حق الأم أعظم

في الوقت الذي أوصت الشريعة الإسلامية ببر الوالدين والإحسان إليهما، فقد آثرت الأم بالقسط الأوفر من الرعاية والبر، نظراً لما انفردت به من جهود جبّارة وأتعاب مضنية في سبيل أبنائها، كالحمل والرضاع، ونحوهما من وظائف الأمومة وواجباتها المرهقة.

واعلم أن حق الأم ألزم الحقوق وأوجبها لأنها حملت حيث لا يحمل أحد أحدا، ووقت بالسمع والبصر وجميع الجوارح مسرورة مستبشرة بذلك فحملته بما فيه من المكروه والذي لا يصبر عليه أحد، ورضيت بأن تجوع ويشبع ولدها وتظمأ ويروى وتعرى ويكتسي ويظل وتضحى، فليكن الشكر لها والبر والرفق بها على قدر ذلك وإن كنتم لا تطيقون بأدنى حقها إلا بعون الله وقد قرن الله عز وجل حقها بحقه فقال: (اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ))[1].

فقد جعل الله تعالى حق الأم مقدما لأنها الجناح الكبير والذراع القصير أضعف الوالدين وأحوجهما في الحياة إلى معين إذ كانت أكثر بالولد شفقة وأعظم تعبا وعناء.

روي أن رجلا قال للنبي (صلى الله عليه وآله): (يا رسول الله أيّ الوالدين أعظم؟ قال: التي حملته بين الجنبين وأرضعته بين الثديين وحضنته على الفخذين وفدته بالوالدين)[2].

وشكى رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) سوء خلق أمه، فقال (صلى الله عليه وآله): (إنها لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر، وحين أرضعتك حولين، وحين سهرت لك ليلها وأظمأت نهارها، فقال الرجل: إني جازيتها وحججت بها على عاتقي فقال (صلى الله عليه وآله): ما جازيتها ولا طلقة)[3].

وقال (صلى الله عليه وآله): (الجنة تحت أقدام الأمهات)[4].

وكان رجل من النُسّاك يُقبّل كل يوم قدم أمه، فأبطأ يوما على إخوته، فسألوه فقال: كنت أتمرغ في رياض الجنة، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات.

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجل فقال: إن أبوي عمّرا وإن أبي مضى وبقيت أمي فبلغ بها الكبر حتى صرت أمضغ لها كما يمضغ للصي وأوسدها[5] كما يوسّد للصبي وعلّقتها في مكتل[6] أحركها فيه لتنام، ثم بلغ من أمرها إلى أن كانت تريد منّي الحاجة فلا ندري أي شيء هو، فلما رأيت ذلك سألت الله عز وجل أن ينبت عليّ ثديا يجري فيه اللبن حتى أرضعها، قال: ثم كشف عن صدره فإذا ثدي، ثم عصره فخرج منه اللبن، ثم قال: هو ذا أرضعتها كما كانت ترضعني، قال: فبكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم قال أصبت خيرا سألت ربك وأنت تنوي قربته، قال: فكافيتها؟ قال: ولا بزفرة[7] من زفراتها)[8].

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، من أبرّ؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أباك)[9].

وعن إبراهيم بن مهزم قال: (خرجت من عند أبي عبد الله (عليه السلام) ليلة ممسياً، فأتيت منزلي في المدينة، وكانت أمي معي، فوقع بيني وبينها كلام، فأغلظت لها، فلما كان من الغد، صليت الغداة، وأتيت أبا عبد الله (عليه السلام)، فلما دخلت عليه، قال لي مبتدئاً: يا أبا مهزم، مالك ولخالدة؟ أغلظت في كلامها البارحة، أما علمت أن بطنها منزل قد سكَنتَه، وأنّ حِجرَها مهد قد غمزته، وثديها وعاء قد شربته؟ قال قلت: بلى. قال: فلا تغلظ لها)[10].

واستمع إلى الإمام السجاد (عليه السلام)، وهو يوصي بالأم، معدداً جهودها وفضلها على الأبناء، بأسلوب عاطفي أخّاذ حيث جاء في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (عليه السلام) قوله: (فحق أمك أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحمل أحد أحدا وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يطعم أحد أحدا، وإنها وقَتْك بسمعها وبصرها ويدها ورجلها وشعرها وبشرها وجميع جوارحها مستبشرة بذلك فرحة موبلة[11] محتملة لما فيه مكروهها وألمها وثقلها وغمها حتى دفعتها عنك يد القدرة وأخرجتك إلى الأرض فرضيتْ أن تشبع وتجوع هي وتكسوك وتعرى وترويك وتظمأ وتظلك وتضحى وتنعمك ببؤسها وتلذذك بالنوم بأرقها، وكان بطنها لك وعاء وحجرها لك حواء[12] وثديها لك سقاء ونفسها لك وقاء، تباشر حر الدنيا وبردها لك ودونك فتشكرها على قدر ذلك، ولا تقدر عليه إلا بعون الله وتوفيقه، وأما حق أبيك فتعلم أنه أصلك وأنك فرعه وأنك لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه، واحمد الله واشكره على قدر ذلك ولا قوة إلا بالله)[13].

 جاء في تفسير (روح المعاني) للآلوسي:

لأمــك حق لو علمت كــبير *  كثيـرك يا هذا لديـــه يسـير

فكم ليلة باتت بثقلك تشتـكي *  لها من جـراها أنـة وزفيـــر

وفي الوضع لو تدري عليها مشقة * فمن غصص كاد الفؤاد يطير

وكم غسلت عنك الأذى بيمينها * وما حجرها إلا لديك سرير

وتفديك مما تشتكيه بنفــسها  * ومن ثديها شرب لـديك نمير

وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها *  حنـوا وإشفاقا وأنت صغير

فآها لذي عقل فيتبع الهــوى * وآها لأعمى القلب وهو بصير

فدونك فارغب في عميم دعائها *   فأنت لما تـدعو بـه لـفقير

 


[1] فقه الرضا (عليه السلام): ص334.

[2] الكافي: ج15، ص182.

[3] تفسير الكشاف: ج2، ص659.

[4] مستدرك الوسائل: ج15، ص180.

[5] أي جعلت الوسادة تحت رأسها - الوسادة: المخدة.

[6] المكتل كمنبر: الزنبيل الكبير.

[7] الزفير: إدخال النفس والشهيق إخراجه والاسم الزفرة.

[8] مستدرك الوسائل: ج15، ص200.

[9] الكافي: ج2، ص127.

[10] بصائر الدرجات: ص243.

[11] كذا في الأصل ولعل صحته (مؤملة) لان الولد أمل أمه فهي تأمل نشاطه وشبابه ..

[12] الحواء: ما يحتوى به الشيء، من حوى الشيء إذا أحاط به من جهاته.

[13] تحف العقول: ص189.