قصة وعبرة

قصة آية

(وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)[1]، هذه الآيات نزلت في (النضر بن الحارث)، فقد كان تاجرا يسافر إلى بلاد فارس، وكان يحدث قريشا بقصص الفرس وأحاديثهم، وكان يقول: إذا كان محمد يحدثكم بقصص عاد وثمود فإني أحدثكم بقصص رستم وإسفنديار وأخبار كسرى وسلاطين العجم، فكانوا يجتمعون حوله ويتركون استماع القرآن وقال البعض الآخر: إن هذا المقطع من الآيات نزل في رجل اشترى جارية مغنية، وكانت تغنيه ليل نهار فتشغله عن ذكر الله فعن أبي بصير قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن كسب المغنيات؟ فقال: التي يدخل عليها الرجال حرام، والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس، وهو قول الله عزّ وجلّ: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)[2])[3].

إبليس واللهو  

 من مصائد إبليس وشراكه التي ينصبها لبني آدم اللهو بجميع صوره وأقسامه فهو يتربص بالإنسان في كل حالاته فتارة يغويه بالغناء وتارة بالرياضات المحرمة وثالثة بلهو الحديث إلى غير ذلك من أقسام اللهو الكثيرة كل ذلك ليضل الإنسان ويغويه ويدخله نار جهنم كما في هذه الرواية: قال الإمام الصادق (عليه السلام) (لما مات آدم (عليه السلام) شمت به إبليس وقابيل فاجتمعا في الأرض فجعل إبليس وقابيل المعازف والملاهي شماتة بآدم (عليه السلام) فكل ما كان في الأرض من هذا الضرب الذي يتلذذ به الناس فإنما هو من ذلك)[4]. فعندما مرض آدم (عليه السلام) مرضه الأخير، جعل الوصية لابنه شيت وأمره أن يكتم علمه عن قابيل حتى لا يفعل به ما فعله مع هابيل، ومنع بنيه من الاختلاط بأبناء قابيل، حتى يحصنهم من الأمراض التي انتشرت بين أبناء قابيل من اللهو واللعب والفساد والإفساد، واستطاع شيت أن يضبط من كان تحت ولايته على المنهج الإلهي الصحيح فترة حياته وينجح في عزلهم عن أبناء قابيل، ليحافظوا على الفطرة التي فطرهم الله تعالى عليها والأمانة التي أودعها سبحانه وتعالى عنده، ويلتزموا بالميثاق الذي أخذه الله على الإنسان، وعندما حضرته الوفاة أوصى لابنه آنوش ما أوصاه آدم (عليه السلام) إليه، وما زال أبناء آدم الذين سكنوا الحرم محافظين على التزامهم ما لم يختلطوا بأبناء قابيل وذريته ويتوارد زعامتهم صالح بعد صالح إلى أن جاء يرد فلما مضى من حياته خمسمائة سنة نقض بنو شيث العهود والمواثيق التي كانت بينهم، فجعلوا ينزلون إلى الأرض التي فيها بنو قابيل، وكان أول نزولهم أن الشيطان اتخذ شيطانين من الإنس اسم أحدهما يوبل، والآخر توبلقين، فعلمهما أصناف الغناء والزمر، فصنع يوبل المزامير والطنابير والبرابط والصور. وصنع توبلقين الطبول والدفوف والصنوج، ولم يكن لبني قابيل عمل يشغلهم، ولا ذكر لهم إلا أمام الشيطان، وكانوا يركبون المحارم والمآثم، ويجتمعون على الفسق، وكان ذوو السن من رجالهم ونسائهم أشد في ذلك من شبانهم، فكانوا يجتمعون، فيزمرون ويضربون بالطبول والدفوف والبرابط والصنوج، ويصيحون، ويضحكون، حتى سمع أهل الجبل من بني شيث أصواتهم، فاجتمع منهم مائة رجل على أن يهبطوا إلى بني قابيل، فينظروا ما تلك الأصوات، فلما بلغ ذلك يرد أتاهم، فناشدهم الله، وذكرهم وصية آبائهم، وحلف عليهم بدم هابيل، وقام فيهم أخنوخ بن يرد، فقال: اعلموا أنه من عصى منكم أبانا يرد، ونقض عهود آبائنا، وهبط من جبلنا لم ندعه يصعد أبدأ، فأبوا إلا أن يهبطوا، فلما هبطوا اختلطوا ببنات قابيل. بعد أن ركبوا الفواحش. فلما دنا موت يرد اجتمع إليه بنوه وبنو بنيه أخنوخ، ومتوشلح، ولمك، ونوح، فصلى عليهم، ودعا لهم بالبركة، ونهاهم أن يهبطوا من الجبل المقدس، وقال: إنكم لا محالة تهبطون إلى الأرض السفلى، فأيكم كان آخر هبوطا فليهبط بجسد أبينا آدم، ثم ليجعله وسط الأرض، كما أوصانا، وأمر أخنوخ ابنه ألا يزال يصلي في مغارة الكنز، حين غابت الشمس، وكانت حياته تسعمائة سنة واثنتين وستين سنة. إلى أن جاء (يرد) فنزل بعض ذرية شيت من الجبل واختلطوا بذرية قابيل التي عمها الفساد وكثر الاختلاط بينهم والفساد حتى بين أبناء شيت ولم يبق من الصالحين إلا نفر قلائل. فنقضوا الميثاق وعبدوا الأوثان وبدأت مرحلة العمل الإصلاحي التي تزعمها نوح(عليه السلام)[5].

أحرُ أم عبد؟

كانت أنغام المعازف والمغنّين تلعب بالرؤوس التي لعبت الخمرة بها قبل ذلك، وفي الأثناء فُتِح بابُ الدار وأطلت جارية من البيت لترمي بالقاذورات في الطريق، فصادفت رجلا مارا من هناك وقد بدت على سيمائه آثار العبادة والورع فسألها: صاحب هذا البيت حرٌ أم عبد؟ فاجابت باستغراب: أكيد هو حرٌ قال صدقت لو كان عبدا لخاف من مولاه!! ولما دخلت البيت، وكانت قد أبطأت بسبب حديثها مع الرجل، سألها مولاها: ما أبطأك؟ فقالت: رجل ما كان مارا في الطريق تبدو عليه آثار الصلاح والتقوى، سألني بكذا وأجبته بكذا فلما أنهت حديثها تغير لونه وترك ما كان فيه من اللهو واللعب وفكر مليا فيما نقلته له سيما في هذه الجملة لو كان عبدا لخاف من مولاه. حيث وقعت على قلبه موقع الصاعقة، فخرج حافيا يريد الرجل فلما وصل إليه وجده الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) فتاب على يده معتذرا ولم ينتعل من يومه ذاك حتى مات كان قبل ذلك اليوم يعرف بأبي نصر بشر بن الحارث بن عبد الرحمن المروزي وبعده صار يعرف بشر الحافي كان الحارث قبل ذلك من أصحاب المعازف والملاهي ولكن قول الإمام (عليه السلام) أثر في نفسه وكان سببا إلى توبته فأصبح عارفا عابدا زاهدا

لعب طفل... وشفقة أُمُ

 رُوِيَ أنّ شيخاً حكيماً كان يمشي في أحد الطرق، فرأى طفلاً جالساً يبكي، فسأله مِمّ بكاؤك؟ فقال: إنّ أُمّي أخرجتني من البيت، وكلّما أستجير بالبيوت الأُخرى لا يُفتح لي الباب، فجلس الشيخ عند الطفل، وأخذ يوافق الطفل في البكاء، وقال: لو أنّ طفلاً نهرته أُمّه وطردته من البيت لا يفتح له باب آخر فمن ينهره الله تعالى عن بابه إلى أين يذهب، وكيف ينفتح عليه باب آخر؟! ثُمّ قام الشيخ الحكيم لكي يذهب في طريقه، فتعلّق به الطفل، وطلب منه أن يشفعه لدى أُمّه، فوافق الشيخ على ذلك، وأخذ بيد الطفل إلى بيت أُمّه، وشفعه عندها، فبكت الأُم، وقالت: يا شيخ نعم الشفيع أنت، ولكن قد شفعه ـ أيضاً ـ قبلك قانون (أولادنا أكبادنا)، ولكنّ يا شيخ إني كلّما أمنعه عن اللعب مع السيئين لا ينزجر، فاعلم أيّها الشيخ: لو خرج مرّة أُخرى من دون إذني من البيت ليلعب قطعت عنه علاقة الأُمومة والبنوّة، فوافق الشيخ على ذلك، فطلبت منه أن يكتب رسالة بهذا المعنى، كي لا يلعب بعد هذا مع أطفال السوء، وإلاّ فما هو ابني ولا أنا أُمّه، فكتب الشيخ بذلك رسالة، وأعطاها إيّاها، فأخذت بيد الطفل، وأدخلته البيت، فما مضت إلاّ سويعة وإذا يرى الشيخ أنّ الطفل قد خرج من البيت، وانشغل باللعب مع الأطفال، فغضبت الأُمّ، وسدّت عليه الباب، وحين انتهوا من اللعب، وذهب كلّ واحد منهم إلى بيته، بقي وحيداً، فجاء إلى البيت، ولكن كلّما دقّ الباب لم يُفتح، فالتجأ إلى بيوت الجيران واحداً واحداً، ولكنّهم لم يفتحوا له أبوابهم، فاحتار في أمره، ورجع مرّة أُخرى إلى بيت أُمّه، وكلّما دق الباب لم يُفتح له، فقال: يا أُمّ إن لم ينفتح عليّ باب الجيران كان لي وجه للرجوع إلى هذا الباب، ولكن لو لم ينفتح عليّ هذا الباب ليس لي وجه للرجوع إلى باب آخر، وأخذ يبكي ويئنّ، وجعل وجهه على التراب إلى أن أخذه النوم وأمّه تراقب حاله من على السطح، فحينما رأت الطفل قد نام بكمال الذل والانكسار في التراب أسرعت إليه ورمت بنفسها عليه، ورفعت رأس طفلها من على تراب الذلّ، وأخذت تمسح الغبار عن وجهه وهو نائم، ولمّا استيقظ الطفل، ونظر إلى وجه أُمّه قال: يا أُمّ لو تقطعي عنّي الماء والخبز فهو مقبول، ولو تفركي أُذني فأنا مستحقّ لذلك، ولو تركِتني في البكاء والحنين أتحمّل ذلك، ولكنّ الذي أطلبه منك أن لا ترسليني من باب بيتك إلى أبواب الآخرين، فلمّا رأى الشيخ الحكيم هذه القِصَّة شقّ قميصه، وقال: اتّضح لي من هذه القِصّة أمران

1- إن العبد ليس له إلا ربه وخالقه.

2- إنّ علاقة المحبّة لا تنفصم بأي شيء.                                                

أقول: يا ترى أنّ الأُمّ تفرح برجوع ولدها وتوبته، وتتجاوز عن سيّئته، ولكن الله تعالى الذي ألهم الأُمّ هذه الرحمة وهو أرحم الراحمين لا يقبل توبة العبد، ولا يفرح برجوع عبده المؤمن؟! وإنّ عطفه تعالى ورحمته على العباد ثابتان حتى في يوم المعاد في حين أنّ عطف الأُمّ وحنانها لا يبقى لهما أثر في ذلك اليوم: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)[6]، وفي الختام نذكر هذه الموعظة لهادي العباد وطبيب النفوس الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله) حيث جاء في وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر الغفاري: (يا أبا ذر احفظ ما أوصيك به تكن سعيدا في الدنيا والآخرة.

يا أبا ذر نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ.

يا أبا ذر اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سَقَمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك.

يا أبا ذر إياك والتسويف بأملك فإنك بيومك، ولست بما بعده فإن يكن غد لك فكن في الغد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن غد لك لم تندم على ما فرطت في اليوم.

يا أبا ذر كم من مستقبل يوما لا يستكمله، ومنتظر غدا لا يبلغه. يا أبا ذر كن كأنك في الدنيا غريب، أو كعابر سبيل، وعد نفسك من أصحاب القبور)[7].

 حرقة الفقدان

جاء في الديوان المنسوب للإمام علي (عليه السلام):

شيئان لو بكت الدماء عليهما   عيناي حتــى تأذنا بذهــاب

لـم تبلغ المعشار مـن حقيهما    فقد الشباب وفرقة الأحباب

ففقد الإنسان شبابه التي هي مرحلة القوة والنشاط وضياعهما في اللهو واللعب يمثل بحق خسارة كبيرة لا يمكن تعويضها بحال من الأحوال فعلى الإنسان اغتنامها قبل زوالها واستثمار طاقة العمر فيما يرضي الله تعالى وترك الدنيا وعدم الاغترار بها فقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما من شاب يدع لذة الدنيا ولهوها ويستقبل شبابه في طاعة الله إلا أعطاه أجر اثنين وسبعين صديقا)[8]، وفي الحديث القدسي: (أيها الشاب المبتذل شبابه لي التارك شهواته أنت عندي كبعض ملائكتي)[9]، فالمطلوب من الشباب:

1- التوبة إلى الله تعالى ، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما من شيء أحب إلى الله من شاب تائب)[10].

 2-التفقه في الدين فعن الإمام الباقر (عليه السلام): (لو أتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقه في الدين لأدبته)[11].

3- تلاوة القرآن: فعن الإمام علي (عليه السلام): (إن الله سبحانه لم يعظ أحدا بمثل هذا القران)[12].

4- ترك التكاسل أو الكسل: فعن الإمام علي (عليه السلام): (إزدوج الكسل والعجز فنتج الفقر)[13].

5- ذكر الموت: فعن الإمام علي (عليه السلام): (والله إنه ليمنعني من اللعب ذكر الموت)[14].

 


[1] سورة لقمان: آية6.

[2] الكافي: ج5، ص119، التهذيب: ج6، ص358، والاستبصار: ج3، ص62.

[3] سورة لقمان: آية 6.

[4] وسائل الشيعة: ج17، ص313.

[5] تاريخ اليعقوبي: ج1، ص11. 

[6] سورة الحج: آية2.

[7] بحار الأنوار: ج77، ص74.

[8] كنز العمال: ج15، ص785.

[9] تنبيه الخواطر: ج1، ص45.

[10] شرح نهج البلاغة: ج11، ص181.

[11] بحار الأنوار: ج1، ص412.

[12] نهج البلاغة: ج2، ص95، الخطبة172.

[13] تحف العقول: ص220.

[14] مستدرك سفينة البحار: ج10، ص336.