المطلب الثالث: مكانة المرأة في تربية الأبناء

من مسؤوليات المرأة حسب الرؤية الإسلامية (القرآنية) أنّها أُمّ مربّية، تتبنّى دور الرعاية والتربية للأبناء، وهو الدور المختصّ بالمرأة، ولا يمكن أن يتناسب مع تركيبة الرجل وأدواره المكلّف بها.

فالشريعة الإسلامية تراعي بأن العلاقة بين الطفل والأم خاصة في السنوات الأولى، هي أوثق وأقوى من علاقته مع الأب، بسبب طبيعة دور الأم، لذلك تكون هي الأكثر تأثيراً عليه، وقدرة على صناعة شخصيته، ولقد صرّح المعصومون بأهمية هذا الدور وضرورة معرفته من قبل الآخرين وخاصة الأب والأبناء كي يقدروا الأم ويمنحوها حقوقها، فلقد روي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنه قال في رسالة الحقوق: (فحق أمك أن تعلم أنها حملتك، حيث لا يحمل أحد أحدا، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يطعم أحد أحدا، وأنها وقتك بسمعها وبصرها، ويدها ورجلها وشعرها وبشرها، وجميع جوارحها، مستبشرة بذلك، فرحة موبلة[1] محتملة لما فيه مكروهها، وألمها، وثقلها وغمها حتى دفعتها عنك يد القدرة، وأخرجتك إلى الأرض، فرضِيتْ أن تشبع وتجوع هي، وتكسوك وتعرى، وترويك وتظمأ، وتظلك وتضحى وتنعمك ببؤسها، وتلذذك بالنوم بأرقها، وكان بطنها لك وعاء وحجرها لك حواء[2]  وثديها لك سقاء، ونفسها لك وقاء، تباشر حر الدنيا وبردها لك ودونك، فتشكرها على قدر ذلك، ولا تقدر عليه إلا بعون الله وتوفيقه..)[3].

إن هذا البيان ليترك الأثر البليغ في النفس الإنسانية مما لا يحوجنا إلى التعليق عليه والتذييل.

يقول الشاعر:

لأمـك حــق لو علمت كبــيرُ     كثـيرك يا هــذا لــديه يسيرُ

فكم ليلة باتت بثقلك تشتــكي    لهـا مـن جراحها أنة وزفــيرُ

وفي الوضع لو تدري عليها شقة     فمن غصص كاد الفؤاد يطيرُ

فالأبناء لن يتمكنوا من إحصاء ما تلاقيه الأم من تعب ونصب وأذىً، وسهر وقيام، وقلة راحة وعدم اطمئنان من أجل راحة أبنائها وفي سبيل رعايتهم، والعناية بهم، فسهر بالليل، ونصب بالنهار، ورعاية واهتمام بالتنظيف في كل وقت وحين، وحماية من الحر والبرد والمرض، وتعهد وتفقد لحالة الأبناء من جوع وشبع، وعطش وروى، وتحسس لما يؤلمهم فهي تعتني بأولادها أشد عناية، فتراقب تحركاته وسكناته، ومشيه وجلوسه، وضحكه وعبوسه، وصحته ومرضه، وتفرح لفرحه، وتحزن لحزنه، وتمرض لمرضه، فالأم حملت وليدها تسعة أشهر في الغالب تعاني به في تلك الأشهر ما تعاني من آلام ومرض ووهن وثقل، فإذا آن وقت المخاض والولادة، شاهدت الموت، وقاست من الآلام ما الله به عليم، فتارة تموت، وتارة تنجو، ويا ليت الألم والتعب ينتهي بالوضع لكان الأمر سهلاً يسيراً، ولكن يكثر التعب والنصب ويشتد بعده، فحملته كرهاً ووضعته كرهاً.

فتذبل الأم وتضعف لمرض وليديها وفلذة كبدها وتغيب بسمتها إن غابت ضحكته، وتذرف دموعها إذا اشتد به المرض والوعك، وتحرم نفسها الطعام والشراب، إن صام طفلها عن لبنها، بل وتلقي بنفسها في النار لتنقذ وليدها، وتتحمل من الذل والشقاء أمثال الجبال كي يحيا ويسعد وتموت راضية إذا اشتد عوده وصلب، ولو كان ذلك على حساب صحتها وقوتها وسعادتها.
ترى الحياة نوراً عندما ترى طفلها ووليدها وفلذة كبدها مع الصبيان يلعب، أو إلى المدرسة يذهب، وهي تعيش اللحظات الحاسمة في حياته عندما تنتظر تفوقه ونجاحه، وتخرجه وزواجه،...الخ

لأجل كل هذه التضحيات كان حقها عظيماً على الأبناء، قيل لرسول الله(صلى الله عليه وآله): يا رسول الله، ما حقّ الوالد؟ قال (صلى الله عليه وآله): (أن تُطيعه ما عاش فقيل: ما حقُّ الوالدة؟ فقال (صلى الله عليه وآله): (هيهات هيهات، لو أنّه عدد رمل عالج، وقطر المطر أيّام الدنيا، قام بين يديها، ما عدل ذلك يوم حملته فيبطنها)[4].

وهناك نصوص قرآنية تتعلّق بالدور التربوي للأُمّ، ويتمثل في موردين:

الأوّل: الحمل والرضاعة، وهو على رأس الأدوار التربوية التي تضطلع به الأُمّ، فقد جاء في سورة لقمان: Pوَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُO[5]، وجاء في سورة الأحقاف: Pوَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراًO  .[6]

فالأُمّ تقوم بدور عظيم في سنتين ونصف السنة، ألا وهو الحمل والرضاعة.

ولأجل عظمة الدور التربوي الذي تمارسه الأم جعل لها الشارع المقدس حقوقا ثابتة لا يجوز للأب أن يتجاوزها فيكون قد ظلمها وظلم ولدها، منها: أن الإسلام منحها الحق بإرضاع ولدها ولا يحق للأب أن يحرمها من هذا الحق[7]، قال تعالى: Pوَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَO[8]، وإن أقصى فترة لرضاع الطفل، هي حولان كاملان، لصريح الآية[9].

ويحق للأم في هذه الفترة المطالبة بما تستحقه من الأجرة، قال تعالى: Pفَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّO[10]، ويكون الأب ملزما بدفع الأجرة للأم في مدة الحولين إن طالبته بذلك، وإلا فلا أجرة في البين[11]، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (ليس للمرأة أن تأخذ في رضاع ولدها أكثر من حولين كاملين إن أرادا الفصال قبل ذلك عن تراض منهما فهو حسن والفصال الفطام)[12].

وتذكر الروايات بأن هناك ثواباً عظيما يترتب على الإرضاع منها قول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وهو يخاطب زوجته أم سلمه قائلاً: (إذا حملت المرأة كانت بمنزلة الصائم القائم المجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، فإذا وضعت كان لها من الأجر ما لا يدري أحد ما هو لعِظَمه، فإذا أرضعت كان لها بكل مصةٍ كعدل عتق محررٍ من ولد إسماعيل، فإذا فرغت من رضاعه ضرب ملك كريم على جنبها وقال: إستأنفي العمل فقد غفر لك)[13].

وحثت الشريعة على أن يُرضَع الصبي بلبن أُمّه ففي النصّ عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما من لبن رضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أُمّه)[14]، إلا إذا اقتضت بعض الجهات أولوية غيرها عليها من حيث شرافتها وطيب لبنها وخباثة الأم[15].

والأم أحق بإرضاع ولدها من غيرها، فليس للأب تعيين غيرها لإرضاع الولد إلاّ إذا طالبت باُجرة وكانت غيرها تقبل الإرضاع باُجرة أقل أو بدون أجرة، فإن للأب حينئذٍ أن يسترضع له أخرى[16].

الثاني: التربية والرعاية (الحضانة)

فأما (الحضانة) فهي القيام بحفظ من لا يميز ولا يستقل بأمره، وتربيته بما يصلحه، ووقايته عما يؤذيه، وهي نوع من ولاية وسلطنة، لكنها بالإناث أليق، لأنهن أشفق، وأهدى إلى التربية، وأصبر على القيام بها، وأشد ملازمة للأطفال[17].

والأم أحق بالولد مدة الرضاع[18]، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (المرأة أحق بالولد ما لم تتزوج)[19].

ويظهر هذا الدور من خلال تجربة أُمّ موسى، فيظهر مستوى الحبّ والحنان الذي كان يتدفّق من قلب أُمّ موسى تجاه ابنها، قال تعالى في سورة القصص:

Pوَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ* فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ* وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْن لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ* وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* وَقَالَتْ لاُِخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُب وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ* وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْت يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ* فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَO[20]، فخوف أُمّ موسى وحزنها في بداية الأمر، وقرّة عينها في نهاية الأمر، تعبير بليغ عن الحبّ والحنان اللذان هما من الشروط التربوية المهمة لرعاية الطفل.

وفي معرض الحديث عن الأُسرة ودور المرأة في تربية الأبناء باعتبارها الجانب الأليق بذلك من الرجل، والأم بالخصوص أليق من غيرها في ذلك، لا بأس بذكر كلمة الرئيس السابق (جورباتشوف) في كتابه عن البروستريكا فقال ما مضمونه: (إنّ المرأة بعد أن اشتغلت في مجالات الإنتاج والخدمات والبناء، وشاركت في النشاط الإبداعي، لم يعد لديها وقت للقيام بواجباتها اليومية من أعمال المنزل وتربية الأطفال.

وأضاف قوله: (لقد اكتشفنا أنّ كثيراً من مشاكلنا في سلوك الأطفال والشباب وفي معنوياتنا وثقافتنا وإنتاجنا تعود جميعاً إلى تدهور العلاقات الأُسريّة، وهذه نتيجة طبيعيّة لرغبتنا الملحّة والمسوَّغة سياسياً بضرورة مساواة المرأة بالرجل)[21].

أحكام الحضانة

حضانة الولد وتربيته ورعايته ذكراً كان أو أنثى مدة سنتين هجريتين من حق أبويه بالسوية، فلا يجوز للأب أن يفصل الطفل عن أمه خلال هاتين السنتين، روي عن داود بن الحصين، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (والوالدات يرضعن أولادهنّ، قال: مادام الولد في الرّضاع فهو بين الأبوين بالسّوية، فإذا فطم فالأب أحقّ به من الأمّ فإذا مات الأب فالأمّ أحقّ به من العصبة)[22].

 فإذا انتهت السنتان الهجريتان كان حق الحضانة للأب فقط، والأحوط استحبابا أن لا يفصل الأبُ المولودَ عن أمه حتى يبلغ من العمر سبع سنين.

إذا افترق الأبوان بفسخ أو طلاق قبل أن يبلغ الولد السنتين الهجريتين، ذكرا أو أنثى، لم يسقط حق الأم في حضانته ما لم تتزوج من غير الأب، فلا بد من توافق الأبوين على ممارسة حقهما المشترك في الحضانة بالتناوب أو بأية كيفية أخرى يتفقان عليها، فإذا تزوجت الأم بعد مفارقتها للأب، سقط حقها في حضانة ولدها، وصارت الحضانة من حق الأب خاصة، روى عبد الله بن عمر، أن امرأة قالت: (يا رسول الله، إن ابني هذا كان: بطني له وعاء، وثديي له سقاء وحجري له حواء، وإن أباه طلقني، وأراد أن ينتزعه مني! فقال لها النبي(صلى الله عليه وآله): أنت أحق به ما لم تنكحي)[23].

تنتهي الحضانة ببلوغ الولد رشيدا، فإذا بلغ رشيدا لم يكن لأحد حق الحضانة عليه، حتى الأبوين فضلا عن غيرهما، بل هو مالك لأمر نفسه ذكراً كان أم أنثى، فله الخيار في الانضمام إلى من شاء منهما، أو من غيرهما، نعم إذا كان انفصاله عنهما يوجب أذيتهما الناشئة من شفقتهما عليه، لم يجز له مخالفتهما في ذلك، وإذا اختلفا، فالأم مقدمة على الأب، وإذا مات الأب، فالأم أحق بحضانة ولدها من غيرها، حتى يبلغ الولد، وإذا ماتت الأم في زمن حضانتها، اختص الأب بحضانة الولد.

والحضانة كما هي حق للأب والأم فهي كذلك حق للولد عليهما، فلو امتنعا عن حضانته أجبرا عليها[24].

 


[1] وكذا في الأصل، وتعني مواظبة ومستمرة، ولعل صحته (مؤمله) لأن الولد أمل أمه فهي تأمل نشاطه وشبابه.

[2] ما يحتوي الشيء ويحيط به.

[3] مستدرك الوسائل: ج15، ص202.

[4] مستدرك الوسائل: ج15، ص203.

[5] سورة لقمان: آية 14.

[6] سورة الأحقاف: آية 15.

[7] كفاية الأحكام: ج2، ص292.

[8] سورة البقرة: آية 233.

[9] Pوَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَO سورة البقرة: آية233.

[10] سورة الطلاق: آية6.

[11] تحرير الأحكام: ج4، ص11، بتصرف.

[12] وسائل الشيعة: ج21، ص454.

[13] بحار الأنوار:  ج101، ص 107.

[14] وسائل الشيعة: ج21، ص452.

[15] مهذب الأحكام في بيان مسائل الحلال والحرام: ج25، ص274.

[16] تحرير الأحكام:  ج4، ص11، بتصرف.

[17] روضة الطالبين: ج6، ص504. وعرفها أيضاً صاحب كتاب جواهر الكلام بأنها ولاية وسلطنة على تربية الطفل وما يتعلق بها من مصلحة حفظه وجعله في سريره وكحله وتنظيفه وغسل خرقه وثيابه ونحو ذلك (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: ج31، ص283).

[18] فيما لو كانت حرة ومسلمة وعاقلة وغير مصابه بمرض معدي وفارغة من حقوق الزوج فلو تزوجت سقط حقها من الحضانة. (الحدائق الناضرة: ج25، ص91).

[19] الكافي: ج6، ص45.

[20] سورة القصص: آية 7 ـ 13.

[21] من مقال لمحمود كريم سليمان بعنوان: أساليب تغريب المرأة وآثارها، مجلة البيان: www.albayan-magazine.com

[22] الكافي:  ج6، ص45.

[23] مستدرك الوسائل: ج15، ص164.

[24] فقه المغتربين:  ص235.