الصغائر قد تكون كبائر

ما دامت المعصية تعد مخالفة لحكم من أحكام الله تعالى، فهي تستوجب الذنب والعقوبة في الدنيا والآخرة، ولا يختلف في ذلك الصغائر والكبائر فكلاهما معصية، ولكن الفرق بينهما في شدة العذاب وقلته، فالكبائر هي التي توعد اللَّه مرتكبها بالنار في كتابه المجيد، كعقوق الوالدين والحسد والغيبة، وأما الصغائر فهي ما ورد عن طريق النبي (صلى الله عليه وآله) أو أهل بيته (عليهم السلام) تحريمها ولم يرد وعيد في القرآن عليها أو ذكر النار عقوبة لها، كما تقدم بيان ذلك.

ولكن مع ذلك فهنالك حالات تكون الذنوب كلها عظيمة وتوجب دخول النار فتتحول الصغيرة إلى كبيرة بأسباب:

أحدها: الإصرار والمواظبة على الذنب، ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أعظم الذنوب عند اللَّه ذنب أصر عليه عامله)[1].

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار)[2].

والسر فيه: أن الصغيرة لقلة خطرها لا تؤثر في القلب بإظلامه مرة أو مرتين، ولكن إذا تكررت تراكمت آثارها الضعيفة فصارت قوية وأثرت على التدريج في القلب، وذلك كما أن قطرات من الماء تقع على الحجر على توال فتؤثر فيه، وذلك القدر من الماء لو صب عليه دفعة لم يؤثر، ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (خير الأعمال أدومها، وإن قل)[3].

وإذا كان النافع هو الطاعة الدائمة وإن قلت، فكذلك الضار هو السيئة الدائمة وإن قلت.

ثم إن معنى الإصرار أيضا يحتاج إلى تعريف وقد جاء في تعريفه، حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: ((وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، قال (عليه السلام): الإصرار: أن يذنب الذنب، فلا يستغفر ولا يحدث نفسه بتوبة، فذلك الإصرار)[4]. والظاهر أن الإمام (عليه السلام) كان بصدد بيان أدنى مراتبه.

وثانيها: استصغار الذنب، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أشد الذنوب عند اللَّه سبحانه ذنب استهان به راكبه)[5].

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (من الذنوب التي لا تغفر قول الرجل يا ليتني لا أُواخَذُ إلا بهذا)[6].

فان العبد كلما استعظمه من نفسه صغر عند الله، وكلما استصغره كبر عند الله، لأن استعظامه يصدر عن نفور القلب عنه وكراهته له، وذلك النفور يمنع من شدة تأثره به، واستصغاره يصدر عن الألفة به، وذلك يوجب شدة الأثر في القلب، والقلب هو المطلوب تنويره بالطاعات والمحذور تسويده بالسيئات، ولذلك لا يؤاخذ بما يجري عليه في الغفلة، لعدم تأثره به.

ولذلك ورد في الخبر: (أن المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب مر على أنفه فأطاره)[7].

وروى زيد الشحام عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (اتقوا المحقرات من الذنوب، فإنها لا تغفر، قلت: وما المحقرات؟ قال: الرجل يذنب الذنب، فيقول طوبى لي لو لم يكن لي غير ذلك)[8].

وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه نزل بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: (ائتونا بالحطب، فقالوا: يا رسول الله! نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب، قال: فليأت كل إنسان بما قدر عليه.

فجاءوا به حتى رموه بين يديه بعضه على بعض، فقال (صلى الله عليه وآله): هكذا تجتمع الذنوب، إياك والمحقرات من الذنوب فان لكل شيء طالباً، ألا وإن طالبها يكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)[9].

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا تصغر ما ينفع يوم القيامة، ولا تصغر ما يضر يوم القيامة، فكونوا فيما أخبركم الله كمن عاين)[10].

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (اتقوا المحقرات من الذنوب فان لها طالباً، يقول أحدكم: أذنب واستغفر الله، إن الله عز وجل يقول: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ). وقال عز وجل: 

(إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ))[11].

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الله يحب العبد أن يطلب إليه في الجرم العظيم، ويبغض العبد أن يستخف بالجرم اليسير)[12].

وقال الإمام الكاظم (عليه السلام): (لا تستكثروا كثير الخير ولا تستقلوا قليل الذنوب، فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يكون كثيراً، وخافوا الله في السر حتى تعطوا من أنفسكم النصف)[13].

والسر في عظم الذنب الصغير هو النظر إلى من يبارز به الإنسان ومن يعصي، فمن عصى ربه الكبير المتعال يرى الصغير كبيراً، وإن كان في نفسه صغيراً، ولكن بالجرأة على الله وعصيان أمره يستوي الذنب الكبير والصغير في العِظَم، وقد أوحى الله إلى بعض أنبيائه (عليهم السلام): (لا تنظر إلى قلة الهدية وانظر إلى عظم مهديها، ولا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى كبرياء من واجهته بها)[14].

وثالثها: أن يأتي بالصغائر ولا يبالي بفعلها، اغتراراً بستر الله عليه، وحلمه عنه، وإمهاله إياه، ولا يعلم أنه إنما يمهل مقتاً ليزداد بالإمهال إثماً، فتزهق أنفسهم وهم كافرون، فمن ظن أن تمكنه من المعاصي عناية من الله به، فهو جاهل بمكامن الغرور، وآمن من مكر الله الذي لا يأمن مكره إلا الكافرون.

ورابعها: السرور بالصغيرة وعدّ التمكن من ذلك نعمة، والغفلة عن كونها نقمة وسبب الشقاوة، فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قال: (إياك والابتهاج بالذنب فإن الابتهاج به أعظم من ركوبه)[15].

فكلما غلبت حلاوة الصغيرة عند العبد كبرت وعظم أثرها في تسويد قلبه، فمن هتك عرض مسلم وفضحه، أو غبنه في ماله في المعاملة ثم فرح به، ويقول: أما رأيتني كيف هتكت عرضه؟ وكيف فضحته؟ وكيف روجت عليه الزيف؟ كانت معصيته أشد مما إذا لم يفرح بذلك وتأسف عليه، إذ الذنوب مهلكات، وإذا ابتلى بها العبد فينبغي أن يتأسف من حيث إن العدو - أعني الشيطان - ظفر به وغلب عليه، لا أن يفرح بذلك، فالمريض الذي يفرح بانكسار إنائه الذي فيه دواؤه لتخلصه من ألم شربه لا يرجى شفاؤه.

وخامسها: أن يذنب ويظهر ذنبه بأن يذكره بعد إتيانه، أو يأتي به في مشهد غيره، فإن ذلك خيانة منه على الله الذي أسدله عليه، وتحريك الرغبة والشر فيمن أسمعه ذنبه أو أشهده فعله، فهما خيانتان انضمتا إلى خيانته فتغلظت به، فإن انضاف إلى ذلك الترغيب للغير فيه والحمل عليه وتهيئة الأسباب له صارت خيانته رابعة، وتفاحش الأمر، وهذا لأن من صفات الله أنه يظهر الجميل ويستر القبيح ولا يهتك الستر، فالإظهار كفران لهذه النعمة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (المستتر بالحسنة تعدل سبعين حسنة، والمذيع بالسيئة مخذول، والمستتر بها مغفور له)[16].

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (من جاءنا يلتمس الفقه والقرآن وتفسيره فدعوه ومن جاءنا يبدي عورة قد سترها الله فنحوه)[17].

وسادسها: أن يكون الآتي بالصغيرة عالماً يقتدي به الناس، فإذا فعله بحضرة الناس كبر ذنبه، وذلك كلبسه الذهب والإبريسم، وأخذه مال الشبهة، وإطلاقه اللسان في أعراض الناس، ونحو ذلك، فهذه ذنوب قد يتبعه غيره ويقلده، فيكون شريكاً في الإثم، وحتى بعد موته يبقى شره مستطيراً في العالم، ففي الخبر: (مَن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيء)[18]، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه، قال الله تعالى: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ)[19]، والآثار: ما يلحق الأعمال بعد انقضاء العمل، فعلى المذنب وظيفتان: إحداهما: ترك الذنب، والأخرى: إخفاؤه.

 


[1]  مستدرك الوسائل: ج11 ص368.

[2]  الكافي: ج2 ص288.

[3]   جامع السعادات: ج3 ص59.

[4]   الكافي: ج2 ص288.

[5]   جامع أحاديث الشيعة: ج13 ص334.

[6]  الخصال: ص24.

[7]  جامع السعادات: ج3 ص59.

[8]  الكافي: ج2 ص287.

[9]  بحار الأنوار: ج70 ص346.

[10]  جامع السعادات: ج3 ص60.

[11]  بحار الأنوار: ج70 ص321.

[12]  الكافي: ج2 ص427.

[13]  المصدر السابق.

[14]  جامع السعادات: ج3 ص60.

[15]  بحار الأنوار: ج75 ص159.

[16]  وسائل الشيعة: ج9 ص456.

[17]  الكافي: ج2 ص442.

[18]  جامع السعادات: ج3 ص62.

[19]  سورة يس: آية12.