حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا

اعلم أن الكتاب والسنة وإجماع الأمة دالة على ثبوت المحاسبة يوم القيامة، وحصول التدقيق والمناقشة في الحساب، والمطالبة بمثاقيل الذر من الأعمال والخطرات واللحظات قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[1].

وقال عز من قائل: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[2].

وقال تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)[3].

وقال عز وجل: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ)[4].

وقال الكريم جل وعلا: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً)[5].

وقال الجليل: (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)[6].

وقال سبحانه: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ* عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[7].

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله عز وجل، ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان)[8].

وعنه (صلى الله عليه وآله)أنه قال: (لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسال عن أربعة: عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ وعن حبنا أهل البيت؟)[9].

والآيات والأخبار الواردة في المحاسبة على الأعمال، والسؤال عن القليل والكثير، والنقير والقطمير، أكثر من أن تحصى.

وبإزاء ذلك أخبار دالة على الأمر بالمحاسبة والمراقبة في الدنيا والترغيب عليها، وعلى كونها سببا للنجاة والخلاص من حساب الآخرة، وخطره ومناقشته، فمن حاسب نفسه قبل أن يُحاسب، وطالبها في الأنفاس والحركات، وراقبها في الخطرات واللحظات، ووزن بميزان الشرع أعماله وأقواله: خف في القيامة حسابه وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه.

ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي سيئاته قال الله سبحانه: (وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[10].

والمراد بهذا النظر: المحاسبة على الأعمال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهزوا للعرض الأكبر)[11].

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئا إلا أعطاه فلييأس من الناس كلهم، ولا يكون له رجاء إلا من عند الله عز ذكره، فإذا علم الله عز وجل ذلك من قلبه لم يسأله شيئا إلا أعطاه، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها فإن للقيامة خمسين موقفا كل موقف ألف سنة ثم تلا: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ))[12]، وتفريع المحاسبة على الأمر باليأس عن الناس والرجاء من الله، يدل على أن الإنسان إنما يرجو الناس من دون الله في عامة أمره وهو غافل عن ذلك، وإن عامة المحاسبات إنما ترجع إلى ذلك، وذكر الوقوف في مواقف يوم القيامة بعد الأمر بمحاسبة النفس، وعطفه عليه بالفاء فيه إشارة إلى السبب، كأنه قيل والسبب في محاسبة النفس في الدنيا هو لأن للقيامة خمسين موقفا كل موقف ألف سنة، وهذه الإشارة في الحديث تبين صعوبة الموقف يوم القيامة وكثرة السؤال فيها، وهذا بنفسه يدعو الإنسان إلى أن يحاسب نفسه في الدنيا ليأمن يوم القيامة من حساب الله العسير والطويل، إذ أن الإنسان لو حاسب نفسه في الدنيا فلسوف يتوب عن ذنوبه ويستغفر الله منها، ثم يحاول أن يتجنب المعاصي ويستزيد من الطاعات، وإذا استمر على ذلك عمره كله، يأتي يوم القيامة من دون حاجة إلى حساب زائد على ذلك، شرط أن يكون حسابه في الدنيا حقيقياً وليس من خداع النفس كما جاء في الحديث عن الإمام الكاظم (عليه السلام): (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسنا استزاد الله، وإن عمل سيئا استغفر الله منه وتاب إليه)[13]، فكأنه يُقدِّم يوم الحساب الذي في الآخرة يقدمه إلى الدنيا فيجعل حياته كلها حساباً ليستغني بذلك عن حساب الآخرة.

 قال الإمام الصادق (عليه السلام): (لو لم يكن للحساب مهولة إلا حياء العرض على الله عز وجل، وفضيحة هتك الستر على المخفيات، لحق للمرء أن لا يهبط من رؤوس الجبال، ولا يأوي إلى عمران، ولا يأكل ولا يشرب ولا ينام إلا عن اضطرار متصل بالتلف)[14]، ومثل ذلك يفعل من يرى القيامة بأهوالها وشدائدها قائمة في كل نفس، ويعاين بالقلب الوقوف بين يدي الجبار، حينئذ يأخذ نفسه بالمحاسبة، كأنه إلى عرصاتها مدعو وفي غمراتها مسؤول، قال الله تعالى: (وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[15].

وعنه (عليه السلام) أنه قال لرجل: (إنّك قد جُعلتَ طبيب نفسك، وبُيّن لك الداء، وعُرّفت آية الصحة، ودُلِلت على الدواء، فانظر كيف قيامك على نفسك)[16].

وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام)، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (إن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بعث سرية، فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر.

قيل: يا رسول اللّه، وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس، ثم قال: أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه)[17].

 وفي بعض الأخبار: (ما أحق باللبيب أن يكون له أربع ساعات في النهار: ساعة يحاسب فيها نفسه وينظر ما اكتسب لها وعليها في ليلته ويومه، وساعة يرفع فيها حاجته إلى ربه، وساعة يفضي لإخوانه وثقاته الذين يصدونه عن عيوبه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذتها مما يحمد ويحل، وإن الساعة لمرغوبة على هذه الساعات الأخر، وان استجمام القلوب وتوديعها زيادة في قوتها)[18].

وجاء عن بعض الأولياء أنه كان يحاسب نفسه بأسلوب يستثير الدهشة والإكبار: ذلك ما نقل عن توبة بن الصمة، وكان محاسباً لنفسه في أكثر أوقات ليله ونهاره، فحسب يوماً ما مضى من عمره، فإذا هو ستون سنة، فحسب أيامها فكانت واحداً وعشرين ألف يوم وتسعمائة يوم، فقال: يا ويلتاه!!، ألقى مالكاً بواحد وعشرين ألف ذنب، ثم صعق صعقة كانت فيها نفسه.

وفي هذا السياق قال الشاعر:

إذا المرءُ أعطى نفسَهُ كلًَّ شهوةٍ  ولمْ يَنْهَها تاقتْ إلى كلِّ باطلِ

 


[1]  سورة الأنبياء: آية47.

[2]  سورة المجادلة: آية6.

[3]  سورة الكهف: آية49.

[4]  سورة الزلزلة: آية 6- 7- 8.

[5]  سورة آل عمران: آية 30.

[6]  سورة البقرة: آية 100.

[7]  سورة الحجر: آية 92- 93.

[8]  مجمع الزوائد: ج10 ص346.

[9]  بحار الأنوار: ج36 ص79.

[10] سورة الحشر: آية 18. 

[11]  وسائل الشيعة: ج16 ص99.

[12]  الكافي: ج8 ص143.

[13]  وسائل الشيعة: ج16 ص95.

[14]    مستدرك سفينة البحار: ج9، ص460. 

[15]  سورة الأنبياء: آية46.

[16]  الكافي: ج2 ص454.

[17]  معاني الأخبار للشيخ الصدوق: 160.

[18]  معدن الجواهر: ص42.