بعد مراجعة الروايات الواردة في المقام يُعلم أن الكذب له عدة مراتب بعضها من الكبائر قطعاً وبعضها أكبر الكبائر، ولأجل مزيد الاطلاع نذكر مراتب الكذب:
1- الكذب على الله والرسول والإمام:
إن أسوأ مراتب الكذب، الكذب على الله تعالى والرسول والإمام (صلوات الله عليهم) قال تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ)[1].
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (الكذب على الله وعلى رسوله من الكبائر)[2].
والكذب على الرسول (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) هو أن يخترع حديثاً من عنده ثم ينسبه إليهما، أو يسمع حديثاً من شخص أو يراه في كتاب وهو يعلم بأنه كذب، ومع ذلك ينسبه إلى الإمام (عليه السلام) أو إلى الرسول (صلى الله عليه وآله).
نعم إذا تيقن بصحة حديث من خلال القرائن الموجودة، فإنه يجوز له نقله ونسبته إلى المعصوم.
أما الأحاديث الموجودة في الكتب التي لا يعلم أنها صادقة أم كاذبة، أي لا يعلم أنها من قول الإمام (عليه السلام) أم لا، ففي صورة ما إذا لم تكن مخالفة لضرورة من ضروريات الدين والمذهب، وغير موجبة لهتك مقام الإمام (عليه السلام)، وليست غريبة بنحو يوجب هتك الأخبار وذلك بأن تكون في صياغتها بنحو لا يأباها العقل السليم، في مثل هذه الصورة يجوز نقل تلك الأخبار مع إسنادها إلى الكتاب الذي وجدها فيه، بمعنى أن يقول: روي في الكتاب الفلاني عن الإمام (عليه السلام) كذا، والأحوط مع كل ذلك أن لا ينقل من كل كتاب، بل ينقل من الكتب التي يعتمد على مؤلفها، ويكون معروفاً بالتقوى و الورع والوثاقة، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (ولا تحدث إلا عن ثقة فتكون كذاباً، والكذب ذل)[3]، وفي كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) للحارث الهمداني: (ولا تحدث الناس بكل ما سمعت فكفى بذلك كذباً)[4].
مضافاً إلى ما ذكر فإنه يجب أن ينقل ما ورد بشكل دقيق ومطابق، من دون أن يضيف عليه كلمة، أو يحذف منه كلمة توجب نقص المعنى أو تغيره، وإلا فإنه يصبح مشمولاً للحديث الشريف المروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من قال عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار)[5].
ومن جملة موارد الكذب على الله أن يكذب الإنسان ثم يُشهد الله على ما يقول، أو يقول بأنّ الله يعلم بثبوت حديثي وصدقه، فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (من قال: يعلم الله، لما لا يعلم الله، اهتز العرش إعظاما لله عز وجل)[6].
وفي حديث آخر أنه (عليه السلام) قال: (إذا قال العبد: علم الله وكان كاذباً، قال الله تعالى: أما وجدت أحداً تكذب عليه غيري؟!)[7].
وورد في بعض الروايات أن العبد إذا أشهد الله على أمر خلاف الواقع قال تعالى: (أَلَمْ تجد من هو أضعف مني تشهده على ذلك).
وهذا القسم من الكذب بالإضافة إلى حرمته التكليفية في نفسه فإنه يبطل الصوم، إذا كان متعمداً فيه.
2- القَسَم والشهادة والكتمان:
من جملة موارد الكذب التي لاشك في أنها من الكبائر القَسَم الكاذب، والشهادة الكاذبة، وكتمان الشهادة.
أما اليمين الكاذبة: فهي من أبشع صور الكذب وأشدها خطراً وإثماً فانها جناية مزدوجة وجرأة صارخة على المولى عز وجل بالحلف به كذباً وبهتاناً، وجريمة نكراء تمحق الحقوق وتهدر الكرامات.
فمن أجل ذلك جاءت النصوص في النكير على فاعلها وذمها والتحذير منها:قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إياكم واليمين الفاجرة، فإنها تدع الديار من أهلها بلاقع)[8].
وأما شهادة الزور وكتمانها: فهي جريمة خطيرة، وظلم سافر هدام، تبعث على غمط الحقوق.
فقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لا ينقضي كلام شاهد الزور من بين يدي الحاكم حتى يتبوأ مقعده من النار، وكذلك من كتم الشهادة)[9].
3- الكذب الضار:
من جملة أقسام الكذب التي لاشك في أنها من الكبائر، وهو الكذب الذي فيه مضرة ومفسدة، وطبعاً كلما كانت مفسدته ومضرته أكبر كان إثمه وعقوبته أشد، وقد يكون الكذب أحياناً سبباً لتلف الأموال، وهتك الحرمة، وإسالة الدماء، ولذا يكون هذا النوع من الكذب أيضاً من أشد أنواع الكذب لأنه يضيف إلى حرمة الكذب حرمة الإيذاء وبعض العناوين المحرمة الأخرى كالتسبب في القتل أو هتك العرض أو إضاعة الأحوال وتلفها.
4- حرمة الكذب حتى لو كان بدافع المزاح والهزل:
ينبغي التورع عن كل أنحاء الكذب حتى لو كان بدافع المزاح والهزل، فعن أبي ذر في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) له: (وإن الرجل ليتكلم بالكلمة في المجلس ليضحكهم بها فيهوي في جهنم ما بين السماء والأرض، يا أبا ذر: ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك القوم، ويل له، ويل له، ويل له)[10].
وعن النبي (صلى الله عليه وآله) في بيان أشراط الساعة قوله: (ويكون الكذب عندهم ظرافة، فلعنة الله على الكاذب وإن كان مازحا)[11].
وأيضاً قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة[12] وبيت في وسط الجنة، وبيت في أعلى الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، ولمن ترك الكذب وإن كان هازلا، ولمن حسّن خلقه)[13].
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده)[14].
وأيضاً عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أنه قال: (لا يصلح الكذب جد ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم صبيه ثم لا يفي له، أن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار)[15].
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (صلوات الله عليهما) يقول لولده: (اتقوا الكذب، الصغير منه والكبير في كل جد وهزل، فإن الرجل إذا كذب في الصغير اجترى على الكبير، أما علمتم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ما يزال العبد يصدق حتى يكتبه الله صدّيقا وما يزال العبد يكذب حتى يكتبه الله كذّابا)[16].
وما قلناه حول حرمة الكذب هازلاً إنما هو في صورة ما إذا لم يكن فيه جرح لفؤاد المؤمن، وإيذاء له، وإلا فلا شك أنه من الذنوب الكبيرة حينئذ.
[1] سورة النحل: آية116.
[2] الكافي: ج2، ص339.
[3] بحار الأنوار: ج74، ص227.
[4] نهج البلاغة: ج3، ص129.
[5] من لا يحضره الفقيه: ج3، ص569.
[6] وسائل الشيعة: ج23، ص210.
[7] المصدر السابق: ج23، ص209.
[8] وسائل الشيعة: ج23، ص204.
[9] الكافي: ج7، ص383.
[10] أمالي الشيخ الطوسي: ص537.
[11] مستدرك الوسائل: ج11، ص372.
[12] الزعيم: الكفيل. والربض - بالتحريك - النواحي.
[13] الخصال: ص144.
[14] الكافي: ج2، ص340.
[15] أمالي الصدوق: ص505.
[16] الكافي: ج2، ص338.