المزاح المحرم

  هناك قسم من الناس، ممن يغلب عليه جانب الهزل والمزاح، وحالة الاسترخاء المذموم، يسترسل بما يوقعه في المخالفة الشرعية والسير نحو الإفراط في الدعابة والمزاح، فنحن مأمورون بأن نأخذ طريقا وسطا في هذا المجال، فعلى المؤمن أن يحذر من مجالس الغفلة والابتعاد عنها فإن الجلوس في أمثالها لا يناسب صفات المؤمن.. وعلى هذا يمكن أن نحمل الروايات الناهية عن المزاح مثل: (يا علي!.. لا تمزح فيذهب بهاؤك) ومن الطبيعي أن يزول بهاء الإنسان ووقاره وقوة شخصيته إذا ما بالغ وافرط في مزاحه مع أقرانه، فمن اتخذ المزاح كصفة ملازمة له، فيما يناسب وفيما لا يناسب، فإنه سيخطأ ومن يخطأ سيقع في الحرام يوما ما، فالذي يكثر من الدعابة والمزاح من الممكن أن يكذب، ليضحك الآخرين كما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال لأبي ذر: (يا أبا ذر ويل للذي يُحدث فيكذب ليُضحك به القوم ويل له ويل له ويل له)[1]. ومن الممكن أن يكون مزاحه في غير محله، أو أنه قد يمزح ولكن على حساب وهن الآخرين، أو إدخال الهم والغم وما شابه ذلك على غيره.. فعلى المؤمن أن يكون ملتفتا جدا إلى هذه النقطة، وهي عدم الخروج عن الحد الشرعي.. وفي الواقع إن المؤمن في كل حركاته وسكناته، منظور من المولى تبارك وتعالى فلا يحاول أن يقوم بحركة مهما خفت هذه الحركة، مما يمكن أن يُعاقب أو يُعاتب.. وعتاب الله للمؤمن ثقيل على نفسه يوم القيامة، وإن لم يستلزم ذلك العتاب عقابا منه تبارك وتعالى.

أباحة الإسلام للمزاح مقيدة ومشروطة بأمور هي:

1- ألا يكون مشتملا على الكذب في قوله، والكذب هو الإخبار بما يخالف الواقع، فالمؤمن لا يكذب في كل حالاته، لأن الكذب محرم شرعا حتى وإن كان على نحو المزاح أو المداعبة فإن هذا الطريق من طرق الشيطان ومصائده. وهذا ما نسمعه ونشاهده في مجالس المزاح من لجوء البعض إلى الكذب من أجل إضحاك الآخرين، فنراه يتحرى الكذبة تلوى الأخرى ناسيا نفسه أو غافلا عنها حتى يكون الكذب من صفاته فيكتب عند الله كذابا، كما ورد في الروايات الشريفة والتي منها: روي عن أبي بصير قال سمعت الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن العبد ليكذب حتى يكتب عند الله من الكذابين، فإذا كذب قال الله عز وجل كذب وفجر)[2]، والكذب له تأثير سلبي كبير على روح الإنسان وطهارة باطنه، إضافة إلى أن الكذب يسهل انتشار عملية الفساد والانحطاط الأخلاقي في المجتمع، وهذا ما وجهنا به أئمتنا سلام الله عليهم أجمعين فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): (اتقوا الكذب الصغير منه والكبير في كل جد وهزل)[3]، وروي عن الإمام علي (عليه السلام): (لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده)[4].

2- ألا يكون فيه إيذاء لأحد بسخرية أو همز أو لمز، كما لو اشتمل المزاح على ذكر عيب أو عاهة في بدن إنسان أو في حسبه ونسبه فيكون انتقاصا له، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[5]، وروي عن الإمام السجاد (عليه السلام): (الذنوب التي تنزل النقم... الاستهزاء بالناس والسخرية بهم)[6]، وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (قال الله عز وجل ليأذن بحرب مني من آذى عبدي المؤمن)[7].

3- ألا يشتمل على سباب أو قول فاحش، فقد وري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الجنة حرام على كل فاحش أن يدخلها)[8]، وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (أن الله ليبُغض الفاحش المتفحش)[9]، ولكن ما نراه اليوم من ممارسات بعض الشباب والأولاد من انتشار ظاهرة المزاح بالقول الفاحش والسباب وتبادل الشتائم، وغياب الرادع لهم من الأسرة والمجتمع على حد سواء كل هذا يدعوا إلى الحسرة والألم على ما أصاب مجتمعنا من مساوئ الأخلاق وذميم الصفات التي بُعث النبي (صلى الله عليه وآله) للقضاء عليها، وتربية الأمة على مكارم الأخلاق وهو القائل(صلى الله عليه وآله): (إنما بُعث لأتمم مكارم الأخلاق).

وفي الختام نشير إلى أن هذا المزاح إذا وصل إلى هذا المستوى من ارتكاب المخالفات الشرعية وإيذاء الآخرين والتعدي على خَلق الله وحدوده هو إفراط وعدوان، والمداومة عليه تورث قسوة القلب وظلمته لاشتماله على الظلم، والانشغال عن ذكر الله والدار الآخرة، ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار، ومن المعلوم أن ما نراه  من الاسترسال بالمزاح الممقوت، وإطالة الجلوس بما لا نفع فيه، والتورّط في معصية اللسان، والانشغال به عن أداء الحقوق الواجبة للأهل والعيال لا يجلب للإنسان سوى مذمة الناس، والوقوع في حبائل الشيطان، وضياع العمر، ولهذا ذمت الروايات الشريفة المزاح لأنه في غير طاعة الله ومنها - غير ما سبق-:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (كثرة المزاح تُذهب بماء الوجه، وكثرة الضحك يمحو الإيمان، وكثرة الكذب تذهب بالبهاء)[10].

 مواعظ الحسن بن علي (عليهما السلام):

 قال (عليه السلام): (المزاح يأكل الهيبة، وقد أكثر من الهيبة الصامت)[11].

 قال رجل للإمام الحسن (عليه السلام) أوصني.. فقال: (أوصيك بتقوى الله، وإيّاك والمزاح فإنّه يذهب هيبة الرجل وماء وجهه، وعليك بالدعاء لإخوانك بظهر الغيب، فإنّه يهيل الرزق يقولها ثلاثاً)[12].

قال الشاعر:

أكرم جليسك لا تمازح بالأذى    إن المزاح تـرى بـه الأضغان

كم من مزاح جذ حبل قرينـه    فتجذمت من أجله الأقران

 


[1] وسائل الشيعة: ج12، ص250.

[2] وسائل الشيعة: ج12، ص283.

[3] الكافي: ج2، ص338.

[4] المصدر السابق.  

[5] سورة الحجرات: آية11.

[6] الوسائل: ج16، ص281.

[7] الكافي: ج2، ص350.

[8] مجموعة ورام: ج1، ص110.

[9] وسائل الشيعة: ج12، ص283.

[10] أمالي الصدوق: ص163.

[11] الروضة: ج75، ص113.

[12] السرائر: ص484.