عقوق الوالدين

من الواضح أن نكران الجميل ومكافأة الإحسان بالإساءة، أمران يستنكرهما العقل والشرع، ويستهجنهما الضمير والوجدان، وكلما عظم الجميل والإحسان كان جحودهما أشد نكراً وأفظع جريرة وإثماً.

 وبهذا المقياس ندرك بشاعة عقوق الوالدين وفظاعة جرمه، حتى عدّ من الكبائـر الموجبة لدخول النار، ولا غرابة فالعقوق - فضلاً عن مخالفته المبادئ الإنسانية، وقوانين العقل والشرع - دال على موت الضمير، وضعف الإيمان، وتلاشي القيم الإنسانية في العاق.

فقد بذل الأبوان طاقات ضخمة وجهوداً جبّارة، في تربية الأبناء وتوفير ما يبعث على إسعادهم وازدهار حياتهم مادّيا وأدبياً، ما يعجز الأولاد عن تثمينه وتقديره، فكيف يسوغ للأبناء تناسي تلك العواطف والألطاف ومكافأتها بالإساءة والعقوق؟.

من أجل ذلك حذّرت الشريعة الإسلامية من عقوق الوالدين أشدّ التحذير، وأوعدت عليه بالعقاب العاجل والآجل.

فانظر إلى قوله تعالى على لسان عيسى بن مريم (عليه السلام):( وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً)[1].

وكذلك قوله تعالى في وصف يحيى (عليه السلام):( وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً)[2].

فعقوق الوالدين موجب لصيرورة الإنسان عاصيا شقيا.

والعقوق لا حد له فهو يتحقق بكل قول أو فعل فتأمل في قوله تعالى:( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً).

والأف هو أدنى العقوق، ولو علم الله شيئا أهون من الأف لنهى عنه كما ورد عنهم (عليهم السلام) حيث قال الإمام الصادق (عليه السلام): (لو علم الله شيئاً هو أدنى من أف، لنهى عنه، وهو من أدنى العقوق، ومن العقوق أن ينظر الرجل إلى والديه، فيحدّ النظر إليهما)[3].

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من أحزن والديه فقد عقّهما)[4].

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (إن أبي نظر إلى رجل ومعه ابنه يمشي، والابن متكئ على ذراع الأب، قال: فما كلّمه أبي (عليه السلام) مقتاً له حتى فارق الدنيا)[5].

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ثلاثة من الذنوب، تعجّل عقوبتها ولا تؤخر إلى الآخرة: عقوق الوالدين، والبغي على الناس، وكفر الإحسان)[6].

وعن النبي (صلى الله عليه وآله): (ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقول الزور)[7].

وعنه (صلى الله عليه وآله): (من أدرك والديه ولم يؤد حقهما فلا غفر الله له)[8].

وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (ملعون ملعون من ضرب والديه، ملعون ملعون من عقّ والديه)[9].

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كلام له: (إياكم وعقوق الوالدين، فإن ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام، ولا يجدها عاق، ولا قاطع رحم، ولا شيخ زان، ولا جارٌّ إزاره خيلاء، إنما الكبرياء لله رب العالمين)[10].

وقوله (صلى الله عليه وآله): (مَن أصبح مسخطا لأبويه، أصبح له بابان مفتوحان إلى النار)[11].

وقال الإمام الهادي (عليه السلام): (العقوق يعقب القِلة، ويؤدي إلى الذِلة)[12].

والأخبار في ذم العقوق أكثر من أن تحصى، وورد في الحديث القدسي: (بعزتي وجلالي وارتفاع مكاني! لو أن العاق لوالديه يعمل بأعمال الأنبياء جميعا لم أقبلها منه)[13].

وروي أيضا: (إن أول ما كتب الله في اللوح المحفوظ: إني أنا الله لا إله إلا أنا، مَن رضي عنه والداه فأنا منه راض، ومَن سخط عليه والداه فأنا عليه ساخط)[14].

وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)أنه قال: (كل المسلمين يروني يوم القيامة، إلا عاق الوالدين، وشارب الخمر، ومن سمع اسمي ولم يصلِّ عليّ)[15].

فينبغي لكل مؤمن أن يكون شديد الاهتمام في تكريم والديه وتعظيمهما واحترامهما، ولا يقصّر في خدمتهما، ويحسن صحبتهما، وألّا يتركهما حتى يسألاه شيئا مما يحتاجان إليه، بل يُبادر إلى الإعطاء قبل أن يفتقرا إلى السؤال، كما ورد في الأخبار، وإن أضجراه فلا يقل لهما أف، وإن ضرباه لا يعبِّس وجهه، وقال لهما: غفر الله لكما، ولا يملأ عينيه من النظر إليهما إلا برحمة ورقة، ولا يرفع صوته فوق صوتهما، ولا يده فوق أيديهما، ولا يتقدم قدامهما، بل مهما أمكن له لا يجلس عندهما، وكلما بالغ في التذلل والتخضع كان أجره أزيد وثوابه أعظم.

وبالجملة: إطاعتهما واجبة وطلب رضاهما حتم، فليس للولد أن يرتكب شيئا من المباحات والمستحبات بدون إذنهما، ولذا أفتى العلماء بأنه لا يجوز السفر في طلب العلم إلا بأذنهما، إلا إذا كان في طلب علم الفرائض، من الصلاة والصوم وأصول العقائد، ولم يكن في بلده من يعلِّمه، ولو كان في بلده من يعلمه لم يجز له السفر.

وقد روي: أن رجلا هاجر من اليمن إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأراد الجهاد، فقال له: (ارجع إلى أبويك فاستأذنهما، فإن أذنا فجاهد، وإلا فبرهما ما استطعت، فإن ذلك خير مما كلف به بعد التوحيد)[16].

 وجاء آخر إليه للجهاد، فقال: (أَلَكَ والدة؟ قال: نعم! قال: فالزمها، فإن الجنة تحت قدمها)[17].

 وجاء آخر، وطلب البيعة على الهجرة إلى الجهاد، وقال: ما جئتك حتى أبكيتُ والديَّ. قال: (ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما)[18].

 ولو وقعت بين الوالدين مخالفة، بحيث توقف رضى أحدهما على سخط الآخر، فينبغي أن يجتهد في الإصلاح بينهما بأي طريق أمكن، ولو بالعرض على شخص له تأثير عليهما حتى يطلبهما ويعظهما ويقيمهما على الوفاق، لئلا ينكسر خاطر أحدهما منه.

 


[1] سورة مريم: آية32.

[2] سورة مريم: آية14.

[3] الكافي: ج2، ص261.

[4] الفقيه: ج4، ص269.

[5] الكافي: ج2، ص348.

[6] أمالي الطوسي: ج1، ص12.

[7] المحجة البيضاء: ج5، ص242.

[8] مستدرك الوسائل: ج7، ص435.

[9] كنز الفوائد: ص63.

[10] الكافي: ج2، ص261.

[11] مستدرك الوسائل: ج15، ص175.

[12] بحار الأنوار: ج71، ص84.

[13] جامع السعادات: ج2، ص202.

[14] مستدرك الوسائل: ج15، ص176.

[15] جامع السعادات: ج2، ص203.

[16] جامع السعادات: ج2، ص205.

[17] المصدر السابق.

[18] جامع السعادات: ج2، ص205.