إن الكذب لما كان فيه مقتضي الشر فهو محرم كما تقدم - ولكن قد يتعارض ما يقتضيه الكذب من الشر مع مقتضي آخر من مقتضيات المصلحة والخير فيترجح الثاني على الأول لأهميته لذا قد ورد في بعض النصوص الشـرعية والروايات الشـريفة تجويز الكذب في موارد وهي:
1- دفع الضرر:
المعلوم من سيرة الشارع وديدنه الاهتمام بالأموال والأعراض والأنفس اهتماماً بليغاً وعليه فيجوز الكذب إذا تحقق به دفعُ ضرر عن المال أو النفس أو العرض، سواءً كان ذلك الضرر متجهاً إليه أو إلى غيره صيانة لهذه الأمور المهمة عند الشارع، وإذا اقتضى الأمر أن يحلف فلا مانع من ذلك، بل في بعض الموارد، حيث يكون الضرر فاحشاً كدفع تلف النفس، يصبح الكذب واجباً والصدق حراماً، كما لو أراد الظالم أن يقبض على مسلم ويقتله، بل حتى ولو اراد ضربه وهتك حرمته، أو غصب ماله، أو سجنه، وسألك عن محله، فلو أجبته ارتكبت حراماً، بل يجب عليك الإنكار، وإن تطلب الأمر القَسَم على أنك لا تعرف مكانه.
ومثل ما لو كان مال مسلم أمانة عندك وطلب الظالم ذلك المال، فإن الواجب عليك أن تنكر، وكما كان القسَم من أجل دفع شره واجباً فكذلك القسَم هنا، والروايات الواردة في هذا المقام كثيرة:
منها: ما نقل عن الإمام الصادق عن أبيه عن آبائه عن علي (عليهم السلام): قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (احلف بالله كاذبا ونجّ أخاك من القتل)[1].
وعن إسماعيل الأشعري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل يخاف على ماله من السلطان، فيحلف له لينجو به منه. قال: لا بأس. وسألته: هل يحلف الرجل على مال أخيه كما يحلف على مال نفسه؟ قال: نعم)[2].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (اليمين على وجهين - إلى أن قال-: فأما اليمين التي يؤجر عليها الرجل إذا حلف كاذبا ولم تلزمه الكفارة، فهو أن يحلف الرجل في خلاص امرئ مسلم، أو خلاص ماله من متعد يتعدى عليه من لص أو غيره)[3].
وهنا لا بد من ذكر ملاحظتين:
الأولى: رغم أن الكذب جائز من أجل دفع الضرر مطلقاً، إلا أن الضرر إذا كان مالياً بحيث يمكن تحمله، فإن من الأفضل حينئذ أن يتحمل ذلك الضرر ولا يكذب، كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله في علامة الإيمان: (علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك)[4].
الثانية: هي أنه لما كان المشهور بين الفقهاء في هذا المورد هو وجوب التورية، فإن الأحوط هو أن يدفع الضرر بالتورية[5] لا بالكذب.
2- إصلاح ذات البين:
والثاني من موارد جواز الكذب هو إصلاح ذات البين، يعني متى ما كان بين اثنين من المسلمين نزاع وجدل وخصومة، وكان طريق الإصلاح بينهما منحصراً في الكذب، يصير الكذب بذلك جائزاً، وهكذا إذا كان الكذب يصد عن وقوع حقد وعداوة بين مسلمين، كما لو كان بين الزوج وزوجته تباغض يمكن أن ينجر إلى الطلاق، فيقول مثلاً للزوج بأن زوجتك يصعب عليها فراقك، ولعلها لشدة علاقتها بك تصبح عليلة، ويقول للزوجة مثل هذا المضمون، ويصد بهذا الكذب عن وقوع الفراق بينهما.
ومن موارد إصلاح ذات البين تبديل الكلام الشديد بالكلام اللطيف فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (الكلام ثلاثة: صدق وكذب وإصلاح بين الناس.
قيل له: جعلت فداك، وما الإصلاح بين الناس؟
قال (عليه السلام): تسمع من الرجل كلاماً تبلغه فتخبث نفسه فتقول: سمعت فلاناً قال فيك من الخير كذا وكذا)[6].
وفي صحيحة معاوية بن عمار عن الإمام الصادق (عليه السلام): (المصلح ليس بكذاب)[7].
وكلمة كذاب - وهي صيغة مبالغة - الظاهر أنها إشارة إلى أن المصلح مهما كذب في سبيل الإصلاح فإنه لا يعتبر كذاباً.
وفي وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (يا علي إن الله أحب الكذب في الصلاح، وأبغض الصدق في الفساد)[8].
والإصلاح عبادة عظيمة فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما عمل امرؤ عملاً بعد إقامة الفرائض خيراً من إصلاح بين الناس، يقول خيراً وينمي خيراً)[9].
وفي وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) للحسن والحسين (عليه السلام): (إني سمعت جدكما يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام)[10].
ومما ذكر من جواز الكذب في سبيل الإصلاح، يصبح معلوماً أهمية هذه العبادة العظيمة - الإصلاح- ذلك أن الكذب مع حرمته وشدة عقوبته كما ذكر سابقاً يصبح هنا جائزاً ومستحباً، بل واجباً في بعض الموارد، وسرّ المطلب أن السعادة الدنيوية والأخروية، والتمتع في الحياة المادية والمعنوية أمر يتوقف على الاجتماع واتحاد القلوب، فمتى ما كان مجموعة من الناس مع بعضهم روحاً واحدة وقلباً واحداً، ومتى ما رأى بعضهم أن نفع الآخرين هو نفعه وضررهم ضرره، يريد لهم كل ما أراد لنفسه، فإنه لا شك في أن حياتهم الدنيوية تضمن بأحسن وجه، كما أنهم يصلون إلى السعادة الباقية الأخروية، والكمالات المعنوية والروحية، ذلك أن اتحاد القلوب واتصالها بالله هو سبب لقوتها أمام الوساوس الشيطانية، بل توصد أحياناً منافذ الشيطان إلى قلوبهم كاملاً.
3- الكذب في الحرب:
ورد في بعض الروايات تجويز الكذب في مجال الحرب، فيما إذا كان سبباً في الغلبة على العدو.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): (كل كذب مسؤول عنه صاحبه يوما إلا كذبا في ثلاثة: رجل كائد في حربه فهو موضوع عنه...)[11].
4- وعد الأهل:
ورد أيضا تجويز الكذب في مقام وعد الأهل، مثل أن تطالبه الزوجة بشيء ما فيعطيها وعداً، في حين أنه لا يقصد الوفاء بوعده بعد ذلك.
لكن حيث إن أسانيد هذا القسم من الروايات ضعيفة فيشكل الحكم بجواز ذلك، إلا إذا كان مضطراً أو مكرهاً، كما في فرض أنها تزاحمه وتؤذيه لو لم يعطها وعداً، أو أن الأمر ينجر إلى طلاق لا قدّر الله.
[1] وسائل الشيعة: ج16، ص134.
[2] وسائل الشيعة: ج16، ص134.
[3] وسائل الشيعة: ج16، ص135.
[4] وسائل الشيعة: ج12، ص255.
[5] التورية، أن يقصد بالكلام معنى غير معناه الظاهر، من دون نصب قرينة موضحة لقصده، فلو سألك ظالم عن مكان أحد المؤمنين وكنت تخشاه عليه تجيبه ما رأيته، وقد رأيته قبل ساعة وتقصد بذلك إنك لم تره منذ دقائق.
[6] وسائل الشيعة: ج8، ص579.
[7] وسائل الشيعة: ج8، ص578.
[8] وسائل الشيعة: ج12، ص252.
[9] أمالي الطوسي: ج2، ص135.
[10] من لا يحضره الفقيه: ج4، ص190.
[11] وسائل الشيعة: ج12، ص253.