مما لا شك فيه أن الأمويين كانوا يضيقون على الإمام الباقر (عليه السلام) العيش، وعانى من ظلمهم منذ أن ولد وحتى استشهد بعد أن دسوا له السم، يستثنى من ذلك عهد عمر بن عبد العزيز والذي استمر فترة قصيرة ناهزت السنتين والنصف، وكان (عليه السلام) يسمع كيف يشتم جده الإمام علي (عليه السلام) على المنابر بأمر الأمويين وهو يصبر على مضض ولا يستطيع منع تلك الهمجية الأموية، وفي تلك الظروف الحالكة والظلم الشديد استطاع رغم ذلك فتح باب العلوم على مصراعيه فكان بحق باقر علوم الأولين والآخرين.
ما أن استولى هشام بن عبد الملك - المعروف بـ: أحول بني أميَّة- على الحكم بعد هلاك أخوه يزيد، حتى أمر عامِلَه على المدينة بحمل الإمام إلى دمشق، وذلك لغرض الحَدِّ من تحرُّك الإمام (عليه السلام) وتأثيره على الناس.
كان هشام بن عبد الملك حقوداً على ذوي الأحساب العريقة، ومبغضاً لكل شريف، وهو الذي قتل زيد بن علي (عليهما السلام)، وتعرَّض الإمام الباقر (عليه السلام) في عهده إلى ضروب من المِحَن والآلام.
الإمام (عليه السلام) في دمشق:
لما انتهى الإمام الباقر (عليه السلام) إلى دمشق، وعَلِم هشام بقدومه، أوعزَ إلى حاشيته أن يقابلوه بمزيد من التوهين والتوبيخ عندما ينتهي حديثه معه.
ودخل الإمام (عليه السلام) على هشام، فَسَلَّم على القوم، ولم يُسلِّم عليه بالخلافة.
فاستشاط هشام غضباً، وأقبل على الإمام (عليه السلام) فقال له: يا محمد بن علي، لا يزال الرجل منكم قد شَقَّ عصا المسلمين، ودعا إلى نفسه، وزعم أنه الإمام سفهاً، وقِلَّة عِلم.
ثم سكت هشام، فانبرى عملاؤه، وجعلوا ينالون من الإمام (عليه السلام)
ويسخرون منه.
وهنا تكلم الإمام (عليه السلام) فقال: (أيُّها الناس، أين تذهبون؟ وأين يُرَاد بكم؟ بِنَا هدى الله أوَّلكم، وبنا يختم آخركم، فإنَّ يَكُن لكم مُلْكٌ مُعَجَّل، فإنَّ لنا مُلكاً مؤجلاً، وليس بعد مُلكِنا مُلك، لأنَّا أهل العاقبة، والعاقبة للمتقين).
وخرج الإمام (عليه السلام) بعد أن ملأ نفوسهم حزناً وأسى، ولم يستطيعوا الرد على منطقه القوي.
وازدحم أهل الشام على الإمام (عليه السلام) وهم يقولون: هذا ابن أبي تراب.
فرأى الإمام (عليه السلام) أن يهديهم إلى سواء السبيل، ويعرفهم بحقيقة أهل البيت (عليهم السلام).
فقام (عليه السلام) فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، وصَلَّى على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم قال: (اِجتنبوا أهل الشِّقاق، وذُرِّية النِّفاق، وحشو النار، وحصب جَهَنَّم، عن البَدْر الزاهر، والبحر الزَّاخِر، والشهاب الثَّاقب، وشهاب المؤمنين، والصراط المستقيم، من قبل أن نطمس وجوهاً فَنَردُّها على أدبارها، أو يُلعَنوا كما لُعِن أصحاب السبت، وكان أمر الله مفعولاً).
ثم قال (عليه السلام) بعد كلام له: (أبِصِنْوِ رسول الله (صلى الله عليه وآله)- أي: الإمام علي (عليه السلام) - تستهزئون؟ أم بِيَعْسوب الدِّين تلمزون ؟ وأيُّ سبيلٍ بَعدَه تسلكون ؟ وأيُّ حُزن بَعده تدفعون؟
هيهات، برز والله بالسبق، وفاز بالخصل، واستولى على الغاية، وأحرز على الختار [الغدر]، فانحسرت عنه الأبصار، وخضعت دونه الرقاب، وفرع الذُّروة العُليا، فَكذب من رام من نفسه السعي، وأعياه الطلب، فأنَّى لهم التناوش من مكان بعيد؟!.
فَأنَّى يسدُّ ثلمة أخي رسول الله (صلى الله عليه وآله)إذ شَفَعُوا، وشقيقه إذْ نَسَبوا، وندّ يده إذ قَتَلوا، وذي قرني كنزها إذ فَتَحوا، ومُصلِّي القبلتين إذ تَحرَّفوا، والمشهود له بالإيمان إذ كَفَروا، والمُدَّعي لنبذ عهد المشركين إذ نكلوا، والخليفة عَلى المِهَاد ليلة الحصار إذ جَزَعوا، والمستودع الأسرار ساعة الوداع).
ولمّا ذاع فضل الإمام (عليه السلام) بين أهل الشام، أمر الطاغية باعتقاله وسجنه.
وحين احتفَّ به السجناء، وأخذوا يتلقون من علومه وآدابه، خشي مدير السجن من الفتنة، فبادر إلى هشام فأخبره بذلك، فأمره بإخراجه من السجن، وإرجاعه إلى بلده ( المدينة ).
وهنا أمر الطاغية بمغادرة الإمام الباقر (عليه السلام) لمدينة ( دمشق )، خوفاً من أن يفتتن الناس به، وينقلب الرأي العام ضد بني أمية.
ولكنه أوعَزَ إلى أسواق المدن، والمحلات التجارية، الواقعة في الطريق، أن تغلق محلاتها بوجهه، ولا تبيع عليه أية بضاعة، وأراد بذلك هلاك الإمام (عليه السلام) والقضاء عليه.
وسارَت قافلة الإمام (عليه السلام) وقد أضناها الجوع والعطش، فاجتازت على بعض المدن، فبادر أهلها إلى إغلاق محلاَّتهم بوجه الإمام (عليه السلام)، ولما رأى الإمام ذلك صعد على جبل هناك، ورفع صوته قائلاً: (يا أهل المدينة، الظالم أهلها، أنا بقية الله، يقول الله تعالى: (بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ))[1].
وما أنهى الإمام (عليه السلام) هذه الكلمات حتى بادر شيخ من شيوخ المدينة فنادى أهل قريَتِه قائلاً: يا قوم، هذه والله دعوة شعيب، والله لَئِن لم تخرجوا إلى هذا الرجل بالأسواق لتُؤخذُنَّ من فوقكم، ومن تحت أرجلكم، فصدِّقُوني هذه المرة، وأطيعوني، وكذِّبوني فيما تستأنفون، فإني ناصح لكم.
وفزع أهل القرية، فاستجابوا لدعوة الشيخ الذي نَصَحَهم، ففتحوا حوانيتهم، واشترى الإمام (عليه السلام) ما يريده من المتاع، وفَسَدَت مكيدة الطاغية، وما دبَّره للإمام (عليه السلام)، وقد انتهت إليه الأنباء بِفَشَل مؤامرته[2].