اللهو في القران

 اللهو بالمال والأولاد

1- قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ)[1].  إن حب الدنيا والتكالب على الأموال والانشداد إلى الأرض، من الأسباب المهمة التي تدفع باتجاه النفاق، وهذا ما جعل القرآن يحذر المؤمنين من مغبة الوقوع في هذه المصيدة الخطيرة، ورغم أن الأموال والأولاد من النعم الإلهية التي يستعان بها على طاعة الله وتحصيل رضوانه إن أحسن استخدامها، لكنها يمكن أن تتحول إلى سد يحول بين الإنسان وخالقه إذا ما تعلق بها الإنسان بشكل مفرط، جاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) ما يجسد هذا المعنى بأوضح وجه: (ما ذئبان ضاريان في غنم ليس لها راع، هذا في أولها وهذا في آخرها، بأسرع فيها من حب المال والشرف في دين المؤمن)[2]، فإن صرفَ الإنسان عمره وحياته في أمواله وأولاده وتضييع أمر أخرته يُعد خسارة كبيرة إذا ما قيست بفضل الآخرة وثوابها، فنرى بعض الآباء أو الأمهات شغلهم الشاغل أولادهم يهتمون بأدق تفاصيل حياتهم وتلبية رغباتهم وينسون أنفسهم وأنّ عليهم تكاليف شرعية وواجبات عبادية عليهم إفراغ ذممهم منها، وكذلك إذا صرف الإنسان عمره وهمه في كسب وتحصيل المال دون الالتفات إلى الحقوق والواجبات الشرعية عليه فلم يؤدِ حق هذه النعمة من استخراج الحقوق الشرعية وغيرها فإنه سيخسر نفسه وآخرته في نهاية المطاف وإن جمع كنوز الدنيا وما فيها بحوزته، ثم قال تعالى: (لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ)[3]، اختلف المفسرون في معنى (ذِكْرِ اللَّهِ) ففسرها البعض بأنه الصلوات الخمس، وقال آخرون: إنه شكر النعمة والصبر على البلاء والرضى بالقضاء، وقيل: إنه الحج والزكاة وتلاوة القرآن، وقيل: إنه كل الفرائض، ويبدو أن لـ‍ (ذِكْرِ اللَّهِ) معنى واسعا يشمل كل تلك المصاديق، ولهذا وصف القرآن الكريم أولئك الذين يرحلون عن الدنيا دون أن يستثمروا نعم الله في بناء الحياة الخالدة وتعمير الآخرة بأنهم (الْخَاسِرُونَ) فقد خرجوا من هذه الدنيا وهم منشغلون بالأموال والأمور الزائلة التي لا بقاء ولا دوام لها.

الحياة الدنيا لعب ولهو

2- قوله تعالى: (إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ)[4]، فإذا كانت الحياة الدنيا لعباً ولهواً، فان هناك حقيقة أخرى وهي أن الإيمان بالله ورسوله وولاية أهل البيت b ينجي الإنسان من الهلكة وبه يفوز بجنة عرضها السماوات والأرض، (فاللعب) يقال للأعمال التي تتصف بنوع من الخيال للوصول إلى هدف خيالي، و(اللهو) يقال لكل عمل يشتغل الإنسان به فيصرفه عن المسائل الأساسية والحق أن الدنيا لعب ولهو ليس إلا، فلا يحصل منها أنس وارتياح، وليس لها دوام وبقاء، وإنما هي لحظات كلمح البصر، ولذات زائلة تحفها الآلام والمتاعب. ثم تضيف الآية: (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ)، فإن الإيمان أساس العمل وبالتقوى يقبل العمل، قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (لاَ يَقِلُّ عَمَلٌ مَعَ التَّقْوَى، وَكَيْفَ يَقِلُّ مَا يُتَقَبَّلُ؟)[5]، فالآية بصدد تنبيه الإنسان لعدم الاغترار بالدنيا وملذاتها والعمل فيها بما يحقق له الفوز يوم القيامة ولا يتحقق الفوز إلا بالإيمان والتقوى.

ما عند الله خير من اللهو والتجارة

3- قوله تعالى: (وَإذا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[6]، فحال الذين انشغلوا باللهو واللعب قلوبهم متعلقة ومشدودة اليهما، فبينا رسول الله يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة بن فروة الكلبي ثم أخذ بني الخزرج ثم أخذ بني زيد بن مناة من الشام بتجارة وكان إذا قدم لم يبق بالمدينة عاتق إلا أتته وكان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق أو بر أو غيره فينزل عند (أحجار الزيت)، وهو مكان في سوق المدينة ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليتبايعوا معه فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم ورسول الله قائم على المنبر يخطب فخرج الناس فلم يبق في المسجد إلا إثنا عشر رجلا وامرأة فقال (صلى الله عليه وآله): لولا هؤلاء لسومت عليهم الحجارة من السماء وأنزل الله هذه الآية[7]، فقد ورد فيها ذم عنيف للأشخاص الذين تركوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في صلاة الجمعة وأسرعوا للشراء من القافلة القادمة، ومن المؤكد، أن الثواب والجزاء الإلهي والبركات التي يحظى بها الإنسان عند حضوره صلاة الجمعة والاستماع إلى المواعظ والحكم التي يلقيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما ينتج عن ذلك من تربية روحية ومعنوية، لا يمكن مقارنتها بأي شيء آخر، فإذا كنتم تظنون انقطاع الرزق فإنكم على خطأ كبير لأن الله خير الرازقين، التعبير ب‍ (اللهو) إشارة إلى الطبل وسائر آلات اللهو التي كانت تستعمل عند دخول قافلة جديدة إلى المدينة، فقد كانت تستعمل كإعلان وإخبار عن دخول القافلة، إضافة إلى كونها وسيلة للترفيه والدعاية واللهو، كما نشاهد ما يشابه ذلك في الغرب هذه الأيام، التعبير ب‍ـ(انفضوا) بمعنى الانتشار والانصراف عن صلاة الجمعة والذهاب إلى القافلة، والتعبير بـ‍ (قائما) يكشف عن أن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان واقفا يلقي خطبة الجمعة، كما جاء في حديث عن جابر أنه قال: (لم أر رسول الله قط يخطب وهو جالس، وكل من قال يخطب وهو جالس فكذبوه )[8]، وجاء في رواية أخرى أنه سئل عبد الله بن مسعود يوما: هل كان الرسول يخطب واقفا؟ قال: ألم تسمعوا قوله تعالى: (وَتَرَكُوكَ قَائِماً)[9]، وجاء في (الدر المنثور) أن معاوية كان أول شخص ألقى خطبة الجمعة وهو (قاعد).

الحياة الدنيا لهو ولعب وزينة وتفاخر

 4- قوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ)[10].

وصف الله الحياة الدنيا بأنها دار لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد وبها يغتر الإنسان وينسى نفسه وينسى أخرته وهو الضياع الكبير، وقد شبه القران الكريم الحياة الدنيا بأروع تشبيه حيث إنها مؤقتة وقصيرة الأمد ولذلك فاللذة الدنيوية - التي تكون لمحض الدنيا- زائلة وفانية فهي كالنبات ذي العمر القصير سريعا ما نراه يموت ويكون يابسا (حطاما) بعد أن كان ذا أزهار جميلة وخضرة محببة، وهذا حال الدنيا بكل لذاتها للمتأمل المنصف فهي دعوة من القران للتأمل والتفكر في عواقب الأمور بما يزيل الغشاوة عن عقله. وقد يصف القرآن الكريم -تارة- الحياة الدنيا بأنها لهو ولعب، كما في قوله تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ)[11]، ويصفها تارة أخرى باللهو واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر، كما في هذه الآية ويصفها أحيانا بأنها (مَتَاعُ الْغُرُورِ) كما في قوله تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)[12]، ويصفها أحيانا بأنها (متاع قليل) كما جاء في قوله تعالى: (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)[13]، وأحيانا يصفها بأنها عارض ظاهري سريع الزوال:

(عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[14]، ومجموع هذه التعبيرات والآيات القرآنية توضح لنا وجهة نظر الإسلام حول الحياة المادية ونعمها، حيث إنه يعطيها القيمة المحدودة التي تتناسب مع شأنها، ويعتبر الميل إليها والانشداد لها ناشئا من توجه غير هادف كالتجمل و(زينة) وحب المقام والرئاسة والأفضلية على الآخرين (تفاخر) والحرص وطلب المال والأولاد بكثرة (التكاثر) ويعتبر التعلق بها مصدرا للذنوب والآثام العظام، أما إذا تحولت النظرة إلى هذه النعم الإلهية، وأصبحت سُلّما للوصول إلى الأهداف الإلهية، عند ذلك، فإنها تصبح رأسمال يشتريها الله من المؤمنين ويعطيهم عوضها جنة خالدة وسعادة أبدية.

ويعبّر عنها حينئذ في الروايات الشريفة بأحسن تعبير حيث توصف بأنها مزرعة الآخرة، أي: إن سبيل تحصيل ثمار الآخرة يمر عن طريقها فلا ثواب من دون العمل والعمل منحصر في هذه الدنيا، لذا فالدنيا سلاح ذو حدين فمن رآها بحدّها فهي زينة ومتاع قليل ولهو ولعب، ومن أتخذها طريقاً لتحصيل ثواب الآخرة فهي مزرعة الآخرة، والعمل على هذا الأساس يكون ممدوحاً، ولذا ورد في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر(رضي الله عنه): (يا أبا ذر ليكن لك في كل شيء نية صالحة حتى في النوم والأكل) [15]

ابتعد عمن اتخذ دينه لهوا ولعبا

5- قوله تعالى: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا)[16]. من اغتر بدنياه وأخذته بهجتها وزينتها فلا يجد من الحياة إلا لذتها الآنية وهي اللعب واللهو فيكون اللهو واللعب دينه الذي يدين الله به ومنهجا لهم في الحياة فتسمية اللهو واللعب بالدين، لأن الدين معناه المنهج الذي يسير عليه الإنسان، فهم ينتهجون اللهو واللعب في حياتهم، فهو تشبيه لهم على نحو التهكم، بمعنى: أنهم يعبدون من حيث لا يشعرون شهواتهم ولذاتهم ورغباتهم الدنيوية من دون الله تعالى ، فالآية تأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يدع أولئك الذين يستهينون بأمر دينهم، ويتخذون مما يلهون ويلعبون به مذهبا لهم ويغترون بالدنيا وبمتاعها المادي، وتشير هذه الآية إلى أن السلوك الحياتي لهؤلاء من حيث المحتوى أجوف وواه، هذا احتمال في الآية، والاحتمال الثاني أن يراد أنهم استهزؤا بالدين المنزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يؤمنوا به وسبب هذا الاستهزاء هو ركونهم إلى الدنيا واغترارهم بها بحيث نسوا الآخرة وحسابها وعذابها ولم يعيروا اهتماماً فهم بكم عمي صم لا يعقلون من حيث أن حب الدنيا أعمى بصيرتهم وران على قلوبهم، ولكن على هذا المعنى تكون إضافة الدين إليهم في قوله (دِينَهُمْ) مع أنه دين الحق وهو الإسلام وهم لم يؤمنوا به فكيف يضاف إليهم؟ تكون الإضافة بلحاظ الواقع ومقتضى الفطرة، أي: أن الدين الذي تقتضيه فطرتهم أن يأخذوا به قد استهانوا به واتخذوه لهواً ولعباً، فليتأمل.

الآخرة هي الحياة الحقيقية والدنيا لهو ولعب

 6- قوله تعالى: (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)[17].

الحياة الحقيقية هي الحياة الآخرة فهي الحيوان، أي: مبالغة في الحياة وأما الدنيا فهي لعب ولهو ووصفها بهذا الوصف استهانة بها وتهوينا لها، فهي في نفسها لا قيمة لها إلا إذا كانت لطلب الآخرة فالدنيا مزرعة الآخرة، أو لبيان نسبتها إلى الآخرة فإن العمل فيها عواقبه كبيرة في الآخرة فالخير القليل يثاب عليه بجنات تجري من تحتها الأنهار، والذنوب الصغيرة فيها قد تورث بحارا من النيران، فهي كاللهو الزائل في مقابل البقاء في النعيم أو العذاب، فالله تعالى يبين في هذه الآية قيمة الحياة الدنيا قياسا إلى الحياة الأخرى الخالدة، في عبارة موجزة ومليئة بالمعاني، فيصف الدنيا بأنها لهو ولعب: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)، كم هو تعبير بليغ وبديع! لأن (اللهو) معناه الانشغال أو كل عمل يصرف الإنسان إليه ويشغله عن مسائل الحياة الأساسية أما (اللعب) فيطلق على الأعمال التي فيها نوع من النظم الخيالي، والهدف الخيالي أيضا وبعد انتهاء اللعب المؤقت يعود كل شيء إلى مكانته، وكأن المسألة لا تعدوا أن تكون إلا طيفا أو خيالا.. فلا أثر ولا خبر فالدنيا هي نوع من الانشغال واللعب يجتمع الناس فيها ويَنْشَدّون إلى تصورات قلوبهم وأنفسهم، وبعد أيام يتفرقون ويختفون تحت التراب، ثم يُطوى كل شيء ويغدو في سلة النسيان، أما الحياة الحقيقية التي لا فناء بعدها، ولا ألم فيها، ولا قلق ولا خوف ولا تضاد ولا تزاحم، فهي الحياة الآخرة فحسب... لو كان الإنسان يعرف ذلك، وكان أهلا للتأمل والتفكر والتدقيق والتحقيق!، وأما الذين تعلقت قلوبهم بهذه الحياة، وفتنوا برزقها وزخرفها وزبرجها، ويأنسون بها، فهم أطفال لا غير وإن امتدت أعمارهم سنين طويلة، وينبغي الالتفات إلى أن المراد من (الْحَيَوانُ) على زنة (خَفَقان) هو الحياة، فهذه الكلمة تحمل معنى مصدريا أي: تفيد التجدد والاستمرار[18]، وهذا التعبير: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ)، إشارة إلى أن الحياة الحقيقية هي في الأخرى -لا في هذه الدار الدنيا- فكأن الحياة في الأخرى تفور من جميع أبعادها، ولا شيء هناك إلا الحياة، وبديهي أن القرآن لا يريد أن يلغي وينفي مواهب الله في هذه الدار الدنيا، بل يريد أن يجسد قيمة هذه الدنيا بالقياس إلى الأخرى قياسا صريحا وواضحا... وإضافة إلى كل ذلك فإنه ينذر الإنسان لئلا يكون أسيرا لهذه المواهب، بل ينبغي أن يوظفها توظيفاً صحيحاً ليستفيد منها في تلك الدار.

من اتخذ دينه لعبا.. مصيره النسيان يوم القيامة

7- قوله تعالى: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ)[19]، فالذين اغتروا بدنياهم فأخذتهم بهجتها وزينتها تعمى أعينهم عن رؤية الحق وشيئا فشيئا ينسون أمر ربهم وأخرتهم والهدف الحقيقي من حياتهم فيمضون في غيهم وهواهم ولا يصحون منه إلا عند سكرات الموت حيث لا ينفع الندم، وإلى جانب أن الدنيا خدعتهم واغتروا بها، إن هذه الأمور سببت في أن يغرقوا في وحل الشهوات، وينسوا كل شيء حتى الآخرة، وينكروا أقوال الأنبياء، ويكذبوا بالآيات الإلهية، ولهذا أضاف قائلا: فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا، وما كانوا بآياتنا يجحدون، على أن المراد من (النسيان) الذي نسب هنا إلى الله هو بمعنى أننا نعاملهم معاملة الناسي لهم تماما، مثل أن يقول شخص لصديقه: (كما أنك نسيتني فسوف أنساك أنا أيضا)، أي: أنني سوف أعاملك معاملة المتناسي لك، وكذلك يستفاد من هذه الآية أن أول مرحلة من مراحل الانحراف والضلال، هو أن لا يأخذ الإنسان قضاياه المصيرية بمأخذ الجد، بل يتعامل معها معاملة المتسلي والهازل، فتؤدي به هذه الحالة إلى الكفر المطلق، وإنكار جميع الحقائق.

اقترب الحساب... فاترك اللهو 

8- قوله تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ* ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ* لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ)[20]، الغفلة واللهو يأخذان الإنسان لعالم يبتعد فيه عن الله تعالى عالم يظلم فيه نفسه بضياع عمره، واجلُه يقترب منه لحظة بلحظه وهو منشغل بغفلته ولهوه، والقران يُشير لنكتة مهمة وأمر خطير بقوله: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) وهو أن الإنسان المبتعد عن الله تعالى بلهوه ولعبه يقوده ذلك إلى إنكار الحقائق الإلهية ومعاندة رسل الله تعالى وأنبيائه لأن نفوسهم يصعب عليها تقبل الحق، وهم بدورهم يصعب عليهم حمل نفوسهم على العمل به وتطبيقه، فتنكره وتهوي إلى نار جهنم وبئس المصير تبدأ هذه السورة بهذه الآيات التي فيها تحذير قوي شديد موجه لعموم الناس، تحذير يهز الوجدان ويوقظ الغافلين، إن عمل هؤلاء يدل على أن هذه الغفلة عمت كل وجودهم، وإلا فكيف يمكن للإنسان أن يؤمن باقتراب الحساب، الحساب الدقيق المتناهي في الدقة، ومع كل ذلك لا يكترث بالأمور ويرتكب أنواع الذنوب!، وكلمة (إقترب) لها دلالة على التأكيد أكثر من (قرب) وهي إشارة إلى أن هذا الحساب قد أصبح قريبا جدا، والتعبير ب‍ـ (الناس) وإن كان يشمل عموم الناس ظاهرا، وهو يدل على أن الجميع في غفلة، إلا أن مما لا شك فيه أن الذين لهم قلوب واعية يقظة على الدوام، ويفكرون بالحساب ويعملون له فهم مستثنون من هذا العموم، والجميل في الأمر أنه يقول: إقترب الحساب للناس، لا أن الناس اقتربوا للحساب، تعبيرا عن انشغالهم عن أمر الحساب ومفاجئته لهم، ثم إن الفرق بين (الغفلة) و(الإعراض) يمكن أن يكون من جهة أن هؤلاء غافلون عن اقتراب الحساب، وهذه الغفلة تسبب الإعراض عن آيات الله سبحانه، فـ‍(الغفلة عن الحساب) علة في الحقيقة، و(الإعراض عن الحق) معلول لتلك العلة، أو أن المراد هو الإعراض عن نفس الحساب، وعن الاستعداد للإجابة في تلك المحكمة الكبرى، أي إنهم لما كانوا غافلين، فإنهم لا يهيؤون أنفسهم لذلك، ويعرضون عنه.

وهنا يأتي سؤال، وهو: ما معنى الإخبار باقتراب الحساب والقيامة؟ في حين إن هذا الإخبار مَرّ عليه أربعة عشر قرناً ولم يتحقق بعد ولا نعلم كم من الوقت يأتي أيضاً ليتحقق؟، لقد قال البعض: إن المراد منه هو أن ما بقي من الدنيا قليل في مقابل ما مضى منها، وقال البعض الآخر: إن هذا تعبير عن المثل السائر: كل ما هو آت قريب، ولكن الجواب عنه أوضحته آيات أخرى إذ أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، ففي قوله تعالى: (....قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ....)[21]، فهو وإن كان جواباً عن مدة لبثهم في قبورهم قبل حشرهم إلا أن فيه إشارة إلى عمر الدنيا الإجمالي بالقياس إلى الآخرة، لأن بعض المجيبين قد مات في أول الدنيا وظل ميتاً طول فترة الحياة وما بعدها إلى حين الحشر ومع ذلك يكون هذا جوابه، إذن فالحياة الدنيا بالقياس إلى الآخرة لا تعدل أكثر من يوم أو بعض اليوم، وعليه فيصبح مع ذلك أن يصف الله تعالى مجيء يوم الحساب بأنه قريب، ثم إن الإنسان الخائف من شيء والمرتقب له يراه قريباً في شعوره فيعمل له دائماً إذ لا يفصله بيته وبينه إلا الموت الذي لا يعلم متى يفاجئه ثم بعده تكون النومة التي لا يشعر بعدها إلا بالحشر، وعليه فيصح أيضاً على هذا وصف يوم الحساب بالاقتراب، وفي هذا تنبيه للغافلين فمن شغلتهم الدنيا عن مثل هذا التفكير الذي يشعرون معه باقتراب الأجل، وإيقاظ لهم من سكرتهم التي هم فيها.

 احذر الغفلة... فالعذاب يأتي بغتة

 9- قوله تعالى: (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ* ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)[22]، فمن أيقن بأن هناك حسابا وجنة ونارا كيف يتمتع ويلهو ويلعب، والقرآن يعطينا رؤيته الواضحة لهؤلاء وعاقبة لهوهم ولعبهم فنراه هنا يخاطب نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله) بقوله (ذَرْهُمْ)، أي: يا محمد ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون فهم كالأنعام التي لا تعرف سوى الحقل والعلف، ولا تفهم سوى اللذات المادية، وكل ما تريده لا يتعدى إطار ما تعرف وتفهم. إنهم لا يدركون فقه الحقائق، لأن حجب الغرور والغفلة والأماني الزائفة ختمت على قلوبهم، ولكن عندما يصفع الأجل وجوههم وترتفع تلك الحجب عن أعينهم، وحينما يجدون أنفسهم أمام الموت أو في عرصة يوم القيامة، هنالك سيدركون عِظَم وحجم غفلتهم ومدى خسرانهم، وكيف أنهم قد ضيعوا أغلى ما كانوا يملكون!

 شراء اللهو.. شراء للعذاب المهين

10- قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)[23]، فأي شراء أكثر ضررا على الإنسان من شراء لهو الحديث والذي توعد الله عليه الذين يشترونه عذاباً أليما، وتعبير القران في غاية الدقة والروعة، إذ عبّر أولا بأن من يطلب اللهو لا يأخذه بالمجّان بل يدفع مقابله شيئا ما، وما الذي يدفعه يا ترى في مقابل ذلك؟ إنه يدفع أغلى شيء عنده وهو عمره! وبالتالي آخرته فيهوى، وثانيا إن من يمشي في طرق اللهو يعاند -شيئا فشيئا- الحق ويُضل الناس عن سبيله فيكون من أئمة الضلال، وثالثا -وهو نتيجة حتمية لما تقدم- الاستهزاء بآيات الله وإنكارها، ورابعا -وهو نهاية المطاف- أن لا يؤثر فيه قول الله ولا نصحه ولا هدايته وبذلك يُختم على قلبه فهو من أهل النار.

ونود أن نشير هنا إلى أن الآيات المتقدمة قد ذكرت أجلى مصاديق اللهو واللعب وأعلاها ذلك أن للهو واللعب أفرادا مختلفة في الشدة والضعف تبدأ بأدناها إلى أن تصل إلى أعلاها وهو المساوق للكفر والعناد عن سماع الحق، فالقرآن كان في صدد بيان هذا الفرد من اللهو والذي قد يخفى فيه وجه المناسبة بينه وبين أسبابه، إذ لا يلتفت الملتفت عادة إلى أن منشأ الكفر والعناد هو اللهو إلا بعد تدبر وتأمل، وهو ما تشير إليه الآيات المتقدمة، على أن ذلك لا يعني عدم انطباقها على ما هو أدنى منها من مراتب اللهو والتي تجامع الإسلام بل الإيمان لان القرآن له ظاهر ولظاهره باطن إلى سبعة أبطن كما هو مضمون الروايات، والتي منها: روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال في القرآن (… وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق…)[24]، روى العياشي وغيره عن جابر قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شيءٍ من تفسير القرآن؟ فأجابني، ثم سألت ثانية؟ فأجابني بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك، كنت أجبت في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم! فقال لي:(يا جابر، إنّ للقرآن بطناً، وللبطن بطناً وظهراً، وللظهر ظهراً، يا جابر، وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إنّ الآية لتكون أولها في شيءٍ وآخرها في شيءٍ، وهو كلام متصل ينصرف على وجوه)[25]، وروى حمران بن أعين أنّه قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن ظهر القرآن وبطنه؟ فقال: (ظهره الّذين نزل فيهم القرآن، وبطنه الّذين عملوا بمثل أعمالهم، يجري فيهم ما نزل في أولئك)[26] وما ذكر عن ابن عباس أنّه قال: جل ما تعلمت من التفسير من علي بن أبي طالب (عليه السلام): (أن القرآن أنزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلاّ وله ظهر وبطن، وأن عليا عنده علم الظاهر والباطن)[27]، وأيضاً عن ابن مسعود قال: (إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلاّ وله ظهر وبطن، وأن علي بن أبي طالب عنده منه علم الظاهر والباطن)[28].

 


[1] سورة المنافقون: آية9.

[2] الكافي: ج2، ص315.

[3] سورة المنافقون: آية9.

[4] سورة محمد: آية 37.

[5] نهج البلاغة: ج4، ص21.

[6] سورة الجمعة: آية11.

[7] مجمع البيان: ج9، ص287.

[8] مجمع البيان: ج10، ص286.

[9] تفسير الدر المنثور: ج6، ص222.

[10] سورة الحديد: آية20.

[11] سورة الأنعام: آية 32.

[12] سورة الحديد: آية20.

[13] سورة آل عمران: آية196- 197.

[14] سورة النساء: آية 94.

[15] مكارم الأخلاق ج2 ص370، بحار الأنوار ج77 ص82.

[16] سورة الأنعام: آية70.

[17] سورة العنكبوت: آية64- 66.

[18] أصل الكلمة مشتق من «حيي» ومصدرها «حييان» ثم أبدلت الياء الثانية واوا فصارت حيوان.

[19] سورة الأعراف: آية51.

[20] سورة الأنبياء: آية 3.

[21] سورة المؤمن: آية 113.

[22] سورة الحجر: آية1- 3.

[23] سورة لقمان: آية 6- 7.

[24] الكافي: ج2، ص599.

[25] البرهان في تفسير القرآن للسيد هاشم البحراني: ج1، ص46.

[26] معاني الأخبار للصدوق: ص246..

[27] كنز العمال: ج10، ص222.

[28] البرهان في تفسير القرآن: ج1، ص47.