قال تعالى: (إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بـِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)[1]. دلّت الآية على أن الله تعالى يقبل التوبة عن عباده بشرطين:
أحدهما: (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بـِجَهالَةٍ). الجهل يقابل العلم، غير أن الناس لما شاهدوا من أنفسهم أنهم يعملون كلاً من أعمالهم الجارية عن علم وإرادة، وأن الإرادة إنما تكون عن حبٍّ ما وشوقٍ ما، سواء كان الفعل مما ينبغي أن يفعل بحسب نظر العقلاء في المجتمع أو مما لا ينبغي أن يفعل، لكن من له عقل مميّز في المجتمع عندهم لا يقدم على السيّئة المذمومة عند العقلاء، فأذعنوا بأن من اقترف هذه السيّئات المذمومة لهوى نفساني وداعية شهوية أو غضبية خفي عليه وجه العلم وغاب عنه عقله المميّز الحاكم في الحَسَن والقبيح والممدوح والمذموم وظهر عليه الهوى، وعندئذ يسمّى حاله في علمه وإرادته جهالة في عرفهم وإن كان بالنظر الدقيق هو يتصرف عن علم بالأمور، لكن لمّا لم يؤثّر ما عنده من العلم بوجه قبح الفعل، وذمّه في ردعه عن الوقوع في القبح والشناعة أُلحق بالعدم، فكان هو جاهلاً عندهم حتى أنهم يسمّون الإنسان الشاب الحدث السنّ قليل التجربة جاهلاً؛ لغلبة الهوى وظهور العواطف والإحساسات على نفسه، ولذلك أيضاً تراهم لا يسمّون حال مقترف السيّئات إذا لم ينفعل في اقتراف السيّئة عن الهوى والعاطفة جهالة بل يسمّونها عناداً وعمداً وغير ذلك.
فالحاصل إن معنى الجهالة في العرف يختلف عن معنى الجهل، فالأول مقابل العقل بمعنى السداد في العمل، والثاني مقابل العلم.
فتبيّن بذلك أن الجهالة في باب الأعمال إتيان العمل عن الهوى وظهور الشهوة والغضب من غير عناد مع الحق.
ومن خواصّ هذا الفعل الصادر عن جهالة أنه إذا سكنتْ ثورة القوى وخمد لهيب الشهوة أو الغضب باقتراف السيّئة أو بحلول مانع أو بمرور زمان أو ضعف البدن بهرم أو مرض، عاد الإنسان إلى عقله وزالت عنه أسباب الجهالة وبانت الندامة، بخلاف الفعل الصادر عن عناد وتعمّد ونحو ذلك فإن سبب صدوره لما لم يكن طغيان شيء من القوى والعواطف والميول النفسانية، بل أمراً يسمّى عندهم بخبث الذات ورداءة الفطرة، لا يزول بزوال طغيان القوى والميول سريعاً أو بطيئاً، بل دام نوعاً بدوام الحياة من غير أن يلحقه ندامة من قريب إلا أن يشاء الله، نعم ربما يتّفق أن يرجع المعاند اللجوج عن عناده ولجاجه واستعلائه على الحقّ، فيتواضع للحقّ ويدخل في ذلّ العبودية فيكشف ذلك عندهم عن أن عناده كان عن جهالة، وإن كان حال عناده يسمى معاندا، وفي الحقيقة كلّ معصية جهالة من الإنسان، وعلى هذا لا يبقى للمعاند مصداق إلا من لا يرجع عن سوء عمله إلى آخر عهده بالحياة.
ثانيهما: (ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيب)، وقد أجمعوا على أن المراد من هذا القرب حضور زمان الموت ومعاينة أهواله، والدليل على ذلك قوله تعالى في الآية التالية: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ)[2].
ولازم ذلك أن الذي يعمل السوء بجهالة لا يقيم عاكفاً على طريقته ملازماً لها مدى حياته من غير رجاء في عدوله إلى التقوى والعمل الصالح كما يدوم عليه المعاند اللجوج، بل يرجع عن عمله من قريب، فكلّ معاند لجوج في عمله إذا شاهد ما يسوؤه من جراء عمله ووبال فعله ألزمته نفسه على الندامة والتبرّي من فعله، لكنه بحسب الحقيقة ليس بنادم عن طبعه وهداية فطرته، بل إنما هي حيلة تحتالها نفسه الشرّيرة للتخلّص من وبال الفعل، والدليل عليه أنه إذا اتّفق تخلّصه من الوبال المخصوص عاد ثانياً إلى ما كان عليه من سيّئات الأعمال؛ قال تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لما نُهُوا عَنْه وَإنَّهُمْ لَكَاذبُون.[3])
ويتبيّن مما مرّ أن الشرطين جميعاً أعني قوله: (بجهالة) وقوله: (مِنْ قَرِيبٍ) احترازيان، بمعنى أنه يراد بالأول منهما أن لا يعمل السوء عن عناد واستعلاء على الله، وقد تبين وجهه مما مر قريبا.
وبالثاني منهما أن لا يؤخر الإنسان التوبة إلى حضور موته كسلاً وتوانياً ومماطلة، وأما وجهه فهو أن التوبة هي رجوع العبد إلى الله سبحانه بالعبودية، بمعنى أن يرجع العبد إلى ساحة العبودية عن طريق طلب التوبة من الله عليه، فتكون توبته تعالى أيضاً قبول هذا الرجوع، ولا تكون العبودية التي يطلب العبد الرجوع إليها بالتوبة إلا مع الحياة الدنيوية التي هي ظرف الاختيار المصحح للاختبار وموطن الطاعة والمعصية، ومع ظهور آية الموت لا اختيار تتمشى معه طاعة أو معصية، قال تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمانِها خَيْراً)[4]، وقال تعالى: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ)[5].
وبالجملة يعود المعنى إلى أن الله سبحانه إنما يقبل توبة المذنب العاصي إذا لم يقترف المعصية استكباراً على الله بحيث يبطل منه روح الرجوع والتذلّل لله ولم يتساهل ويتسامح في أمر التوبة تساهلاً يؤدي إلى فوت الفرصة بحضور الموت.
فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من تاب قبل موته بسنة قبل الله توبته، ثم قال: إن السنة لكثيرة، من تاب قبل موته بشهر قبل الله توبته، ثم قال: إن الشهر لكثير، من تاب قبل موته بجمعة قبل الله توبته، ثم قال: إن الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بيوم قبل الله توبته، ثم قال: إن يوماً لكثير، من تاب قبل أن يعاين قبل الله توبته)[6].
والمراد من المعاينة التي تمنع من قبول التوبة هي مشاهدة آيات الآخرة، لأن الإنسان عند القرب من الموت إذا شاهد أحوالاً وأهوالاً صارت معرفته بالله ضرورية عند مشاهدته تلك الأهوال: (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ)[7]. ومتى صارت معرفته بالله ضرورية بارتفاع حجب الدنيا سقط التكليف عنه.
ففي رواية أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (إن إبليس لما رأى آدم أجوف قال: وعزّتك لا أخرج من جوفه ما دام فيه الروح، فقال الله تبارك وتعالى: وعزّتي لا أحول بينه وبين التوبة ما دام الروح فيه)[8].
وفي رواية أخرى عنه (صلى الله عليه وآله) قال: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)[9].