المطلب الأول: مكانة البنت والأخت في الإسلام

إن الإسلام لمّا كان ينطلق في معظم تشريعاته من منظور واقعي يلاحظ فيه فطرة الإنسان، بحيث تـأتي تشريعاته متلائمة معها منسجمة مع توجيهاتها غير متنافرة مع خطها العام، لذا فإذا أردنا أن نلاحظ مكانة البنت في الإسلام علينا أن نرى مجمل المنظومة التشريعية في الإسلام وما الذي أفرزته هذه المنظومة حيال البنت والأخت، فنقول :

إن الإسلام لما كان دينا متكاملا فهو يلاحظ كل الجزئيات في بنائه الأخلاقي والتشريعي للفرد والمجتمع، ولما كانت المرأة في الإسلام لها دور كبير في إعداد أفراد المجتمع، بالإضافة إلى قيمتها في نفسها، هذه القيمة والمكانة تتضح من خلال معرفة ما ينتظره الإسلام من المرأة بحسب الوظيفة التي حمّلها إيّاها، فالمرأة لما كانت هي التي تغذي أولادها بالحنان والعاطفة قبل أن تغذيهم بلبنها، وتحنو عليهم وترعاهم الرعاية النفسية قبل الرعاية البدنية، فهي إذن تحتاج لكي تمارس هذا الدور أن تُعدَّ إعداداً خاصاً يؤهلها لهذا الدور الكبير، وهذا الإعداد يمر بمرحلتين:

مرحلة التثقيف الاجتماعي على أهمية البنت في العائلة وإلفات نظر الآباء إلى تمييزها بتربية خاصة، فعن حذيفة اليماني قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): خير أولادكم البنات([1]).

وبُشر (صلى الله عليه وآله) بابنة، فنظر إلى وجوه أصحابه فرأى الكراهية فيهم، فقال: ما لكم! ريحانة أشمها ورزقها على الله([2]).

وقال (صلى الله عليه وآله): نِعم الوُلْدُ البناتُ المخدرات، مَن كانت عنده واحدة جعلها الله له سترا من النار، ومَن كانت عنده اثنتان أدخله الله بهما الجنة، ومن كانت له ثلاث أو مثلهن من الأخوات وضع عنه الجهاد والصدقة([3]).

وورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): البنات حسنات والبنون نعمة، فالحسنات يُثاب عليها والنعمة يُسأل عنها([4]).

وقال عمر بن يزيد للإمام الصادق (عليه السلام): إن لي بنات، فقال له: لعلك تتمنى موتهن، أما أنك لو تمنيت موتهن ومُتن لم تؤجر يوم القيامة ولقيت ربك حين تلقاه وأنت عاص([5]).

وروي عن حمزة بن حمران بإسناده أنه أتى رجل النبي (صلى الله عليه وآله) وعنده رجل فأخبره بمولود له فتغير لون الرجل، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ما لك؟ فقال: خير، قال: قل، قال: خرجت والمرأة تمخض فأخبرت أنها ولدت جارية، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): الأرض تقلها والسماء تظلها والله يرزقها وهي ريحانة تشمها([6]).

وقال (صلى الله عليه وآله): من عال ثلاث بنات أو ثلاث أخوات وجبت له الجنة قيل: يا رسول الله واثنتين؟ قال: واثنتين، قيل: يا رسول الله وواحدة؟ قال: وواحدة([7]).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): نِعم الوُلْدُ البنات، ملطفات (متلطفات) مجهزات، مؤنسات، مباركات مفلّيات ([8]).

وعنه (صلى الله عليه وآله): قال: من كانت له ابنة واحدة كانت خيراً له من ألف جنّة وألف غزوة وألف بدنة وألف ضيافة([9]) .

وعنه (صلى الله عليه وآله)قال: من عال ابنتين أو ثلاثاً كان معي في الجنة([10]).

وعنه (صلى الله عليه وآله)قال: من عال ثلاث بنات يعطى ثلاث روضات من رياض الجنّة ، كلّ روضة أوسع من الدّنيا وما فيها([11]).

وبعد هذا الكم من الروايات الشريفة، ألا يحق للبنت – وهي بعد ذلك الأخت والزوجة والأم - أن ترفع رأسها شموخاً في ظل الإسلام؟ فهل هناك حيف واقع عليها؟.. ألا يفهم من هذا أن البنت معززة مكرمة في ظل الإسلام؟ فهل هنالك مجتمع غير الإسلام يمنحها هذا الشرف وهذا التكريم الذي لا يعرف الحدود؟

وقد كان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) يطبق ذلك بنفسه فقد كان يحب ابنته فاطمة (عليها السلام) ويجلّها ويكنّيها بـ(أم أبيها)([12]).

 وكذلك الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد عامل بناته (عليهن السلام) بنفس أسلوب الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، أما الإمام الحسين (عليه السلام) فمواقفه مع ابنته سكينة  معروفة.. فقد كان (عليه السلام) يصفها بأنها غالب عليها الاستغراق في ذات الله.. وكان يلقبها بخيرة النساء.. وقد كان يحبها حباً جماً، وقد استشهد على ذلك بشعر([13]).. يبرز فيه مدى حب الإمام (عليه السلام) لابنته سكينة وزوجته الرباب وهو:

لعمرك أنني لأحب داراً           تحل بها سكينة والرباب([14])

مرحلة الخطوات العملية التي يسلكها الأب في رعاية البنت حتى تكون مؤهلة لهذا الدور المهم، ففي الحديث قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): مَن دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج، وليبدأ بالإناث قبل الذكور.. ([15]).

وروي أنه(صلى الله عليه وآله) قبّل الحسن والحسين عليهما السلام، فقال الأقرع بن حابس: إن لي عشرة من الأولاد ما قبلت واحدا منهم، فقال: ما عليَّ إن نزع الله الرحمة منك، أو كلمة نحوها([16]).

وعن الصادق (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل ليرحم العبد لشدة حبه لولده([17]).

وعن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: من كان له أختان أو بنتان فأحسن اليهما، كنت أنا وهو في الجنّة كهاتين، وأشار بإصبعه السّبابة والوسطى([18]).

وقال (صلى الله عليه وآله): إذا جاء أحدكم بشيء لأولاده فليبدأ بالإناث قبل الذكور([19]). 

وقال (صلى الله عليه وآله) قبّلوا أولادكم، فإن لكم بكل قبلة درجة في الجنة ما بين كل درجتين خمسمائة عام ([20]).

وقال (صلى الله عليه وآله): من فرّح ابنته فكأنما أعتق رقبة ولد إسماعيل([21]).

وقال (صلى الله عليه وآله): من عال بنتاً من المسلمين فله الجنة([22]).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): إن إبراهيم (عليه السلام) سأل ربه يرزقه بنتاً تبكيه وتندبه بعد الموت([23]).

هذا واستقصاء هذه المراحل في الفكر الإسلامي يحتاج إلى جهد ووقت إضافيين لبيان جميع ما ورد في الشريعة من آداب وأحكام تصب في هذا الإطار، ولا أظن أنا سنوفق لبيان ذلك بشكل كامل، ولكن مالا يدرك كله لا يترك كله، وعليه فسنسلط الضوء على بعض ما يتيسر العثور عليه في هذا المجال.

وقبل كل ذلك نريد أن نبين بعض الجوانب النفسية التي لها دور في التربية، فالمرأة كما قلنا تتحمل الأعباء الكبيرة عندما تكون زوجة وأُمّاً بعد ذلك، إذ يُنتظر منها  أدوار كبيرة فرعاية الزوج والحمل والولادة وتنشئة الأطفال، كل ذلك يحتاج إلى الصبر والتحمل والروحية الخاصة والصدر الكبير الذي يتحمل كل هذه الأزمات النفسية ويتجاوزها، وهذا كله لا يأتي من فراغ بل لابد على الأسرة أن تعي هذه المهمات الجسام والأدوار الكبيرة  لتستطيع أن تربي البنت على أساس أنها زوجة وأم في المستقبل، وهذه التربية لابد أن يؤخذ فيها التغذية الروحية الخاصة التي تحتاجها البنت في أدوار نموها المختلفة، والتي يعتبر فيها أن تحصل على كامل غذائها العاطفي والنفسي لتتكامل شخصيتها وتنضج من هذه الجوانب، وتختزن في قلبها من العاطفة ما تحتاج أن تنفق منه في مستقبل حياتها، إذ أن فاقد الشيء لا يعطيه.                                                                                 

بالإضافة إلى الثقافة الدينية والأخلاقية، إذ أن الزوجة والأم ستمر بظروف مختلفة تحتاج أن تفهم حكمها الشرعي والأسلوب الأخلاقي الصحيح الذي لابد أن تستعمله في مثل هذه المواقف، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فهي تحتاج أن تربي أبنائها وتغرس في أنفسهم الأخلاق الفاضلة وحب الآخرين وما يحتاجون إليه من أحكام شرعية أساسية ومهمة في بداية حياتهم، كأحكام الطهارة والنجاسة والوضوء والصلاة وبعض العقائد الأساسية المهمة إلى غير ذلك من المعارف التي تبني كيان أبنائها بناءاً صحيحاً، وتنمي فيهم الفطرة الصحيحة التي يمتلكونها بما يقويها ويعززها فتتفتح نفوسهم للخير والعمل به.

كما وإننا لا ننسى في هذا الإطار أن هذه البنت وهي تنمو وتكبر في محيط أسرتها ستتعامل مع أخوتها، فتحتاج إلى احترام خاص من قبلهم، وإدراك لخصوصيتها التي تتميز بها  عنهم، من دون انتقاصها أو النظر إليها على أنها الفرد الأضعف في الأسرة.

فكم هي خاطئة التربية السائدة التي توحي للأبناء وبأنهم الجانب المهم من الأسرة، في حين أن البنت تختلف عنهم في تكوينها، وتعتبر وللأسف فرد غير مرغوب فيه بينهم، أو ينظر إلى ما يميزها من الفوارق الجسدية أو الأحكام الشرعية والعرفية على أنها نقائص فيها، فتنمو البنت بعد ذلك وتكبر في داخلها عقد نفسية تجاه المجتمع وأفراده الذكور الذين لم يتفهموا مشاعرها بالشكل الصحيح ولا أعطوها حقها الكامل أو عرفوا دورها المهم في بناء المجتمع.   

ولا يقل دور الأخت عن دور الأم فهي في هذه المرحلة من حياتها، تمارس بعض أدوار الأمومة بشكل مبكر قبل أن تكون أما، إذ تعمل في البيت مع أمها وترعى شؤون أبيها وأخوتها في بعض الأحيان، فهي بذلك تتدرب على دور الأمومة وبعض جوانب الحياة الزوجية منذ ذلك الوقت، وتتعلم من أمها كيف تمارس هذا الدور، وكم صادف أن وُلِد في البيت مولود جديد فاهتمت به الأخت، أو اتفق أن فقدت الأسرة الأمَّ أو الأب أو كليهما فقامت الأخت الكبرى بدور المربي والمعيل لأخوتها، بل وفي أحيان ليست بالقليلة تراها تضحي حتى بمستقبلها في سبيلهم ومن أجلهم، فتترك التزويج للاهتمام بهم، وإذا بالعمر يمر سريعا فترى أنها أصبحت في سن لا يُرغب بعد ذلك فيها، فيفوتها القطار - كما يقال - فتبقى تعاني آلام الوحدة القاسية المريرة.

لذا لابد على المربين وأرباب الأسر من الآباء والأمهات الالتفات إلى دور البنت المستقبلي سواء داخل نفس الأسرة كأخت، أو بعد ذلك كزوجة وأم، بحيث يجعل ذلك مشروعاً لمستقبلها وهدفاً أسمى في بنائها، بما يؤهلها للنجاح في هذين الدورين المهمين.

وبعد معرفة هذا الأمر ننظر إلى الواقع المرير الذي تعانيه الأسر في تربية البنات، هذه التربية التي تستمد قِيَمَها وأخلاقياتها بل وحتى تشريعاتها من مناهج فكرية بعيدة عن الإسلام روحا وعقيدة وتطبيقا، فتنشأ البنت متميعة متحللة محبة للبذخ والترف واللهو غير متحملة للمسؤولية ولا مدركة لأهمية دورها المستقبلي، بل والأخطر من ذلك غير متسلحة بما تحتاج إليه من الأحكام الشرعية والثوابت الأخلاقية والبناء العاطفي والنفسي الذي يحتاج إليه، والأهم من ذلك لا تشعر بقيمتها في المجتمع وأهميتها في بنائه.

وهذا كله إنما نشأ من التربية الخاطئة التي يربى عليها أبناؤها والتي يتسلم زمامها وسائل الإعلام الحديثة من التلفاز والإنترنت وغرف الدردشة وبرامج التواصل الاجتماعي، فالمسلسلات الهابطة والإعلام الموجه لنشر الرذيلة والتحلل في المجتمع أصبح هو المربي الأول لأبنائنا وبناتنا - للأسف - من دون أن يدرك الآباء خطورة ذلك، فتنشأ البنت بعد ذلك بمنظومة فكرية بعيدة عن الإسلام لا تتذوق بشكل كامل معنى العفاف والستر والحجاب - وإن كانت تمارسه في حياتها - ولكنها لا تعي أبعاده الحقيقية وأهميته، وأنه جزء من شرفها وكرامتها، والمحقق لقيمتها الحقيقية في هذه الحياة، ثم هي بعيدة عن أجواء القرآن وتعاليمه وأخلاقه الكريمة التي هي أرقى ما يمكن أن يحصل عليه الإنسان في هذه الحياة بما يضمن له سعادة الدنيا والآخرة.

فلابد أن نبدأ - عزيزي الأب، عزيزتي ألام - من الآن في تربية الأبناء بالشكل الذي يعيد للمجتمع هويته الإسلامية الصحيحة لينشأ الجيل الجديد وهو يفتخر بقيمته الدينية والأخلاقية لينطلق نحو إعمار الأرض بالشكل الذي يريده الله تعالى منه.

 


[1] مستدرك الوسائل: ج15 ص116.

[2] الوسائل ج21 ص365.

[3] روضة الواعظين ص360.

[4] ثواب الأعمال للصدوق ص201.

[5] مكارم الأخلاق ص219.

[6] الكافي ج6 ص5.

[7] المصدر نفسه.

[8] المصدر نفسه، وعدة الداعي: ص80.

[9] المستدرك : ج2 ص615 .

[10] المصدر نفسه.

[11] لمصدر نفسه.

[12] المناقب: ج3 ص357 فصل في حليتها وتواريخها (عليه السلام).

[13]  المناقب: ج4 ص109 فصل في مقتله (عليه السلام)، وفيه: ... ثم ودع النساء وكانت سكينة تصيح فضمها إلى صدره وقال:

سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي  ****  منك البكاء إذا الحمام دهاني

لا تحرقي قلبــي به معك حسرة    ****  مادام مني الــروع في جثماني

     وإذا قتلـت فأنت أولى بالــذي    ****   تأتيـــنه يا خـيرة النســــوان

[14] بحار الأنوار: ج45 ص46 ب37.

[15] أمالي الشيخ الصدوق (رحمه الله): ص577 .

[16] مكارم الأخلاق ص220

[17] الكافي ج6 ص50.

[18] المستدرك : ج2 ب5 ص616 ح3

[19] أمالي الشيخ الصدوق (رحمه الله): ص577 .

[20] مكارم الأخلاق ص220.

[21] وسائل الشيعة: ج15 ص227.

[22] غوالي اللئالي: ج3 ص294.

[23] عدة الداعي: ص79.