، فعجل بنار تحرقني أو عقوبة في الدنيا تهلكني، وخلصني من فضيحة يوم القيامة، فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله): (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً) يعني الزنا (أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ) يعني بارتكاب ذنب أعظم من الزنا ونبش القبور وأخذ الأكفان (ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ) يقول: خافوا الله فعجلوا التوبة (وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ) يقول عز وجل: أتاك عبدي يا محمد تائبا فطردته، فأين يذهب، وإلى من يقصد، ومن يسأل أن يغفر له ذنبا غيري؟ ثم قال عز وجل: (وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يقول: لم يقيموا على الزنا ونبش القبور وأخذ الأكفان (أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)، فلما نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، خرج وهو يتلوها ويتبسم، فقال لأصحابه: من يدلني على ذلك الشاب التائب؟ فقال معاذ: يا رسول الله، بلغنا أنه في موضع كذا وكذا، فمضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأصحابه حتى انتهوا إلى ذلك الجبل، فصعدوا إليه يطلبون الشاب، فإذا هم بالشاب قائم بين صخرتين، مغلولة يداه إلى عنقه، وقد اسود وجهه، وتساقطت أشفار عينيه من البكاء وهو يقول: سيدي، قد أحسنت خلقي، وأحسنت صورتي، فليت شعري ماذا تريد بي، أفي النار تحرقني؟ أو في جوارك تسكنني؟ اللهم إنك قد أكثرت الإحسان إلي، وأنعمت علي، فليت شعري ماذا يكون آخر أمري، إلى الجنة تزفني، أم إلى النار تسوقني؟ اللهم إن خطيئتي أعظم من السماوات والأرض، ومن كرسيك الواسع وعرشك العظيم، فليت شعري تغفر لي خطيئتي، أم تفضحني بها يوم القيامة؟ فلم يزل يقول نحو هذا وهو يبكي ويحثو التراب على رأسه، وقد أحاطت به السباع، وصفت فوقه الطير، وهم يبكون لبكائه، فدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأطلق يديه من عنقه، ونفض التراب عن رأسه، وقال: يا بهلول، أبشر فإنك عتيق الله من النار، ثم قال (صلى الله عليه وآله) لأصحابه: هكذا تداركوا الذنوب كما تداركها بهلول، ثم تلا عليه ما أنزل الله عز وجل فيه وبشره بالجنة)[6].

 

دعوة مستجابة

جاء في كتاب فضائل السادات نقلاً عن الشهيد الثاني أنه قال: وجدت في كتاب المدهش لأبي الفرج الأصفهاني، قال بعض الصالحين: (دخلت إلى مصر فوجدت بها حداداً يخرج الحديد من النار بيده ويقلبه على السندان ولا يجد لذلك ألما، فقلت في نفسي: هذا عبد صالح لا تعدو عليه النار، فقلت: يا سيدي بالذي منّ عليك بهذه الكرامة إلا ما دعوت لي، قال: فبكى وقال والله يا أخي ما أنا كما ظننت !فقلت: يا أخي إن هذا الذي فعلته إن رأيت أن تطرفني به فأفعل، فقال: نعم، كنت يوما من الأيام جالسا في هذا الدكان وكنت كثير التخليط إذ وقفتْ عليّ امرأة جميلة الصورة لم أر قط أحسن منها وجهاً، فقالت: يا أخي هل عندك شيء لله عز وجل؟ فلما نظرت إليها فُتِنْتُ بها وقلت لها: هل لك أن تمضي معي إلى البيت وأدفع لك ما يكفيك زمانا طويلا، فقالت: لست والله ممّن يفعل هذا، فقلت: فأذهبي عني، قال: فذهبت وغابت عني طويلا ثم رجعت وقالت: قد أحوجتني الضرورة إلى ما أردت، قال: فقفلت الدكان ومضيت بها إلى البيت، قال: فقالت لي يا هذا إن لي أطفالا قد تركتهم على فاقة فإن رأيت أن تعطيني شيئا أذهب به إليهم وأرجع إليك فأفعل، فأخذتُ عليها العهود والمواثيق ثم دفعتُ إليها دراهم فمضت وغابت ساعة ثم رجعت، فدخلتُ إلى البيت وأغلقتُ الباب، فقالت: لم فعلت هذا؟ فقلت: خوفا من الناس، فقالت: ولم لا تخاف من رب الناس؟ فقلت إنه غفور رحيم، ثم تقدمت إليها فوجدتها تضطرب كما تضطرب السعفة في يوم ريح عاصف ودموعها تنحدر على خديها، فقلت: ممّ اضطرابك، فقالت: يا هذا خوفاً من الله عز وجل، ثم قالت: يا هذا إن تركتني لله تعالى ضمنت لك أن الله لا يعذبك بناره لا في الدنيا ولا في الآخرة، قال: فقمتُ ودفعتُ إليها جميع ما كان عندي وقلت: يا هذه اذهبي لسبيلك، قد تركتك خوفا من الله عز وجل، قال: فلما فارقتني غلبتني عيناي فرأيت امرأة لم أر أحسن منها وجها وعلى رأسها تاج من الياقوت فقالت يا هذا جزاك الله عنا خيرا فقلت لها: ومَن أنت؟ قالت أُم الصبية التي أتتك وتركتها خوفا من الله عز وجل، لا أحرقك ألله بالنار لا في الدنيا ولا في الآخرة، فقلت ومن هي يرحمك ألله فقالت: هي من نسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: فحمدت الله عز وجل إذ وفقني وعصمني، ثم ذكرت قوله تعالى:

(إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)[7]، ثم أفقت من ذلك الوقت لا تعدو عليّ النار في دار الدنيا وأرجو أن لا تعدو عليّ في الآخرة)

قال الشاعر:

حتـى متـى يا نــفْسُ تغترينَ بالأملِ الكـذوبِ

يا نفسُ توبـي قــبلَ أنْ لا تستطيعي أنْ تتــوبي

واستغفري لذنبِــــكِ الرحمنَ غفـــّارَ الذنوبِ

 

توبة قاتل

وجاء أيضا في كتاب فضائل السادات: (أن إسحاق بن إبراهيم الطاهري رأى رسول ألله (صلى الله عليه وآله) في المنام يقول له: أَطلق سراح القاتل، يقول إسحاق: انتبهت من النوم مرعوبا، واستدعيت الشرطة وقلت لهم: من هو هذا القاتل وأين هو؟ قالوا: إنه رجل أقرّ على نفسه بالقتل وهو حاضر عندنا، فأحضروه، فقال له إسحاق: لئن صدَقْتَ أطلقتُك، فقال: كنت أنا وجماعة من أهل الفساد لم نترك حراما إلا وارتكبناه، وارتكبنا كل عمل قبيح، وكان لدينا امرأة عجوز تجذب لنا الفتيات، وفي يوم من الأيام دخلت علينا تلك العجوز ومعها فتاة في غاية الجمال، فلما رأتنا تلك الفتاة وعرفت الأمر صاحت وسقطت مغشياً عليها، ولما أفاقت صاحت الله الله، اتقوا الله واتركوني، لقد خدعتني هذه العجوز وقالت لي: إن في هذا المكان مشاهد جميلة وشوقتني إليها وجرتني إلى هذا المكان، اتقوا ألله، فأنا علوية من نسل الزهراء B، يقول القاتل: لم يعتن رفقائي بكلامها وهجموا على الفتاة، فأخذتني الغيرة لحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فمانعتهم حتى أصبت بعدة جراحات منهم كما تراني الآن، إلى أن ضربت كبيرهم ضربة قوية فقتلته وأنقذت الفتاة سالمة وصرفتها، فدعت لي الفتاة وقالت: ستر الله عيوبك كما سترت عليّ، وأعانك الله كما أعنتني، وفي هذا الحال وبعد سماع الصراخ والصيحات دخل الجيران إلى الدار بينما كان الخنجر بيدي يقطر دماً، والمقتول أمامي ملطخاً بالدم، فأخذوني وأحضروني هنا، فقال له إسحاق: لقد عفوت عنك لله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، فقال الرجل: وأنا أيضا أتوب من جميع ذنوبي، ولا أعود إلى معصية بحق مَن عفوت به عني).

ترى في هذه القصة كيف أن ذلك القاتل رغم جميع آثامه صار موردا للطف الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) حتى تخلص من القتل ووفق للتوبة من جميع ذنوبه وذلك بسبب تركه للحرام ومنعه منه ومعونته للمظلوم.

 

قال الشاعر:

إيَّاكِ والبغيَ والبهـتانَ والغـيبَة  والشَّكَ والكفرَ والطغيانَ والريبة

ما زادَكِ السِّنُ منْ مثقالِ خَردلةٍ  إلاّ تقرَّبَ الموتُ منــكِ تـقريبَـة

  فما بقاؤُكِ والأيــــامُ مســرعةٌ  تصعيدةٌ منـكِ أحـياناً وتصويبَـة

 

هو الستار التواب

انقطع الغيث عن بني اسرائيل في زمن موسى (عليه السلام)، فجاءوا إلى موسى يتشاكون الفاقة والحاجة، وقالوا له: (ادعُ لنا ربّك لينقذنا من هذه التهلكة.. فخرج موسى فيهم إلى الصحراء وصلى بهم صلاة الاستسقاء، ودعوا ربّهم لينزل عليهم المطر... إلا أن المطر لم ينزل مع كثرتهم إذ كان عددهم سبعين ألفاً، مع إلحاحهم بالدعاء.

فرفع موسى رأسه إلى السماء وقال: اللهم إني أدعوك ومعي سبعون ألفاً فلا تستجيب لنا، فهل نقصت منزلتي عندك؟! فأوحى الله تعالى إليه: إن بينكم رجلاً عصى الله أربعين سنة، فقل له أن يخرج من بينكم حتّى أنزل عليكم المطر، فقال موسى: يا ربي إن صوتي ضعيف فكيف أُسمعه سبعين ألف رجل؟ فأوحى الله إليه: إنك إن قلت نحن نوصل صوتك إليهم.

فصاح موسى بصوت جهوري: من عصا الله أربعين سنة فليقم وليخرج من بيننا؛ لأن الله قطع عنا الغيث بسببه، نهض ذلك العاصي وتلفت يميناً وشمالاَ فلم يجد أحداً قد خرج، فأدرك أنّه هو المقصود فقال في نفسه: ماذا أصنع، إذا قمت ورآني الناس عرفوني وفضحت بينهم، وإذا أنا بقيت لا ينزل عليهم الغيث... فجلس مكانه وندم من أعماق قلبه على قبائحه ومعاصيه، وتاب إلى ربّه، ظهرت الغيوم على الفور وتراكمت ونزل عليهم الغيث، وسقوا بأجمعهم... فقال موسى: يا رب! لم يخرج من بيننا أحد، فكيف سقيتنا؟.

فنودي: سقيتكم بالذي منعتكم به، فقال موسى: يا رب! هل تريني هذا العاصي؟ فقال له ربّه: لم أفضحه عندما كان عاصياً، هل أفضحه الآن بعد ما تاب؟. يا موسى إني عدو النمامين، أفهل أنم، وأنا ستار العيوب، فهل أهتك ستر عبادي؟).

 

توبة فُضَيل

روي أن الفضيل بن عياض كان في بداية أمره من قُطّاع الطريق، الذين لا يتورعون عن ارتكاب أية كبيرة، وكان اسمه يثير الرعب في النفوس، حتى أن خليفة ذلك العصر هارون كان يخشاه، وفي أحد الأيام وقف على ضفة نهر ليسقي فرسه، إذ وقع بصره على فتاة في غاية الجمال، تحمل على كتفها قربة ومتجهة صوب الماء، تريد ملء القربة... فوقع حبّها في قلبه، وما أن رفع عنها بصره حتى ملأت قربتها وذهبت.

أمر أتباعه باقتفاء أثرها حتى إذا بلغت دارها طرقوا الباب، وأبلغوا أهلها بوجوب إعداد هذه الفتاة الجميلة، وإخلاء الدار تلك الليلة، لأن فضيل راغب بوصالها، - ولهذا السبب نادى الإسلام بوجوب الحجاب، حتى لا تقع عين الأجنبي على المرأة، وما يتمخض عن ذلك من الآم وكوارث- ما أن بلغ الخبر أبويها حتّى استولى عليهما الذعر... واضطر إلى استدعاء بعض وجوه البلد للبحث عن مخرج من هذا الموقف... فقيل لهم: لا بد من التضحية بالفتاة في سبيل المدينة، لأن فضيل إذا لم ينل بغيته سيحرق كل شيء في تلك المدينة... فاضطر أبواها إلى إعدادها وإخلاء الدار، دخل فضيل المدينة ليلاً وتسلق الجدار، وعبر سطوح بعض الدور ليصل إلى دار الفتاة، وهناك تناهى إلى سمعه صوت قراءة قرآن، فأنصت إليه وإذا هو رجل يتلوا الآية الشريفة: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله)[8]. فأثرت هذه الآية في نفسه وعاد ونزل من الجدار وتغيّر حاله، وقال بنية خالصة وقلب نقي: يا إلهي!. لقد آن وقت الخشوع .

تاب فضيل إلى ربّه توبة خالصة، وسار تلك الليلة على وجهه إلى أن وصل إلى خربة، فرأى فيها بعض التجار والمسافرين الذين لجأوا إلى هذه الخربة خوفاً من فضيل وعصابته، وحطّوا رحالهم هنا، وهم على وشك المسير ويقول بعضهم لبعض: كيف لنا أن نتخلص من شّر فضيل؛ فمن المؤكد أنه سيهجم علينا هذه الليلة ويسلبنا متاعنا.

تأثر فضيل أكثر عند سماع هذا الكلام، لأنه كان سبباً في ترويع الناس وإيجاد الذعر في القلوب، فتقدم إليهم وعرفهم بنفسه وقال لهم: طيبوا نفساً بعد اليوم، فضيل تاب وسلك طريق الله.

انتهج فضيل طريق الزهد حتّى غدا واحداً من عرفاء وزهاد عصره... يروى أن هارون رأى عند ذهابه إلى مكة حلقة من الناس حول رجل يعظهم وهم يبكون، فسأل عنه، قيل له: هذا فضيل الفاسق قد تاب الآن... كان هارون من قبل يخشى غاراته وقطعه للطريق، وهو اليوم يخشى زهده وتقواه.

كان فضيل يسجل في دفتر لديه أسماء وعناوين الأشخاص في كل قافلة يسلبها، ولما تاب قصد أصحاب الأموال التي سرقها منهم، ووجد أغلبهم واسترضاهم، أما الذين لم يجدهم فقد دفع عنهم الصدقات رداً للمظالم، إلاّ رجلاً واحداً يهودياً من نواحي الشام، كان فضيل قد سلبه مالاً كثيراً فأبى هذا اليهودي أن يصفح عنه، وقال: إنني أقسمت أن لا آخذ بدل مالي المسلوب إلاّ ذهباً، ولكنّك ما دمت جاداً في طلبك ولا مال لديك، فلا بأس أن تذهب وتأخذ من أموالي وذهبي الموجود تحت فراشي، وتقدمه لي بقصد أداء ما عليك من دين حتّى أكون قد بررت بقسمي، وتكون أنت أيضاً قد بلغت حاجتك.

مد فضيل يده تحت الفراش وأخرج مقداراً من الذهب وأعطاه لليهودي، فقال من فوره: أنطقني بالشهادتين، لقد آمنت بإله محمد، ولا معنى بعد هذا للبقاء على الديانة اليهودية، لأني قرأت في التوراة، إن إحدى صفات أتباع رسول آخر الزمان، هي أن أحدهم إذا أخلص لله التوبة من ذنوبه، يبدل الله التراب في يده ذهباً، إعلم أنه لم يكن تحت فراشي إلاّ التراب، وإنني إنما أردت امتحانك، ولما أبدل الله التراب بيدك ذهباً تكشفت لي حقيقتان:

الأولى: هي أنك تائب حقّاً ومن صميم قلبك.

والثانية: هي أن الدين الذي أنبأ عنه موسى في التوراة، والذي اعتبره ناسخاً لدينه وللدين الذي يأتي بعده (أي المسيحية) هو الدين الذي أنت عليه.

وبهذا أسلم ذلك اليهودي على يد فضيل.

 

توبة شعوانه

 نقل الفاضل النراقي في معراج السعادة أنه كانت بالبصرة امرأة تسمّى (شعوانة) مشهورة بالتهتك والرقص والبغاء، وما كان مجلس فساد يقام إلاّ وفيه (شعوانة)... كانت ذات يوم تسير هي وجواريها في أحد الأزقّة وصادف أن مرّت عند باب أحد الزهاد في ذلك العصر، وتناهى إلى سمعها هناك صوت بكاء وعويل من داخل الدار.

أرسلت إحدى جواريها لتأتيها بخبر ما يجري، وأمرتها أن تعود إليها سريعاً، وقالت مع نفسها: إن في البصرة عزاء ونحن لا ندري، ودخلت الجارية الدار ولم تعد، فأرسلت وراءها بجارية أخرى، ولكن الثانية لم تعد هي الأخرى، وأرسلت من بعدهما سائر الجواري، ولم تعد إليها أية واحدة منهن، غضبت وقالت: ما الخبر؟ أرسلت جميع الجواري، ولم تعد واحدة منهن، لا بد وأن هنالك سراً في هذه الدار، وما هذا العزاء بعزاء أموات، بل عزاء الأحياء، هذا عزاء المذنبين، العاصين، المجرمين، وأصحاب الصحائف السود، ثم قررت أن تدخل الدار بنفسها لتطلع على حقيقة الأمر.

دخلت الدار فوجدت رجلاً صالحاً على المنبر وناساً كثيرين حول المنبر يبكون، كان الواعظ يفسّر لهم الآية الكريمة: (إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً* وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً)[9].

فيناديهم مالك: ويحكم! سرعان ما تعالت أصواتكم، لازلتم في البداية، وهل رأيتم حرّها؟ إن وراءكم عذاباً وآلاماً أكثر، فكيف ستفعلون؟

ما أن سمعت شعوانة تفسير هذه الآية، حتّى استشعرتها في أعماق قلبها وأخذت تبكي ونادت: وهل إذا تاب العبد تُقبل توبته، مع كل هذه الذنوب، ويجعل له مكاناً عنده في الجنّة؟ قال لها الشيخ: الله أرحم الراحمين، توبي يتوب الله عنك، وإن كانت ذنوبك كذنوب شعوانة.

قالت: يا شيخ، أنا شعوانة، تبت إلى الله، ولن أعاود ارتكاب الذنوب، قال لها: ما دمت قد تبت، تاب الله عليك، وغفر لك ذنوبك.

كانت توبة شعوانة صادقة، فأنفقت كل ثروة حصلت عليها من هذا العمل، وأعتقت كل غلمانها وجواريها، واتخذت لنفسها صومعة في الصحراء وانهمكت بالعبادة إلى أن ذاب لحمها، جاءت ذات يوم إلى الحمام لتغتسل ونظرت إلى بدنها، فوجدت نفسها قد صارت ضعيفة وقد لصق جلدها بالعظم فتحسرت وقالت: آه يا شعوانة هكذا صار حالك في الدنيا...! ولا أعلم ماذا سيكون شأنك غداً في الآخرة؟.

فجأة سمعت صوتاً ينادي: يا شعوانة! لا تبعدي عنا والزمي بابنا لنرى ما سيكون عليه شأنك غداً في الآخرة... فكبر شأنها شيئاً فشيئاً حتّى غدت من الأولياء، وصاروا يعقدون مجلساً تتحدث هي فيه وتهطل دموعها.

أجل، كل من يتصالح مع ربّه ويهجر الذنوب يبلغ هذه المنزلة.

قال الشاعر:

ومَنْ يتتبَّعْ شهوةً بعـدَ شهـــوةٍ   مُلِحـاً تَقَـسَّمْ عقـلَهُ الشهواتُ

ومَنْ يأمنِ الدنيا وليس بِحِـلْوِها  ولا مُرِّها فيما رأيـــتُ ثبــــاتُ

أجابتْ نفوسٌ داعيَ اللهِ فأقْضَتْ  وأخرى لِداعيْ المـوتِ منتظراتُ

توبة العابد

روي أنه كان في جبل لبنان رجل من العبّاد منزوياً عن الناس في غار في ذلك الجبل، وكان يصوم النهار، ويأتيه كل ليلة رغيف يفطر على نصفه ويتسحّر بالنصف الآخر...

وكان على ذلك الحال مدّة طويلة لا ينزل من ذلك الجبل أصلاً، فاتفق أن انقطع عنه الرغيف ليلة من الليالي، فاشتد جوعه وقل هجوعه، فصلى العشائين وبات في تلك الليلة في انتظار شيء يدفع به الجوع فلم يتيسّر له شيء، وكان في أسفل ذلك الجبل قرية سكّانها نصارى، فعندما أصبح العبد نزل إليهم واستطعم شيخاً منهم، فأعطاه رغيفين من خبز الشعير، فأخذهما وتوجّه إلى الجبل، وكان في دار ذلك الشيخ كلب أجرب مهزول، فلحق العابد ونبح عليه وتعلق بأذياله، فألقى عليه العابد رغيفاً من ذينك الرغيفين ليشغل به عنه، فأكل الكلب ذلك الرغيف ولحق العابد مرّة أخرى، وأخذ ينبح عليه، فألقى إليه العابد الرغيف الآخر، فأكله ولحقه تارة ثالثة، واشتد هريره وتشبّث بملابس العابد فمزقها، فقال العابد: سبحان الله! إني لم أر كلباً أقل حياءً منك، إن صاحبك لم يعطني إلاّ رغيفين وقد أخذتهما منّي، ماذا تطلب بنباحك وتمزق ثيابي؟.

فأنطق الله تعالى الكلب فقال: لست أنا قليل الحياء، إعلم أني ربيت في دار ذلك النصراني، أحرس غنمه، وأحفظ داره، وأقنع بما يدفع إليًّ من خبز أو عظام، وربّما نسيني فأبقى أياماً لا آكل شيئاً، بل ربما تمضي أيام لا يجد هو لنفسه شيئاً ولا لي، ومع ذلك لم أفارق داره منذ عرفت نفسي ولا توجهت إلى باب غيره، بل كان دأبي أنه إن حصل شيء شكرت وإلاّ صبرت.

وأما أنت فبانقطاع الرغيف عنك ليلة واحدة، لم يكن عندك صبر ولا كان لك تحمّل حتى توجهت من باب رازق العباد إلى باب نصراني، وطويت كشحك عن الحبيب، وصالحت عدوّه المريب، فقل: أيُّنا أقل حياءً أنا أم أنت؟ فلما سمع العابد ذلك ضرب بيديه على رأسه وخر مغشياً عليه).

يُنسب إلى الإمام علي (عليه السلام) أنّه قال:

إلهـي لا تعـذّبنـــي فإنــّي   مُقِرٌّ بالـذي قـد كــــان منّـي

فما لي حيــــلةٌ إلاّ رجــائيْ  بعفوِكَ إنْ عفَوتَ وحُسنِ ظني

فكمْ من زلَّةٍ لي في الخــطايا  عضضتُ أناملي وقرعتُ سِنِّـي

يظنُّ الناسُ بي خـيراً وإنـِّي  لَشَرُّ الخــلقِ إنْ لم تَعْفُ عنِّـــي

 

الشاب العاصي

نقل نجيب الدين، وكان من أكابر علماء عصره، يقول: كنت ذات ليلة في مقبرة، فرأيت أربعة أشخاص قادمين يحملون جنازة... فتقدمت إليهم وأنكرت عليهم جلب الجنازة في هذا الوقت من الليل، وقلت: يبدو لي من فعلكم أنكم قتلتم إنساناً وتريدون دفنه في منتصف الليل، لكي لا يطلع أحد على أسراركم.

قالوا: لا تسئ الظن يا رجل، لأن أم الفتى معنا، فتقدمت إليًّ عجوز كانت معهم، سألتها: لماذا جئت بابنك إلى المقبرة في منتصف الليل؟.

قالت: كان ابني فاعلاً للمعاصي، وقبل أن يموت أوصى بعدّة وصايا، منها: إذا مت ضعي في رقبتي حبلاً، واسحبيني إلى الدار وقولي: هذا عبدك العاصي الهارب وقع في قبضة الموت، وقد أحكمت وثاقه وجئتك به، فارحمه... وأوصى إذا مات أن ادفنه ليلاً، لكي لا يرى جنازته أحد ويتذكر معاصيه فيتعذّب، وثالثاً أن تدفنيني بنفسك وتضعيني في لحدي، لعل الله إذا رأى شيبك يرأف بي ويغفر لي، صحيح إني تبت وندمت على أفعالي ولكن عليك تنفيذ هذه الوصايا.

ولما مات وضعت حبلاً في رقبته وسحبته، وبغتة سمعت هاتفاً يقول: ألا إن أولياء الله هم الفائزون، لا تفعلي هذا بعبدي العاصي، فإنا نعلم ما نصنع به، فرحت لقبول توبته وجئت به إلى المقبرة، وطلبت منها أن تسمح لي بدفنه، فوافقت، وما أن وضعته في قبره ولحدته حتى سمعت منادياً يقول: ألا إنّ أولياء الله هم الفائزون، ففهمت أن توبة العاصي تقبل، وأن الله لا يرضى بإهانة العاصي التائب.

قال الشاعر:

أَفْنيتَ عمرَكَ باغترارِكْ      ومُناكَ فيهِ وانتصـــارِكْ

ونسيتَ ما لا بــدَّ منـْهُ          وكانَ أولى بادكّـــــاركْ

وإنْ اعتبرتَ بما تــرى          فَكَفاكَ علماً باعـتبـــاركْ

لك ساعةٌ تأتيكَ مــنْ    ساعـاتِ ليلِكَ أو نهـارِكْ

بـادِرْ بحَـدِّكَ قبـلَ أنْ    تُقْضَى وتُزْعَجَ منْ قـرارِكْ

 

هذه القصص تؤكد أن التائب:

 أولاً: يجب أن يُدرِك عَظَمة ذنبه، ويزداد خجلاً، ويعرف أن رحمة ألله ومغفرته هي نعمة كبيرة ويكون جاداً في طلبها، ويعرف أنه لا يستغني عنها.

وثانياً: أن لا يطمئن إلى قبول توبته، ولا يكف عن التضرع وطلب المغفرة، وغالباً لا يحصل مثل هذا الاطمئنان إلا ساعة الموت.

والخلاصة: يجب أن يبقى في تحرق وتألم بين حالة الخوف والرجاء إلى حين يسمع نداء الملك ساعة الموت أن: (أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)[10].

 

 

 


[1]  الصحيفة السجادية (أبطحي): ص176.

[2]  سورة الفرقان: آية70.

[3]  الكافي: ج2، ص440.

[4]  الأمالي: ص406.

[5]  الكافي: ج8 ص384.

[6]  الأمالي: ص97-100.

[7]  سورة الأحزاب: آية 33.

[8]  سورة الحديد: آية 16.

[9]  سورة الفرقان: آية 12- 13.

[10]  سورة فصلت: آية30