مدخل

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهو

(التسلية والترفيه)[1]

 

 كان يمشي وهو يحث الخطى...

 ليلاقي الإمام الرضا (عليه السلام)..

 عند الباب وجد صبيةً يلعبون، ووجد بالقرب منهم صبيا لكنه يختلف عنهم..

فسيماء وجهه وهيبته رغم صغر سنه لم تكن توحي أنه كباقي الأطفال.. كان مختلفاً عنهم نوعاً ما..

اقترب الرجل منه وسلم عليه..فرد الصبي السلام بكل لياقة وأدب..

سأله الرجل عن اسمه وعن سبب اعتزاله اللعب مع الأطفال؟!

دفع إليه شيئا مما يلعب به الأولاد..

نظر ذاك الصبي إلى الرجل وقال له: (ما لهذا خلقنا إننا لم نخلق للعب)

ثم دخل هذا الصبي دار الإمام الرضا (عليه السلام).. انه الإمام محمد الجواد (عليه السلام) حينما كان صغيرا.

كما يقال (النتيجة من جنس العمل) فالجد والاجتهاد والنجاح من جنس واحد فلا ترى إنسانا مُجدّا إلا ورأيت النجاح حليفه، وكذلك اللهو والفشل والضياع من واد وجنس واحد فمن المستحيل أن ينجح إنسان همه لهوه ولعبه، بل تجد أن الضياع والضلال قرينه وحليفه، واللهو واللعب أحد آفات الإنسان التي تضيع عمره، يقول الإمام علي (عليه السلام): (شر ما ضيع فيه العمر، اللعب)[2]، فلطالما رأينا اُناسا كان شغلهم الشاغل ارتياد أماكن اللعب واللهو، غفلوا عن أنفسهم جاؤا إلى الدنيا ورحلوا منها ولم ينتفعوا من حياتهم أو يقدموا لأنفسهم أو مجتمعاتهم شيئا غير أنهم كانوا عالة عليها، فخسروا دنياهم وآخرتهم، ضاعت أيامهم وتلاشت أحلامهم في إشباع رغبات نفوسهم الأمارة بالسوء وغرتهم زينة الدنيا وتمكن الشيطان من إحراق أعمارهم وسلخ طهارة أرواحهم فغدت نفوسهم مظلمة مريضة لا تأنس إلا بلهوها ولعبها وصارت معابدهم أماكن اللهو المليئة بالفارغين الذين يجدون في لهوهم ولعبهم تسلية يستغنون بها عن التفكير الجاد - في فراغهم - بما يرضى الله تعالى، ويعود عليهم بالخير الكثير والنفع والفائدة.

إن استرسال الإنسان بلهوه ولعبه يجعله بمرور الوقت فاقدا للوعي والبصيرة، وتغيب الحقائق عن عينه وقلبه وتنسلخ إنسانيته، الأمر الذي يجعله على شفا حفرة من الضلال والانحراف، وينبه الإمام علي (عليه السلام) الإنسان إلى هذا الداء وهو يستثير العقل ويرشده، فيقول: (أيها الناس، اتقوا الله، فما خلق امرؤ عبثاً فيلهو، ولا ترك سدى فيلغو)[3]، ويقول أيضا (عباد الله: أين الذين عمّروا فنعموا، وعلموا ففهموا، وأنظروا فلهوا)[4]، إن الله تعالى أكرم الإنسان فخلقه بأحسن صورة وقوّمه بأحسن تقويم وسخّر له المخلوقات ومنحه العقل وأرسل إليه الأنبياء ليخرجه من الظلمات إلى النور، وفضّله على كثير ممن خلق تفضيلا، قال تعالى: (ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[5]، فأي تفضيل وأي تكريم أعظم من تكريم خالق الإنسان لعبده ومخلوقه، وإزاء هذه النعم العظيمة -كمّاً ونوعا- والتي لا إحصاء لها: (آَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)[6]، وجب على الإنسان شكر ربه باستثمار هذه النعم فيما يرضي الله تعالى وعبادته: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[7]، فلا ينبغي تضيع هذه النعم باللهو والكفران، وإنما بالشكر وطاعة الرحمن، وإذا ما أردنا الفلاح والنجاح في حياتنا، فلنحذف من ساعات حياتنا اللهو واللعب، فإنهما يسلبان المرء إرادته ويبعدانه عن الجد ويرميانه في وحل الهزل واللامبالاة، والإمام علي (عليه السلام) يحذرنا من ذلك فيقول: (اللهو يفسد عزائم الجد)[8]، كيف لا يكون كذلك؟ فمتى ما ترك الإنسان الجد وخلت حياته من الأهداف والغايات وعاش اللهو والهزل انشغل قلبه بتوافه الحياة وحينها لن يورثه اللهو إلا قساوة القلب وإهمال نفسه وضياع أهدافه، كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) في من طلب الصيد لاهيا: (وإن المؤمن لفي شغل عن ذلك، شغله طلب الآخرة عن الملاهي،... وإن المؤمن عن جميع ذلك لفي شغل، ماله وللملاهي؟! فإن الملاهي تورث قساوة القلب، وتورث النفاق)[9]، فمن يملك ولو مقدارا بسيطا من الوعي والفهم لا يلهو أبدا إذ أن (اللهو ثمار الجهل)[10]، كما ورد عن الإمام علي (عليه السلام). وروي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: (إن الصبيان قالوا ليحيى (عليه السلام) اذهب بنا لنلعب، فقال: ما للعب خلقنا، فأنزل الله فيه: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً)[11]. إن نبي الله يحيى (عليه السلام) لم يرض باللعب وإنما اغتنم عمره في العمل للهدف الإلهي فأعطاه الله الحكم، لأنه – كما يقول الإمام علي (عليه السلام): (أبعد الناس من النجاح، المستهتر باللهو)[12]. والمستهتر هو من يستعمل الشيء زيادة عن حده فالمستهتر باللهو هو المنصرف عما أريد منه وخلق لأجله من عبادة ربه، المنشغل بالمعاصي والذنوب. ومن هنا فلا يجد المستهتر مكانا بين مصاف العظماء والناجحين. ولو التهى التاجر عن تجارته لخسر كل شيء، والطالب المشتغل باللعب واللهو لا يحوز على النجاح، وهذه سنة من سنن الله في الحياة، فالملاهي قد تفرح الإنسان ظاهرا إلا إنها تخيب آماله في الآخرة بعد أن تلزمه ما اكتسب من المآثم، فقد قال الإمام علي (عليه السلام): (لا تفنِ عمرك في الملاهي فتخرج من الدنيا بلا أمل)[13]، وقال (عليه السلام) أيضا: (لا تغرّنك العاجلة بزور الملاهي فإن اللهو ينقطع ويلزمك ما اكتسبت من المآثم)[14].

 


[1] رفّه: أمر من الترفيه أي الإراحة والتخفيف والتّنفيس والتوسيع، أو من رفّه الراعي الإبل إذا أوردها متى شاء، وفي الصحاح: رفهت الإبل بالفتح ترفه رفها ورفوها إذا وردت الماء كلّ يوم متى شاءت والاسم الرّفه بالكسر. ميزان البراعة: ج18، ص82.

[2] موسوعة أهل البيت (عليهم السلام): ج10، ص52.

[3] نهج البلاغة: الحكمة370.

[4] المصدر السابق: الحكمة83.

[5] سورة الإسراء: آية70.

[6] سورة إبراهيم: آية34.  

[7] سورة الذاريات: آية56.

[8] موسوعة أهل البيت (عليهم السلام): ج10، ص81.

[9] مستدرك الوسائل: ج2،ص458.

[10] موسوعة أهل البيت (عليهم السلام): ج10، ص81.

[11] مجمع البيان: ج6، ص506.

[12] ميزان الحكمة: ج4، ص2803.

[13] موسوعة أهل البيت (عليهم السلام): ج10، ص82.

[14] ميزان الحكمة: ج3، ص2236.