قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)[1]، تكلمنا في المقام السابق عن الذنوب والآن نتكلم عن آثار الذنوب، فكما أن لمخالفة الإرشادات الطبية آثارا وعوارض، كذلك في الركون إلى معاصي اللَّه جل وعلا آثارها أيضاً، والآثار على كيفيات ونقسمها على حسب تتبع ما ورد عن المعصومين (عليهم السلام) فيها إلى أربعة موارد:
أ- أثر الذنوب في العقل.
ب-أثر الذنوب في الحياة الدنيا.
ج- أثر الذنوب في الإيمان.
د-أثر الذنوب في الآخرة.
أ- تأثير الذنوب في العقل:
إن للذنوب أثراً مباشراً في العقل لا يُلتفت إليه عادة، إلا بعد التأمل ومراجعة الإنسان حاله قبل وبعد ارتكاب الذنب وكذلك بعد التوبة منه، فكما أن المرآة تتسخ بسبب الغبار فلا يرى فيها شيء، فكذلك العقل بسبب الذنوب تحصل فيه حجب وأغطية فلا يستطيع أن يدرك شيئا، فلو أن الإنسان لم يعص اللَّه تعالى أربعين يوماً لجرت ينابيع الحكمة على لسانه كما في الخبر[2].
فالذنوب تمنع من الإدراك والفهم ولذا لم يكن لقمان الحكيم حكيماً إلا لصفاء سريرته، وفي المقام قال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): (من قارف ذنباً فارقه عقل لا يرجع إليه أبداً)[3].
ومن هذا نفهم أهمية اجتناب الذنوب على الحياة الإيمانية للإنسان، إذ أن العقل كما في تعريف المعصومين (عليهم السلام) هو ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان، ولذا فمن زاد عقله زاد إيمانه، ومن قارف ذنباً نقص عقله وقل إيمانه بتبع ذلك، فمقارفة الذنوب تؤدي بالإنسان تدريجياً إلى قلة الإيمان وقلة الاعتقاد بعالم الغيب حتى يفقد شيئاً فشيئاً جملة من الاعتقادات المهمة في حياته، قال تعالى:
(ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون)[4].
ب - تأثير الذنوب في الحياة الدنيا:
إن تأثير المعاصي في الحياة الدنيا كبير جداً فكل مرض وبلية ومشكلة هي بسبب ذنب من الذنوب، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (أما أنه ليس من عرق يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلا بذنب، وذلك قول اللَّه عز وجل في كتابه: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) ثم قال: وما يعفو اللَّه أكثر مما يؤاخذ به)[5].
بل أعظم من ذلك فحتى الخدشة التي تصيب الجلد والكبوة في الأرض بسبب ذنب، فعن الإمام علي (عليه السلام) قال: (توقوا الذنوب فما من بلية ولا نقص رزق إلا بذنب حتى الخدش والكبوة والمصيبة، قال اللَّه عز وجل: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ))[6].
بل أنه قد يُبتلى الإنسان في زوجته، أو تبتلى الزوجة في زوجها، أو يبتلى كل منهما في أبنائهما وما هو إلا بسبب الذنوب، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (قد يبتلي اللَّه المؤمن بالبلية في بدنه أو ماله أو ولده أو أهله وتلا هذه الآية: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)، وضم يده ثلاث مرات ويقول: ويعفو عن كثير)[7].
ومن الآثار المهمة والخطيرة للذنوب في الحياة الدنيا هو تقريب أجل الإنسان وإنقاص عمره، ففي دعاء الإمام الكاظم (عليه السلام) في أول شهر رمضان: (اللهم اغفر لي الذنوب التي تعجل الفناء)[8]، فاللَّه تعالى مثلاً قرر لإنسان ما أن يعيش مائة سنة فإذا أذنب نقصت سنة وإذا اغتاب مثلاً نقصت مقدارا آخر وهكذا حتى يموت في سن مبكرة وما هو إلا بسبب ذنوبه، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال)[9].
هذا ولكن الله بمقتضى رحمته الواسعة يشمل المؤمن بلطفه وعنايته فيتعقبه بالبلية بعد الذنب ليطهره منه في الدنيا قبل الآخرة، حتى لا تصعد روحه إلى ربها ولا يأتي يوم القيامة إلا خالياً من الذنوب.
فعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (المرض للمؤمن تطهير ورحمة وللكافر تعذيب ولعنة، وإن المرض لا يزال بالمؤمن حتى لا يكون عليه ذنب)[10].
وعن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قال: (السقم يمحو الذنوب)[11].
فلا يحزن من يصاب بالعاهات فهو وإن تألم ولكن هذا الألم لا يقاس بألم الآخرة فليفرح وليحمد اللَّه على حاله وليطلب العون والمغفرة، ولذا كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) إذا رأى المريض قد برئ قال له: (ليهنئك الطهر من الذنوب فاستأنف العمل)[12].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الله عز وجل: ما من عبد أريد أن ادخله الجنة إلا ابتليته في جسده فإن كان ذلك كفارة لذنوبه وإلا شددت عليه عند موته حتى يأتيني ولا ذنب له، ثم ادخله الجنة)[13].
بل إن الإنسان في بعض الأحيان يشعر بحزن ولا يعرف سببه وما هو إلا ذنب أذنبه فأراد اللَّه تعالى عن طريق الحزن التكفير عنه، فعن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قال: (إذا كثرت ذنوب المؤمن ولم يكن له من العمل ما يكفرها، ابتلاه اللَّه بالحزن ليكفرها به عنه)[14].
وعن عمرو بن جميع قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إن العبد المؤمن ليهتم في الدنيا حتى يخرج منها ولا ذنب عليه)[15].
وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (لا يزال الهم والغم بالمؤمن حتى ما يدع له من ذنب)[16].
بل أعظم من ذلك بعض الأحيان يرى كوابيس وأموراً مخيفة في نومه وما هي إلا كفارة لذنوبه فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن المؤمن ليهول عليه في منامه فتغفر له ذنوبه وإنه ليمتهن[17] في بدنه فتغفر له ذنوبه)[18].
ج- تأثير الذنوب في الإيمان:
وأما تأثير المعاصي على الإيمان فكما أن الطاعة مقربة إلى الله تعالى وجالبة لرضاه فكذلك المعاصي بضدها مبعدة عنه ومجلبة لسخطه، والذنب على الذنب كالحطب الذي في النار كلما تجمع ازداد وهج النار، فبالذنب تشتد المعاصي وباشتداد المعاصي يخرج الإنسان من موضع عناية اللَّه تبارك وتعالى، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: كان أبي (عليه السلام) يقول: (ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة، إن القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله)[19].
وعنه (عليه السلام) أنه قال: (إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فان تاب انمحت وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً)[20]. فيسلب الإيمان حينئذ ويموت على الكفر والعياذ بالله.
د- تأثير الذنوب في القرب الإلهي والاستعداد للآخرة:
إن مقارفة الذنوب تؤثر في مقام القرب الإلهي وتمنع من الاستعداد للآخرة والذنوب سبب رئيس لنسيان اللَّه وعدم الاستعداد للقائه، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل وإن العمل السيء أسرع في صاحبه من السكين في اللحم)[21].
وليس الأمر مقتصراً على هذا الحد وهو عدم التوفيق للطاعة بل في يوم القيامة يعاني الأَمَرّين، ويعاين آثار ما فعل متجسدا فيتألم ويندم ولكن لات حين مندم، فعن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) قال: (يا بن مسعود لا تحقرن ذنباً ولا تصغرنه واجتنب الكبائر فإن العبد إذا نظر يوم القيامة إلى ذنوبه دمعت عيناه قيحاً ودماً يقول اللَّه تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً))[22].
وقد ورد في الخبر: (إنّه ينشر للعبد كلّ يوم وليلة أربع وعشرون خزانة مصفوفة فيفتح له منها خزانة فيراها مملوّة نورا من حسناته الَّتي عملها في تلك الساعة فيناله من الفرح والاستبشار بمشاهدة تلك الأنوار الَّتي هي وسيلة عند الملك الجبّار ما لو وزّع على أهل النار لأدهشهم ذلك الفرح عند الإحساس بألم النار، ثمّ يفتح له خزانة أخرى سوداء مظلمة يفوح نتنها ويتغشّاه ظلامها وهي الساعة الَّتي عصى اللَّه فيها فيناله من الهول والفزع ما لو قسّم على أهل الجنّة لتنغّص عليهم نعيمها، ويفتح له خزانة أخرى فارغة ليس فيها ما يسرّه ولا ما يسوؤه)[23].
[1] سورة الشورى: آية30.
[2] عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج1 ص74.
[3] المحجة البيضاء في إحياء الإحياء للفيض الكاشاني: ج 8 ص160.
[4] سورة الروم: آية 10.
[5] الكافي: ج2 ص269.
[6] الخصال: ص616.
[7] تحف العقول: ص214.
[8] الكافي ج4 ص72، ومصباح المتهجد للشيخ الطوسي ص604.
[9] الكافي : ج4: ص305.
[10] ثواب الأعمال: ص193.
[11] مستدرك الوسائل: ج2 ص65.
[12] أمالي الشيخ المفيد: ص35.
[13] الكافي: ج2، ص446.
[14] بحار الأنوار: ج70 ص157.
[15] الكافي: ج2، ص445.
[16] الكافي: ج2، ص446.
[17] مهنه كمنعه ونصره مهنا ومهنة : خدمه وضربه وجهده وامتهنه : استعمله للمهنة فامتهن هو لازم متعد والمهين : الحقير الضعيف
[18] أمالي الشيخ الصدوق: ص589.
[19] الكافي: ج2 ص268.
[20] المصدر السابق: ج2 ص271.
[21] المصدر السابق: ج2 ص272.
[22] مستدرك الوسائل: ج11 ص350.
[23] المحجة البيضاء للفيض الكاشاني: ج8، ص152.