أركان التوبة وشروطها

التوبة هي الإقلاع عن الذنب، ويعتبر في تحقّقها ثلاثة قيود:

الأول: ترك الفعل في الحال.

الثاني: الندم على الماضي من الأفعال.

الثالث: العزم على الترك في الاستقبال.

جاء في نهج البلاغة أنه قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لقائل قال بحضرته: (استغفر الله: ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العلّيين وهو اسم واقع على‏ ستة معانٍ:

أولها: الندم على ما مضى.

والثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً.

والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة.

والرابع: أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّها.

والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى‏ تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد.

والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: أستغفر الله)[1].

يشتمل هذا الحديث الشريف الذي نقله السيد الرضي (أعلى الله مقامه) عن إمام الموحّدين علي‏ (عليه السلام)، على ركنين من أركان التوبة هما: الندامة، والعزم على ترك‏ العودة.

فالندامة إقرار بالخطأ والذنب الذي اقترفه، وهذه بداية الانعطاف عن طريق المعصية والرجوع إلى طريق الطاعة.

وأما العزم على ترك العودة إليه، فهو توطين للنفس أن لا تعود إلى هذا الطريق بعد أن عرف أنه طريق خاطئ يؤدي به إلى الهلكة، وعرف طريق الحق الذي يوصله إلى الرضوان والطاعة.، فهذان الأمران هما حقيقة التوبة وقوامها.

ويشتمل هذا الحديث أيضا على شرطين مهمين للقبول هما: إرجاع حقوق المخلوق لأهلها، وأداء حقوق الخالق سبحانه، وهذان الأمران مطلوبان، لأن العمل السابق الذي عمله بجهالة يمكن أن تترتب عليه تبعات بالنسبة للمخلوقين أو الخالق، وهذه التبعات لا تزول بمجرد ترك الذنوب، بل لابد من تداركها بعملٍ ما، حسب نوع الذنب، لكي يضمن أن لا يحاسب على ذنبه يوم القيامة، وسيأتي بيان الجانب العملي للتوبة من الذنب.

وأما الأمران الأخيران وهما الخامس والسادس، فهما من‏ شروط كمال التوبة، أي: أن التوبة الكاملة لا تتحقّق ولا تقبل من دونهما.

توضيح ذلك: إن لكلّ منزل من منازل السالكين مراتب ودرجات تختلف حسب‏ اختلاف حالات قلوبهم، وإن التائب إذا أراد البلوغ إلى مرتبة من مراتب الكمال فلابدّ له من‏ تدارك ما تركه من الأعمال المأمور بها وتدارك الحظوظ أيضاً، يعني لابدّ من تدارك الحظوظ النفسانية التي فاتته أيّام الآثام والمعاصي، وذلك بالسعي لمحو كلّ الآثار الجسمية والروحية التي حصلت في مملكة جسمه ونفسه من جرّاء الذنوب، حتى تعود النفس‏ مصقولة كما كانت في بدء الأمر، وتعود الفطرة إلى روحانيتها الأصيلة، وتحصل له‏ الطهارة الكاملة، وذلك لأن لكلّ معصية انعكاساً وأثراً في الروح، كما قد يحصل أثر من بعض الذنوب واللذائذ في الجسم، فلابد للتائب أن ينتفض‏ ويستأصل تلك الآثار ويقوم بالرياضة البدنية والروحية من العبادات والمناسك حتى تزول منهما كل‏ّ تبعات ومضاعفات الخطايا والآثام، ويتدارك بذلك الحظوظ الطبيعية، لأن صورة اللذات الطبيعية (المادّية) لا تزال ماثلة في ذائقة النفس، وما دامت‏ عالقة بها ترغب إليها النفس ويعشقها القلب، ويُخشى من لحظة طغيان النفس‏ وتمرّدها على صاحبها والعياذ بالله، وعليه أيضاً أن يذيب اللحوم التي ‏نشأت على جسمه من الحرام أو المعصية...

فلابدّ على السالك لسبيل الآخرة والتائب عن المعاصي أن يذيق الروح ألم‏ الرياضة الروحية ومشقّة العبادة، فإذا سهر ليلة في المعصية تداركها بليلة في‏ العبادة، وإذا عاش يوماً واحداً مع اللذائذ الطبيعية تداركه بالصوم والمستحبات ‏المناسبة حتى تطهر النفس من كلّ آثار المعاصي وتبعاتها التي هي عبارة عن تعلّق ‏حبّ الدنيا بالنفس ورسوخه فيها وتتطهّر من كلّ ذلك.

فهذان المقامان من المتمّمات والمكمّلات لمنزل التوبة، والإنسان عندما يريد في بدء الأمر أن يدخل مقام التوبة ويتوب إلى الله تعالى ينبغي له أن لا يظنّ بأن المطلوب منه المرتبة الأخيرة من التوبة لأنه سيجد الطريق صعباً وعملية التوبة شاقّة فينصرف عنها ويتركها.

إن كلّ مقدار يساعد عليه حال السالك في سلوكه لطريق الآخرة يكون مطلوباً ومرغوباً فيه، وعندما تطأ قدماه الطريق ييسّر الله تعالى له السير عليه، فلابدّ أن لا تمنع صعوبة الطريق الإنسان عن الهدف الأصيل، لأنه مهم جدّاً وعظيم جدّاً، وإذا انتبهنا إلى عظمة الهدف وأهمّيته تذلّلت جميع الصعاب من أجله، وأيّ شيء أعظم من النجاة الأبدية والروح والريحان الدائمين؟ وأيّ بلاء أعظم من الهلاك‏ الدائمي والشقاء السرمدي؟ ومع ترك التوبة، والتسويف والتأجيل قد يبلغ الإنسان‏ إلى الشقاء الأبدي والعذاب الخالد والهلاك الدائم.

 


[1]  نهج البلاغة: ج4 ص97.