المطلب الرابع: مكانة الأم في الإسلام

اتسمت الشريعة الإسلامية بالاعتدال في إعطاء كل ذي حق حقه، ومن جملتهم الوالدان، فالقرآن الكريم أمر الأبناء بالإحسان للوالدين بعد عبادة الله عز وجل:

 (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) [1].

ولقد أكد الدين الإسلامي على المرأة الأم وأوصى بها وجعل برَّها من أصول الفضائل، كما جعل حقها أوكد من حق الأب، فقد روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: (جاء رجل وسأل النبيّ  (صلى الله عليه وآله)عن برّ الوالدين. فقال: أبرِر أمّك، أبرِر أمّك أبرِر أمّك. أبرِر أباك أبرِر أباك، وبدأ بالأمّ قبل الأب)[2]، والتأكيد في تقديم حق الأم على الأب هو لما تحملته من مشاق الحمل والوضع والإرضاع والتربية، وهذا ما يقرره القرآن ويكرره في أكثر من سورة ليثبته في أذهان الأبناء ونفوسهم وذلك مثل قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)[3]، وقوله تعالى ذكره: (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[4]

ولعظم منزلة الأم الصالحة أكرمها الإسلام بأن جعل الجنة تحت اقدامها[5]، ولأجل ذلك يروى أنه لما جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)وقال: يا رسول الله ! أتمنى بأن أقبل عتبة الجنة وجبهة حور العين -يعني أدخل الجنة- قال له الرسول (صلى الله عليه وآله): (قبّل رجلي أمّك، وجبهة أبيك).

وقيل للسجاد (عليه السلام): أنت أبرّ الناس بأمك ولا تزال تأكل معها؟.. قال: أخاف أن يسبق يدي إلى ما سابقت عينها إليه، فأكون قد عققتها. [6]

وقد فرضت الشريعة الإسلامية على الأبناء بر الوالدين واعتبرته من أفضل الأعمال، فقد روي أن موسى (عليه السلام) ناجى ربه يوماً وقال: (يا رب أي شيء أحسن الطاعات؟. قال الله تعالى: بر الوالدين)[7].

والروايات تُصرح بأن بر الوالدين أفضل حتى من العبادات،  روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (برّ الوالدين أفضل من الصلاة والصوم والحجّ والعمرة، والجهاد في سبيل الله)[8].

وبِرُّهم يعني: إحسان عشرتهما، وتوقيرهما، وخفض الجناح لهما، وطاعتهما في غير المعصية، والتماس رضاهما في كل أمر، حتى الجهاد، فإذا كان فرض كفاية لا يجوز إلا بإذنهما، فإنّ برهما ضرب من الجهاد، روي أن رجلاً أتى رسول الله  (صلى الله عليه وآله) وقال: (إنّي رجل شابّ نشيط، وأحبّ الجهاد، ولي والدة تكره ذلك، فقال له:(صلى الله عليه وآله)  إرجع فكن مع والدتك، فو الّذي بعثني بالحقّ! لأُنسها بك ليلة خيرٌ من جهاد في سبيل الله سنة.[9](

وجاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: (يا رسول الله، أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك،  فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم، قال: فالزمها فإن الجنة عند رجليها)[10].

  بين الحقوق والواجبات

الشرع والعقل كل منهما يحكم بأن هناك حقوقا متبادلة بين أفراد المجتمع، فهناك حقوق متبادلة بين المؤمنين وكذلك بين الجيران وبين الأرحام، وهذه الحقوق متفاوتة كل بحسبه وقدره، وهذا المنطق لا يجوز تطبيقه على العلاقة مع الأبوين بحال فلو افترضنا أن الأبوين تعدّيا وقصّرا في واجباتهما تجاه ولدهما فإن حقهما عليه محفوظ لا يسقطه منه شيء، وكبير لا يعادله شي‏ء، فلقد تحملا الضيق والشدة لتكون في سعة، والذل والهوان من أجل سعادتك، وكم رأينا البعض من الآباء يتجرؤن على ارتكاب الحرام من أجل أبنائهم، ويكفي في حقهم عليك أنهما أوجداك في هذا الوجود؟!

وأهم حقوق الوالدين التي لزم على الأبناء مراعاتها، هي الآتي:

أولاً: الإحسان إليهما: روي عن أبي ولّاد الحناط قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) ما هذا الإحسان؟ فقال: الإحسان أن تحسن صحبتهما وأن لا تكلّفهما أن يسألاك شيئًا ممّا يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين أليس يقول الله عزّ وجلّ: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ))[11].

ولقد أفتى الفقهاء بأن الأبناء يلزم عليهم الإنفاق على الوالدين إن كانا محتاجين، وتأمين حوائجهما المعيشيّة، وتلبية طلباتهما، فيما يرجع إلى شؤون حياتهما في حدود المتعارف والمعمول حسبما تقتضيه الفطرة السليمة، ويعدُّ تركها تنكراً لجميلهما عليه، وهو أمر يختلف سعة وضيقاً بحسب اختلاف حالهما من القوة والضعف.

والنصوص الشرعية أكدت على التفاصيل، فمن جهة النفقة روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)أنه قال: (هل تعلمون أيّ نفقة في سبيل الله أفضل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال (صلى الله عليه وآله): نفقة الولد على الوالدين)[12].

وقال النبيّ(صلى الله عليه وآله): (أفضل الكسب كسب الوالدين، وأفضل الخدمة خدمتهما، وأفضل الصدقة عليهما، وأفضل النوم بجنبهما)[13].

ومن جهة مداراتهما روي عن إبراهيم بن شعيب قال: قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام): (إنّ أبي قد كبر جدًّا وضعف، فنحن نحمله إذا أراد الحاجة. فقال(عليه السلام): إن استطعت أن تلي ذلك منه فافعل، ولقّمه بيدك، فإنه جُنّةٌ لك غدا)[14].

ثانياً: مصاحبتهما بالمعروف: بعدم الإساءة إليهما قولاً أو فعلاً، وإن كانا ظالمين له، روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنه قال: (..وأمّا قول الله عزّ وجلّ: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّوَلاَ تَنْهَرْهُمَا) قال (عليه السلام): إن أضجراك فلا تقل لهما: أف، ولا تنهرهما إن ضرباك، قال: (وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) قال: إن ضرباك فقل لهما: غفر الله لكما، فذلك منك قول كريم، قال: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) قال: لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلّا برحمة ورقّة ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولا يدك فوق أيديهما ولا تقدّم قدّامهما)[15].

هذا فيما يرجع إلى شؤونهما، وأما فيما يرجع إلى شؤون الولد نفسه، مما يترتب عليه تأذي أحد أبويه فهو على قسمين:

١- أن يكون تأذيه ناشئاً من شفقته على ولده، فيحرم التصرف المؤدي إليه، سواء نهاه عنه أم لا.

٢- أن يكون تأذيه ناشئاً من اتصافه ببعض الخصال الذميمة كعدم حبه الخير لولده دنيوياً كان أم أخروياً.

ولا أثر لتأذي الوالدين إذا كان من هذا القبيل، ولا يجب على الولد التسليم لرغباتهما من هذا النوع، وبذلك يظهر أن إطاعة الوالدين في أوامرهما ونواهيهما الشخصية غير واجبة في حدِّ ذاتها.

ثالثاً: الاحترام: وإنما يكون ذلك حاكياً عما في الضمير والسريرة لهما من الشأن والمكانة بطريق الفعل والدعاء وغيرهما ويكفيك ما جاء عن الصديقة الطاهرة (عليها السلام): (ما استطعت أن أكلم رسول اللَّه  (صلى الله عليه وآله) من هيبته)[16]، مع أنها أحب الخلق إليه وروحه التي بين جنبيه.

وفي الصحيفة السجادية: (اللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف وأبرهما بر الأم الرؤوف واجعل طاعتي لوالدي وبري بهما أقرّ لعيني من رقدة الوسنان واثلج لصدري من شربة الظمآن...)[17].

وبهذا يتضح واجب الدعاء لهما، فقد روي عن معمّر بن خلاد قال: (قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): أدعو لوالدَي إذا كانا لا يعرفان الحقّ؟ قال (عليه السلام) : ادع لهما وتصدّق عنهما، وإن كانا حيّين لا يعرفان الحقّ فدارهما، فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إنّ الله بعثني بالرحمة لا بالعقوق)[18].

والاحترام لهما واجب على كل حال، وينبغي مراعاته حتى في المجلس وأثناء المشي، فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: (قم عن مجلسك لأبيك ومعلّمك ولو كنت أميرًا)[19].

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إنّ أبي (عليه السلام) نظر إلى رجل ومعه ابنه يمشي، والابن متّكئ على ذراع الأب، قال(عليه السلام): فما كلّمه أبي مقتًا له حتّى فارق الدنيا)[20].

رابعاً: الطاعة: من جملة الأمور التي يجب على الأبناء الالتزام بها طاعة الوالدين، روي عن  أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (...ويجب للوالدين على الولد ثلاثة أشياء: شكرهما على كل حال، وطاعتهما فيما يأمرانه وينهيانه عنه في غير معصية الله، ونصيحتهما في السر والعلانية)[21]، فطاعتهما مقرونة بطاعة اللَّه سبحانه وفي الحديث عن النبي  (صلى الله عليه وآله): (رضا الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد)[22]، ودليل على إخلاصه وحبه لهما في السرّ والعلانية[23]، وذكر الفقهاء أن طاعة الوالدين واجبة إذا كانت مخالفتهما موجبةً لتأذيهما الناشئ من شفقتهما عليه.

ولقد أجاب الفقهاء على الأسئلة المتعقلة بهذا الصدد نذكر منها ما يلي:

السؤال: ما حكم من كان یرید السفر إلی خارج البلد للدراسة أو العمل أو لغیرهما من الأغراض، وكان أحد أبويه لا یرضی بسفره، فهل یجوز له مخالفته في ذلك؟

الجواب: إذا كان عدم رضائه بذلك من جهة حاجته إلى وجوده بقرب منه لیوفر له النفقة الواجبة أو یباشر رعایته لكونه مریضاً أو كبیراً في السن ولا یوجد من یقوم بذلك غیره، أو كان عدم رضائه من جهة تأذيه بفراقه مع عدم تضرر الولد بترك السفر، أو كان عدم رضائه ناشئاً من خوفه علیه من المخاطر التي تحف به في الطریق أو في الإقامة في الخارج لم یجز للولد مخالفته في أي من هذه الموارد، وأما إذا كان عدم رضائه بالسفر من جهة رغبته في أن یبقی مساعداً له في عمله ونحو ذلك مما یرجع إلی مصلحة نفسه ولا یجب علی الولد توفیره له فلا مانع من مخالفته[24].

السؤال: ما حكم ولد رفع يده على أباه؟

الجواب: فعل حراماً وعليه التوبة وتحصيل رضا الأب مع الإمکان[25].

السؤال: ما حكم التطاول على الوالدين بالكلام مع الشتم والسب؟

الجواب: حرام ومعصية كبيرة[26].

 

 


[1] سورة الإسراء: آية23- 24.

[2] الكافي: ج2، ص11.

[3] سورة لقمان: آية 14.

[4] سورة الأحقاف: آية 15.

[5] الجامع الصغير للسيوطي:  ج1، ص563.

[6] مكارم الأخلاق ص254

[7] الأخلاق في حديث واحد: ج1، ص250.

[8] جامع السعادات: ج2، ص203.

[9] الكافي: ج22، ص163.

[10] الدر المنثور للسيوطي: ج4، ص173.

[11] الكافي: ج2، ص 157- 158.

[12] مستدرك الوسائل: ج15، ص204.

[13] مستدرك الوسائل: ج15، ص201.

[14] الكافي: ج2، ص162.

[15] الكافي: ج2، ص157- 158.

[16] بحار الأنوار:ج43، ص85.

[17] الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين: ص126.

[19] مستدرك الوسائل: ج15، ص203.

[20] بحار الأنوار: ج71، ص65.

[21] تحف العقول: ص322.

[22] سنن الترمذي: ج3، ص207.

[23] شرح رسالة الحقوق: ج‏1، ص‏494.

[24] (الموقع الالكتروني للسيد السيستاني، الاستفتاءات الشرعية، بر الوالدين).                        

[25] المصدر السابق.

[26]  المصدر السابق.