أشكال وصور القتل

للقتل صورٌ وأشكالٌ مختلفة، ونحن هنا نحاول تسليط الضوء عليها لبيان أقسامها وفي أي باب تندرج، ليساهم ذلك في رفع ثقافة الإنسان من هذه الجهة حتى يزداد وعيه في رفض الصور المحرمة منه دون غيرها من الصور، إذ أن القتل ينقسم إلى:

ما يكون مطلوبا من الشارع على نحو الوجوب أو الاستحباب، بحسب وجوب أو استحباب سببه، كالجهاد والمرابط، ونحو ذلك.

ما يكون مشرعا على نحو العقوبة اللاحقة لمن يرتكب بعض الذنوب والمخالفات الشرعية، كالقصاص وغيره من الحدود.

ومنها ما يكون محرما وباطلا نهى الشارع عنه وغلّظ العقوبة على فعله، وهذا هو القسم الذي ساد في المجتمعات – للأسف – حتى باتت حياة الناس معرضة للخطر في كل لحظة، وهذا ما حاول الإسلام تلافيه عن طريق الكم الضخم من الروايات والآيات التي نهت عنه، كما سيأتي بيانها.

وهنا لا بد أن نستعرض – ولو بشكل موجز – هذه الأقسام وما يتفرع عنها من صور، لنكون على بصيرة من الصور المختلفة للقتل.

القسم الاول : القتل في سبيل الله، وله أشكال عديدة:

الأول: الجهاد في سبيل الله:

من الفرائض الكفائية الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال، والذي دلت على وجوبه الآيات والروايات، فمن الآيات قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [1]، وقال جل اسمه:(وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[2]، وقال سبحانه:(فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)[3].

والجهاد له شروطه التي ذكرها الفقهاء في رسائلهم العملية، والسبب الذي يدعو إليه هو إحياء ما أماته الطواغيت من أحكام الله وسننه، وإقامة حدود الله سبحانه في الأرض، يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك)[4].

ومن الروايات الشريفة التي تحث وتؤكد على فضيلة الجهاد في سبيل الله وأن المقتول في سبيله له من المنزلة والدرجة العظيمة الشيء الكثير، ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)أنه قال: (للشهيد سبع خصال من الله: أول قطرة من دمه مغفور له كل ذنب، يقع رأسه في حجر زوجته من الحور العين، وتمسح الغبار عن وجهه وتقول: مرحباً بك، ويقول هو مثل ذلك لها، ويُكسى من كسوة الجنة، تبتدره خزنة الجنة بكل ريح طيبة، أيهم يأخذه معه، أن يرى منزلته في الجنة، يقال لروحه اسرح في الجنة حيث شئت، أن ينظر في وجه الله تعالى، وأنها لراحة لكل نبيّ وشهيد)[5]، وأيضا روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (مَن قُتل في سبيل الله، لم يُعرّفه الله شيئاً من سيئاته)[6]، والشهادة في مدرسة الوحي مطلوبة ومحبوبة، حيث قضى جميع الأئمة بين قتيل ومسموم، في سبيل الدين ونالوا بذلك مرتبة الشهادة، ومع أن نفوس الأئمة وأولياء الله وعبادة المخلصين عزيزة، لكن دين الله أعز وأغلى وبذل النفس في سبيله أجمل وأكمل، وعلى هذا يجب التضحية بالنفس في سبيل الله، ليسود الحق وهذا هو (سبيل الله)، ومن أمثلته ما وصلت إليه حال المسلمين في عهد سيد الشهداء الحسين بن علي (عليهما السلام)، حيث اندرست فيه سنن الإسلام وأحيى بنو أمية سنة الجاهلية مما جعل من غير الممكن إيقاظ الأمة إلا بالتضحية والشهادة، ولم يكن من اليسير أن تنمو شجرة الدين إلا بدماء أعز الناس، وهذا ما جعل الإمام (عليه السلام) وأصحابه يواجهون السيوف والرماح بوعي واندفاع لكي يبقى الإسلام بموتهم الدامي طريا يانعا، وظلت هذه السُنّة قائمة على مدى الأحقاب، وأصبحت الشهادة درساً كبيراً وخالداً لكل الأجيال والعصور، ومن يتمكن من بلوغ هذه المرتبة بحيث يقطع جميع العلائق الدنيوية، تدفعه محبة الحياة الخالدة إلى اختيار الشهادة، ومن البديهي أن اجتياز هذه الموانع والوصول إلى مرحلة التحرر من جميع القيود الدنيوية يتطلب درجة عالية من الإيمان والاخلاص ولهذا السبب فإن الشهادة هي من أسرع الطرق للوصول إلى الله وإلى الجنة.

وقد ذكرت الروايات الشريفة مجموعة من العناوين أعطت أصحابها أجر الشهادة بعد أن منحتهم لقب الشهداء فكان هذا من التوسعة الحكمية لمعنى الشهيد، أي: إن الإسلام كرّم هؤلاء الأشخاص فأعطاهم أجر الشهداء من دون أن يكونوا من الشهداء حقيقة، فالشهداء الحقيقيون هم: من قتل في ساحة الحرب، وتحمل العذاب والمشاق، وضحى بنفسه في هذا السبيل، وأما من كان بحكم الشهيد فهو مَن قتل دفاعا عن مآله أو نفسه أو شرفه أو لنيل حقه، أو من يموت وهو مهاجر في سبيل الله، أو من يموت على الإيمان وعلى محبة أهل البيت وهو ينتظر الفرج لكي يحكم العدل، أو يموت في سبيل طلب العلم أو في دار الغربة، أو المرأة إذا ماتت في حالة الولادة، أو من يقتل وهو يؤدي واجبة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو في جميع هذه الحالات بمنزلة الشهيد في الأجر والثواب، وتفصيل ذلك في الكتب الروائية والفقهية.

والشهادة طهارة حقيقة من الذنوب بعد التوبة منها كما ورد ذلك في قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (من القتلى رجل قرف[7]، على نفسه من الذنوب والخطايا حتى إذا لقى العدو قاتل حتى قتل، فتلك مضمضة[8] محت ذنوبه وخطاياه، إن السيف محاء للخطأ)، وهذا الكلام قمة الروعة في البيان منه (صلى الله عليه وآله) وهو مجاز قصد منه المبالغة، لأن السيف على الحقيقة لا يمحو شيئا من الذنوب، ولكن القتل بالسيف لما كان سببا للشهادة[9] التي يستحق بها دخول الجنة، كان السيف كأنه قد محا ما سلف من ذنوبه، وليس يبلغ الانسان إلى هذه المنزلة في طاعة الله تعالى، من بذل النفس للقتل، وتوطينها على الهلاك في الأغلب الأكثر، إلا وقد كافأه الله تعالى بمحو جميع الذنوب التي توجب العقاب، وتحبط الثواب، فتكون الشهادة حينئذ دالة على أنه من أهل الجنة، وسببها السيف، فكأنه قد محا ذنوبه، أي أزالها وأبطلها، وعلى ذلك قول الشاعر:

فلا تكثروا فيها الضجاج[10]فإنه    محا السيف ما قال ابن دارة[11]أجمعا

أي أزاله وأبطله، وقوله (صلى الله عليه وآله):(فتلك مضمضة محت ذنوبه) مجاز آخر، كأن القتل غسله من درن الذنوب. قال ابن السكيت: يقال: مصمصت الاناء ومضمضته بالصاد والضاد إذا غسلته. ويقال أيضا: ماص[12] الثوب بالصاد غير معجمة إذا غسله، وفي الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه قتل النفس في الجهاد بالمضمضة التي تنظف الفم والإناء بجامع المحو والإذهاب في كل، فالقتل يمحو الذنوب، والمضمضة تمحو الدرن والقذر، وحذف وجه الشبه والأداة.[13]

وختاماً نذكر أن للجهاد في الاسلام أحكاما وآدابا ذكرت في روايات النبي وآله (صلى الله عليه وآله) لا كما يشيعه أعداء الدين من ثقافة القتل الغير مبررة من مجازر وقتل جماعي يشمل الكبير والصغير والرجل والمرأة الذي ينافي أخلاق الإسلام وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) الذي جاء لهداية الناس وتهذيب نفوسهم الحيوانية، وليحافظ على حياة الإنسان ويصل به إلى السعادة الأبدية فجاءت توصياته وتعاليمه لتصب في هذا الجانب حتى في ظروف الحرب، وهذا ما يظهر من وصايا رسول الله لجيش الإسلام، ومنها ما ورد عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) أنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِذَا أراد أن يبعث سرية دَعَاهُمْ فَأَجْلَسَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: سِيرُوا بِسْمِ اللهِ وَبِاللهِ، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ، لَا تَغُلُّوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَقْتُلُوا شَيْخاً فَانِياً، وَلَا صَبِيّاً، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا تَقْطَعُوا شَجَراً إِلَّا أَنْ تُضْطَرُّوا إِلَيْهَا، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أَدْنَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَفْضَلِهِمْ نَظَرَ إلى رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ جَارٌ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ، فَإِنْ تَبِعَكُمْ فَأَخُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَإِنْ أَبَى فَأَبْلِغُوهُ مَأْمَنَهُ وَاسْتَعِينُوا بِاللهِ عَلَيْهِ.[14]

الثاني: من قتل صبراً

 أصله الحبس، يقال: قُتِل صبراً، أي: حبس على القتل، أو قتل مكتوفا مغلولا لا يمكنه أن يدافع عن نفسه أو يجابه قاتله، حكى البلاذري: إنه قتل بالحرة من وجوه قريش سبعمائة رجل وكسر، سوى من قتل من الأنصار، وفيهم ممن صحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) جماعة، وممن قتل صبرا من الصحابة عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة[15]، والقتل بهذه الطريقة محرم في الاسلام فهو مخالف لتعاليمه التي تفيض رحمة بالحيوان فضلاً عن الإنسان، وإن استعمله بعض من ينسب إليه ممن شوّه سمعة الإسلام، كبني أمية وبني العباس على طول حكمهم المستبد الذي جلب للإسلام العار وللمسلمين الويل والثبور.

ومن العلماء الذين قتلوا صبراً الشيخ محمّد بن جمال الدين مَكِّي العاملي الجزِّيني، والذي كانت وفاته سنة 786 هجرية، حيث وُشِيَ به (قدس سره) إلى الملك (بيدمر)، فسُجن في قلعة دمشق سنة كاملة، فلمّا ضجَّ الناس خاف (بيدمر) ثورتهم وهجومهم على السجن لإنقاذ الشهيد الأوّل (قدس سره)، أو الاستيلاء على الحكم، فحاول التعجيل بقتل هذا العالم وإراحة نفسه منه، فقُدِّم وقتل (قدس سره)، وكانت شهادته في التاسع من جمادى الثانية 786 هـ، ثمّ لم تشتفِ القلوبُ المريضة بهذا حتّى طمعت بإهانة الرجل بعد شهادته، فقد أُمِر به أن يُصلب وهو مقتول على مرأىً من الناس، ثمّ رجم بالحجارة، و لم يكتفوا بذلك بل قاموا بإحراق جثمانه الطاهر [16].

الثالث: المرابط

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا)[17] والمرابطة: مشتقة من مادة (الرباط) وتعني ربط شئ في مكان (كربط الخيل في مكان)، ولهذا يقال لمنزل المسافرين (الرباط)، و (المرابطة) بمعنى: مراقبة الثغور وحراستها لأن فيها يربط الجنود أفراسهم (ومنه المرابط).

وهذه الآية أمر صريح إلى المسلمين بأن يكونوا على استعداد دائم لمواجهة الأعداء، وأن يكونوا في حالة تحفز وتيقظ ومراقبة مستمرة لثغور البلاد الإسلامية وحدودها حتى لا يفاجئوا بهجمات العدو المباغتة، كما أنه حث على التأهب الكامل لمواجهة الشيطان، والأهواء الجامحة حتى لا تباغتهم وتأخذهم على حين غرة وغفلة، ولهذا جاء في بعض الأحاديث عن الإمام علي (عليه السلام) تفسير المرابطة بانتظار الصلاة بعد الصلاة، لأن من حافظ على يقظة روحه وضميره بهذه العبادات المستمرة المتلاحقة، كان كالجندي المتأهب لمواجهة الأعداء على الدوام ومَنْ أشَدُّ عداوةً من النفس وشهواتها والشياطين ووسوستها ليحاربهم ويستعد لمواجهتهم.

 وللمرابطة معنى وسيع يشمل كل ألوان الدفاع عن النفس والمجتمع، ثم إن هناك في الفقه الإسلامي بابا خاصا - في كتاب الجهاد - تحت عنوان (المرابطة) بمعنى الاستعداد والتأهب الكامل في الثغور لحراستها وحمايتها وحفظها أمام حملات الأعداء الاحتمالية، وقد ذُكرت لها أحكام خاصة يقف عليها كل من راجع الكتب الفقهية.

من صور المرابطة:

الأولى: وابرز صور المرابطة الجنود الذين يحمون الثغور الجغرافية لبلاد المسلمين، الذين يدفعون خطر الأعداء المتربصين بالمسلمين شراً، فمن قُتل دفاعا عن بلاد الإسلام فهو شهيد، فعن النبي (صلى الله عليه وآله): إن صلاة المرابط تعدل خمسمائة صلاة[18].

الثانية: وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام): نحن الرباط الأدنى، فمن جاهد عنا، جاهد عن النبي (صلى الله عليه وآله)[19].

الثالثة: ومن صور المرابطة كثرة الاختلاف للمسجد: ففي وصايا النبي(صلى الله عليه وآله) لأبي ذر: وكثرة الاختلاف إلى المساجد فذلكم الرباط [20].

الرابعة: وقد أُطُلقت صفة المرابط على العلماء - كما في بعض الأحاديث -، فعن الإمام الصادق (عليه السلام):(علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، ويمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا وعن أن يتسلط عليهم إبليس...)[21].ويعتبر الحديث العلماء أعلى مكانة من الجنود والقادة الذين يحرسون الثغور ويذبون عنها أعداء الإسلام، وما ذلك إلا لأن العلماء حماة الدين وحراسه، والأمناء المدافعون عن القيم الإسلامية، ومن الثابت المسلم به أن الثغور الفكرية والثقافية لأمة من الأمم لو تعرضت لكيد الأعداء، ولم تستطع الذب عنها بنجاح، فإنها سرعان ما تصبيها الهزائم العسكرية والسياسية أيضا.

لذا كانت مرابطة العلماء الفكرية عن حياض الإسلام أهم من مرابطة الجنود الجسدية عن بلاد المسلمين الجغرافية، فقد ورد عن أبي عبد الله الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام)، قال: ( إذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الناس في صعيد واحد، ووضعت الموازين، فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء، فيرجح مداد العلماء )[22].

الرابع: من قتل دون ماله وعرضه وأرضه:

 روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من قتل دون مظلمته فهو شهيد)[23].

وروي عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال: (قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): من قتل دون مظلمته فهو شهيد، ثم قال يا أبا مريم: هل تدري ما دون مظلمته؟ قلت: جعلت فداك الرجل يقتل دون أهله ودون ماله وأشباه ذلك. فقال: يا أبا مريم إن من الفقه عرفان الحق)[24]. لعل المراد أن الفقيه من عرف مواضع القتال في أمثال هذه حتى يحق له أن يتعرض لذلك فربما كان ترك التعرض أولى وأليق كما إذا تعرض المحارب للمال فحسب دون النفس والعرض كما يستفاد من الحديث الآتي.

روى الحسين بن أبي العلاء قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يقاتل دون ماله؟ فقال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) من قتل دون ماله فهو بمنزلة الشهيد قلت: أيقاتل أفضل أو لم يقاتل؟ فقال: (إن لم يقاتل فلا بأس أما أنا لو كنت لم أقاتل وتركته)[25].

وروي عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال (من اعتدي عليه في صدقة مآله فقاتل فقُتِل فهو شهيد)[26]، يعني بصدقة ماله: زكاة ماله يريدون أخذها من غير استحقاق وزعم أنه يغلبهم فتعرض لهم فقتل.

القسم الثانی :ما يكون مشرعا على نحو العقوبة:

قال تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلاَّ بِالْحَقِّ)[27]، فالآية الكريمة ذكرت تحريم قتل النفس وهو ما أكدت عليه الروايات الشريفة الواردة على لسان النبي وآله (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين)، لكن هذه الآية ذكرت استثناءا من هذا التحريم وهو قتل النفس بالحق ولقتل النفس بالحق مصاديق عديدة ذكرتها الروايات الشريفة، ومن هذه المصاديق:

أولا : قتل من يحارب الله ورسوله(صلى الله عليه وآله):

قال تعالى:(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [28] نسب المحاربة إلى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) لمن يخرج على حكم الله والرسول (صلى الله عليه وآله)، فيحارب خليفة الله، أو الرسول، أو من جعله الله حاكما شرعيا يجب على الناس طاعته.

والمحاربة هي إعمال القوة وشهر السلاح، وأمّا إسناد المحاربة إلى الله والرسول بحيث تكون المحاربة محاربة معهما، فهذا يصدق حقيقة في كل مورد يكون شهر السلاح في مواجهة الله والرسول، وخروجا على حكمهما كما في مقاتلة الكفار ومحاربة البغاة الخارجين على الدين، وأمّا إذا لم يكن شهر السلاح لذلك، بل لمجرد النهب وسلب المال ونحوه ولو في طريق، ومحلّ عام فليس هذا مصداقا حقيقيا لإضافة المحاربة إلى الله والرسول، إذ لا يقصد المحارب بذلك الخروج على الحكم أو محاربة الحاكم، بل يقصد تحصيل المال ونحوه بالقوّة والقهر وشهر السلاح على صاحبه، نعم باعتبار أن هذا العمل قد وقع في المحل العام وموجّه نحو العموم لا نحو شخص معيّن كان لا محالة مخلا بالنظام والأمن العام الذي تكون مسؤولية حفظه على الحاكم ومن شؤونه، وبهذا الاعتبار قد يعبّر عنه بمحاربة الله والرسول ؛ لأنه إخلال بشأن من شؤون المسلمين، ومن هنا تكون إرادة هذا المعنى من محاربة الله والرسول بحاجة إلى ملاحظة هذه العناية العرفية الواضحة.

قوله تعالى (وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً) والفساد ضد الصلاح، ولا شك أن كل جرم هو فساد في جانب من جوانب حياة الإنسان، إلا أنّ عنوان الإفساد أو الفساد حينما يضاف إلى الأرض يراد به معنى خاص للفساد ؛ لأن الإضافة المذكورة إلى الأرض ليست للظرفية، بل يقصد به تعلَّق الفساد ووقوعه على الأرض فتكون الأرض هي الفاسدة بذلك، ومن الواضح أنه لا يراد بالأرض التراب والصخور ونحوها، بل يراد بها الأرض بما هي محلّ استقرار الإنسان وحياة الناس، فيكون المقصود من الفساد في الأرض فساد الوضع المطلوب في الأرض للإنسان، من حيث الاستقرار والأمن وحفظ المال والنفس والعرض فيها، فيساوق الفساد في الأرض سلب هذا الأمن والاستقرار، فكل جريمة تكون سلبا للأمن على المال أو العرض أو النفس تكون فسادا أو إفسادا في الأرض، وأمّا الجرائم التي لا تسلب شيئا من ذلك إلا أنها قد توجب فساد الفكر أو العقيدة للإنسان أو توجب فساد الأخلاق أو الأوضاع السياسية أو الاقتصادية للناس فهو فساد من تلك الجهة، إلَّا أنّ إطلاق الإفساد في الأرض على ذلك ممنوع ما لم يؤدّ إلى سلب الأمن والاستقرار من ناحية أحد الأمور المذكورة.[29]

ثانيا : قتل المرتد:

المرتد: وهو الذي يكفر بعد الإسلام وله قسمان:

1- المرتد الفطري: وهو من انعقدت نطفته في الإسلام أو ولد علىه، فلا يُقبل إسلامه لو رجع، ويتحتم قتله، وتبين منه زوجته، وتعتد منه عدة الوفاة، وتقسم أمواله بين ورثته، وإن التحق بدار الحرب أو اعتصم بما يحول بين الإمام وقتله، روى محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر الباقر (عليه السلام) عن المرتد فقال: (من رغب عن الإسلام وكفر بما أنزل الله على محمد (صلى الله عليه وآله) بعد إسلامه فلا توبة له وقد وجب قتله وبانت منه امرأته ويقسم ما ترك على ولده)[30].

2- المرتد الملي، أي: الذي لم تعقد نطفته في الإسلام، إذا ارتد عن الإسلام لا يقتل ابتداء، بل يستتاب فإن تاب فهو وإلا قتل.

والفرق بين المرتد الفطري والملي بأن الأول يقتل مطلقا سواء تاب أو لم يتب وسواء قلنا بقبول توبته أو عدم قبولها، بخلاف الثاني فإنه تقبل توبته إن تاب وإلا قتل، وباقي أحكام المرتد من بينونة امرأته واعتدادها عدة الوفاة وأنه يقسم أمواله بين ورثته لا فرق في ذلك في كلا المرتدين. وقد بسط الفقهاء الأعلام الكلام في كلا القسمين وأحكامهما في الكتب الفقهية باب الحدود والتعزيرات فمن أراد التفصل فليراجع عباراتهم في هذا الباب.

ومن مصاديق ذلك الشاكّ في نبوّة النبي محمّد (صلى الله عليه وآله)، أو في صدقه في شيء من الأشياء، إذا كان ممن ظاهره الإسلام، لارتداده بذلك، قال الحارث بن المغيرة للصادق (عليه السلام): أرأيت لو أنّ رجلا أتى النبيّ (عليه السلام)، فقال: والله ما أدري أنبيٌّ أنت أم لا؟ كان يقبل منه؟ قال: لا، ولكن كان يقتله، إنّه لو قبل ذلك منه ما أسلم منافق أبداً)[31].

ثالثا: قتل الزاني:

أما قتل الزاني فالظاهر عدم الخلاف فيه فالله تعالى جعل للزنا حدا، وأنه لا يجوز قتل الزاني قبل شهادة الأربعة، فلا يجوز التعدي عنه، وتدل عليه الروايات الشـريفة ومنها صحيحة العجلي قال: (سئل أبو جعفر (عليه السلام) عن رجل اغتصب امرأة فرجها ؟ قال: يقتل محصنا كان أو غير محصن). صحيحة داود بن فرقد، قال: سمعت أبا عبد الله(عليه السلام) يقول: إنّ أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) قالوا لسعد بن عبادة: أرأيت لو وجدت على بطن امرأتك رجلاً ما كنت صانعاً به ؟ قال: كنت أضربه بالسيف، قال: فخرج رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال: ماذا يا سعد ؟ فقال سعد: قالوا لو وجدت على بطن امرأتك رجلاً ما كنت صانعاً به، فقلت: أضربه بالسيف، فقال: يا سعد، فكيف بالأربعة الشهود ؟ فقال: يا رسول اللهبعد رأي عيني وعلم اللهأن قد فعل، قال: أي واللّه، بعد رأي عينك وعلم اللهأن قد فعل، إنّ اللهجعل لكلّ شيء حدّاً وجعل لمن تعدّى ذلك الحدّ حدّاً [32].

رابعا: قتل اللائط: إنه إن ثبت اللواط فتارة يكون ذلك مع الايقاب أي الإدخال، وأخرى بدونه فهنا صورتان:

الأولى: فإن أوقب قُتل أو رجم أو ألقي من الشاهق أو أحرق.

الثانية: لو لاط الرجل بمثله ولم يوقب كالمفخذ والفاعل بين الأليتين جلد مائة، حرا كان أو عبدا فاعلا أو مفعولا.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): في الرجل يفعل بالرجل؟ قال: فقال (عليه السلام): (إن كان دون الثقب فالجَلد، وإن كان ثقب أقيم قائما ثم ضرب بالسيف ضربة أخذ السيف منه ما أخذ، فقلت له: هو القتل؟ قال (عليه السلام): هو ذاك)[33]

خامسا: قتل ساب الرسول(صلى الله عليه وآله) وأهل بيت العصمة(عليهم السلام):

أجمع الفقهاء الإمامية قولا واحدا على أن من سب الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) -نعوذ بالله- يجب على من يسمعه أن يقتله ما لم يخف الضرر على نفسه، أو غيره، فقد سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن ذلك؟ قال: يقتله الأدنى فالأدنى - أي ممن سمعه - قبل أن يرفع إلى الإمام، وقال رجل للإمام الباقر أبي الإمام جعفر الصادق (عليهما السلام): أرأيت لو أن رجلا سب النبي (صلى الله عليه وآله)، أيقتل؟ فقال له: إن لم تخف على نفسك فاقتله، إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة[34].

قال السيد الخوئي (قدس سره) في المسألة 214: يجب قتل من سبّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) على سامعه ما لم يخف الضرر على نفسه أو عرضه أو مآله الخطير ونحو ذلك، ويلحق به سبّ الأئمّة (عليهم السلام) وسبّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) ولا يحتاج جواز قتله إلى الإذن من الحاكم الشرعي.[35]

سادسا: قتل الساحر:

 فقد روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ساحر المسلمين يقتل وساحر الكفار لا يقتل. قيل: يا رسول الله ولم لا يقتل ساحر الكفار؟ فقال لأن الكفر أعظم من السحر ولأن السحر والشرك مقرونان)[36].

وروي عن زيد بن علي عن أبيه عن آبائه عن علي (عليهم السلام) قال: (سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله)عن الساحر فقال إذا جاء رجلان عدلان فشهدا عليه فقد حل دمه)[37]، وروي عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أن عليا (عليه السلام) كان يقول: (من تعلم من السحر شيئا كان آخر عهده بربه وحدُّه القتل إلا أن يتوب)[38] يعني: لا يبقى بينه وبين ربه عهد بعد ذلك ويبرأ الله منه.

قال السيد الخوئي في المسألة 216: ساحر المسلمين يقتل وساحر الكفّار لا يقتل ومن تعلّم شيئاً من السحر كان آخر عهده بربّه، وحدّه القتل إلاّ أن يتوب [39].

سابعا: قتل من يدعي النبوة: من دون خلاف بين الفقهاء، ففي الحديث: قال ابن أبي يعفور للصادق (عليه السلام): إنّ بزيعاً يزعم أنّه نبيّ، فقال: إن سمعته يقول ذلك فاقتله [40].

قال السيد الخوئي في المسالة 215: من ادّعى النبوّة وجب قتله مع التمكّن والأمن من الضـرر من دون حاجة إلى الإذن من الحاكم الشرعي [41].

ثامنا: قتل قاتل النفس المحترمة:

لا خلاف أن القاتل يقتل، قال تبارك وتعالى(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَه)[42]، وقال عز وجل:  (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )[43].

تاسعا: المحارب لله ورسوله (صلى الله عليه وآله):

والمراد به ما ذكرته الآية الشريفة من قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [44]، فهؤلاء الذين يعيثون في الأرض فسادا خطرٌ اجتماعي كبير لابد أن يستأصل من المجتمع، لما يسببونه من سلب الأمن فيه وهتك الأعراض واستباحة الأموال وقتل الأنفس، وهذه الأمور الثلاثة من أشد ما حرص الشارع على الحفاظ عليها وأكد على رعايتها.

القسم الثالث: القتل بالباطل (المحرم)

به كل إزهاق لروح الإنسان، وقتل له بغير وجه حق، كما قال تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً)[45]، وروى عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً)[46]، قال: له في النار مقعد لو قتل الناس جميعا لم يرد إلا ذلك المقعد،[47] وقال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْـرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا)[48] فلا تقتل النفس المحترمة إلا بالحق، أي: إلا أن يكون قتلا بالحق، بأن يستحق ذلك لقود أو ردة أو لغير ذلك من الأسباب الشـرعية، ولعل في توصيف النفس بقوله:(حرم الله) من غير تقييد إشارة إلى حرمة قتل النفس في جميع الشـرائع السماوية فيكون من الشـرائع العامة، وقوله: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْـرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا)، المراد بجعل السلطان لوليه: تسليطه شرعا على قتل قاتل وليه قصاصا، والضميران في (فَلَا يُسْـرِفْ) و(إنه) للولي، والمراد بكونه منصورا هو التسليط الشـرعي المذكور، والمعنى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا بحسب التشـريع لوليه وهو ولي دمه سلطنة على القصاص وأخذ الدية والعفو، فلا يسرف الولي في القتل بأن يقتل غير القاتل أو يقتل أكثر من الواحد، إنه كان منصوراً، أي: فلا يسرف فيه لأنه كان منصورا فلا يفوته القاتل بسبب نصرنا إياه أو فلا يسـرف اعتمادا على نصرنا إياه.

والقتل محرم بأي صورة أو سبب كان، فللقتل أسبابٌ ودواعي كثيرة قد يصدر من فرد أو جماعة أو دولة في بعض الأحيان و تتفاوت هذه الأسباب والدواعي شدة وضعفا من مجتمع لأخر ومن صورة لأخرى.

ومن أهم أسباب قتل النفس:

1- القتل بسبب المعتقد والدين (السبب الطائفي)

الكثير من حالات القتل التي حدثت في مختلف الأزمنة ترجع في حقيقتها إلى أن منشأ القتل هو الدافع الديني أو العقدي (الأيدلوجي)، وهو من أبلغ صور القتل المحرم للنفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، كما أشارت إليه النصوص الشـريفة، ولا نبالغ إذا قلنا: إن كثيرا من الحروب التي أزهقت أرواح مئات الآلاف من البشر سببها العامل الديني، ولقد عانى أتباع آل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله) تبعا لأئمتهم من القتل والتهجير والإقصاء حتى اصطبغت الأرض بلون دمائهم الطاهرة، لا لشيء إلا لأنهم أحبوا آل بيت رسول الله (صلوات ربي عليه وعليهم أجمعين) واعتقدوا بولايتهم وأنهم أوصياء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فبلغت حالات القتل عددا لا يُحصى ، وتنوعت صوره وأشكاله وتفنن أعداء أتباع آل البيت بألوان القتل حتى غدت قصصا تُحكى، فما جرى على أتباع دين أو طائفة ما جرى عليهم، فمن الصدر الأول للإسلام وحتى اليوم ترى الشيعة مقتلين مشردين مضطهدين مفترى عليهم.

فمن الذين قتلهم معاوية بن أبي سفيان (700) من شيعة أهل البيت وغيرهم الكثير وممن قتل:

 - حجر بن عدي الكندي الصحابي الجليل وستة من أصحابه.

- شريك بن شداد الحضرمي.

- صيفي بن فسيل الشيباني.

- قبيصة بن ضبيعة العبسي.

- محرز بن شهاب المنقري.

- كدام بن حيان العنزي.

- عبد الرحمن بن حسان العنزي.

- عمرو بن الحمق الخزاعي، وهو صحابي حمل رأسه وهو أول رأس حمل في الاسلام.

- مسلم بن زيمر الحضرمي.

- عبد الله بن نجي الحضرمي.

- مالك بن الحارث الأشتر النخعي.

- محمد بن أبي بكر قتل ووضع في جيفة حمار ثم أحرق [49].

 وبعد هلاك معاوية خلفه ابنه يزيد (عليهما لعائن الله) فصنع الأعاجيب في أمة الإسلام من قتل السبط الشهيد (سلام الله عليه) إلى إباحة مدينة النبي (صلى الله عليه وآله)وقتل مئات الأصحاب والتابعين وقرّاء القرآن ثم إحراق الكعبة بالمنجنيق، وما أن انتهت هذه الحقبة المظلمة حتى جات خلافة بني العباس فأوغلوا في دماء شيعة آل البيت حتى قال الشاعر:

تالله ما فعلت أمية فيهم **** معشار ما فعلت بنو العباس

واستمر نزف دماء شيعة آل البيت (عليهم السلام) إلى يومنا هذا، فإلى الله ورسوله المشتكى.

وقد ورد في هذا السبب روايات كثيرة ونقتصـر على ذكر هذه الرواية الشريفة، فقد روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (سألته عن قول الله عز وجل (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما ) قال من قتل مؤمنا على دينه فذلك المتعمد الذي قال الله:(وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً)، قلت: فالرجل يقع بينه وبين الرجل شيء فيضربه بسيفه فيقتله؟ قال: ليس ذلك التعمد الذي قال الله)[50]

2- القتل بسبب قومي أو قبلي (السبب العشائري):

 وهو أيضا من أسباب القتل الشائعة والتي لا تقل أهمية عن السبب الديني، فإن الناس كما تأخذهم الحمية لدينهم كذلك تأخذهم الحمية لقوميتهم وقبيلتهم، وقد جاء الإسلام ليهذب نفوس الناس ويغير أخلاق الجاهلية التي توارثوها فيما بينهم توارثَ المال والجاه، فمن أخلاقهم قتل البنت (وَإِذَا بُشّـِرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشّـِرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ) [51]، وقوله تعالى:(وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)[52] روي عن سول الله (صلى الله عليه وآله): من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية[53]، وقال (صلى الله عليه وآله): من قاتل تحت راية عمية[54] يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصـر عصبة، فقتل، فقتلة جاهلية [55]، وروي عنه (صلى الله عليه وآله): (إن الله أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها، كلكم لآدم وحواء كطف [56] الصاع بالصاع، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم..)[57]، وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام): صعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنبر يوم فتح مكة فقال: أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها، ألا إنكم من آدم (عليه السلام) وآدم من طين، ألا إن خير عباد الله عبد اتقاه، إن العربية ليست بأب والد ولكنها لسان ناطق، فمن قصـر به عمله لم يبلغه حسبه [58]، وروي عن الإمام علي (عليه السلام): أطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية وأحقاد الجاهلية، فإنما تلك الحمية تكون في المسلم من خطرات الشيطان ونزواته ونزغاته ونفثاته[59][60].

قال ابن خلدون: إن عصبية الجاهلية في أول الإسلام، ثم عادت كما كانت، فقاموا - بنو أمية - بأعمال تسير على هذه السياسة الخارجة عن حدود الدين والشـرع، مثل تأمير العرب، وتقديم العربي ولو كان خاملا على الكفوئين من غير العرب، والسعي في تعريب كل شرائح وأجهزة الدولة، بتنصيب العرب في مناصب الديوان، والقضاء، وحتى الفقه، وتجاوزوا كل الأحكام الشرعية في التزامهم بأساليب الحياة العربية الجاهلية، فتوغلوا في اللهو والاستهتار بالمحرمات، والظلم، والقتل، حتى تجاوزوا أعرافا عربية سائدة بين العرب قبل الإسلام، فخانوا العهد، وأخفروا الذمة، وهتكوا العرض، ولقد بلغت تعدياتهم أن كان معاوية: يعتبر الناس العرب، ويعتبر الموالي شبه الناس! وقد استغل الجاهلون هذا الوضع، فكان العرب لا يزوجون الموالي.

وجاء في بعض المصادر أن حاكم البصرة - بلال بن أبي بردة - ضرب شخصا من الموالي، لأنه تزوج امرأة عربية، ووصلت عدوى هذا المرض إلى علماء البلاط أيضا فاتبعوا سياسة الأسياد، فقد وجهت إلى الزهري تهمة أنه لا يروي الحديث عن الموالي، فسئل عن ذلك ؟ فاعترف به [61].

 والقتل القبلي أو العشائري من المشاكل الاجتماعية خصوصا في المجتمعات ذات الطابع القبلي أو العشائري والذي تضعف فيه سلطة القانون أو تغيب، وكذلك في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل، على أن القصاص من الجاني وإن كان حقاً من حقوق أهل الدم والقتيل إلا أن القصاص له ضوابط يرجع فيها إلى الحاكم الشرعي ولا يحق لأي أحد أن يسفك دم مسلم إلا بحق، فقد يتمادى الإنسان في طلب ثأره إلى قتل إنسان بريء بنزعة قبيلة أو عشائرية فيكون قاتلا للنفس التي حرم الله، مستحقا لعقابه والخلود في نار جهنم، روى الوشاء قال سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لعن الله من قتل غير قاتله ومن ضرب غير ضاربه [62]) وورد عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن أعتا الناس على الله من قتل غير قاتله ومن ضرب من لم يضربه)[63]

ومن الممارسات المترتبة على المجتمع القومي أو القبلي القتل طلبا للثأر ورفعا للعار، فنظام الثأر يسود في المجتمعات الانقسامية أي تلك المجتمعات التي يقوم تنظيمها الاجتماعي على ثلاثة أسس هي رابطة الدم، ورابطة المكان، وعدم وضوح التفاضل الاجتماعي والاقتصادي بين الجماعات المكونة لذلك المجتمع، فبعض الناس شديد التقدير لذاته إلى حد المبالغة، إلا أنه مع ذلك شديد الانصياع لقبيلته ولمعاييرها الجماعية، حيث إن القوى التي تشكل قانون ونظام الثأر في المجتمعات البدائية هي خضوع أفراد المجتمع للتقاليد والعادات بطريقة لا إرادية تتسم بالعبودية خوفا من نبذ القرابة من ناحية واحتقار باقي جماعات المجتمع من ناحية أخرى، وتقدس معايير القبيلة أو العشيرة، عادة الأخذ بالثأر ومشروعيتها، حيث تعلي من شأن من يأخذ بثأره وتحط من كرامة ومكانة من يهون من سلطانه، وتعد الضغوط الاجتماعية هي أهم آليات القبيلة والعشيرة لإجبار الفرد على الالتزام بكل ما جاء بمبادئ الأخذ بالثأر دون إخضاعه للمناقشة، لذا فإن مرتكبي جرائم الثأر هم أشخاص أسوياء،من وجهة نظر قبائلهم وعشائرهم والمجتمع الذي يعيشون فيه، إلا أن نفس الأشخاص يعدون بمثابة أشخاص مجرمين من وجهة نظر القانون الجنائي والحكم الشرعي.

3- القتل بسبب الحسد

قال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ...).[64] الحسد القاتل: أي: يُحاول الحاسد بنفسه أو بأعوانه إزالة النعمة عن محسوده بقتله والتخلص منه، وقد ينجح في ذلك وقد يفشل، ومن أمثلة الحسد القاتل:

أ- قتل قابيل لهابيل حسداً:

قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَ قْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ)[65]. ذلك أن قابيل تملكه الحسد على أخيه هابيل، وقال تعالى: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[66]، فسولت لقابيل نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من النادمين، (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً)[67].

ب- عزم إخوة يوسف قتله حسداً:

قال تعالى: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ)[68] فأولاد يعقوب (عليه السلام) حسدوا أخاهم يوسف (عليه السلام) بسبب محبة أبيهم له أكثر منهم. ولذا فقد همّوا بقتله ليخلوا لهم وجه أبيهم، فالحسد إذن من الأسباب التي تدعو للقتل.

ج- محاولات اليهود قتل النبي حسداً:

قال تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ)[69]، فقد حسد اليهود الموجودون في المدينة النبي محمداً(صلى الله عليه وآله)، حسدهم له، دفعهم إلى تكذيبه، والكفر به، والطعن فيه، وإثارة الشبهات عليه، ومحاربته وتأليب الأحزاب عليه، ومحاولة قتله اغتيالاً عدة مرات، كان آخرها عندما دسوا له السم في الشاة المسمومة في غزوة خيبر.

د- قتل الأئمة (عليهم السلام) من قبل أعدائهم:

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ) [70] المراد بالناس في قوله تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) إنما هو الأئمة (عليهم السلام) (مِنْ فَضْلِهِ) يعني الخلافة بعد النبوة (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ) يعني النبوة (وَالْحِكْمَةَ) يعني الفهم والقضاء (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) يعني الطاعة المفروضة كذا ورد عنهم (عليهم السلام) [71]، وروى الكناني قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) نحن قوم فرض الله طاعتنا لنا الأنفال ولنا صفو المال ونحن الراسخون في العلم ونحن المحسودون الذين قال الله تعالى(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ)[72].

4- القتل بسبب الطمع:

كالقتل طمعا في المال أو الجاه أو السلطة أو الزواج بفتاة أو العكس وكل ذلك من آثار ابتعاد الإنسان عن الله تعالى والإيمان بما قسم وإن كان على حساب حياة إنسان، ففي الحديث، عن الإمام أبي جعفر A: بئس العبد عبد له طمع يقوده، وبئس العبد عبد له رغبة تذله[73].

وعن سعدان عن أبي عبد الله(عليه السلام): قال: قلت: ما الذي يثبت الإيمان في العبد؟ قال: الورع، والذي يخرجه منه؟ قال: الطمع[74].

5- الجهل وضغوط الحياة:

ونعني بالجهل أن يجهل الإنسان عظمة خلق الروح فيتعدى على القانون الإلهي ويعمدُ على إزهاقها فيقتل غيره او يقتل نفسه بان ينتحر، والانتحار حرام بأي شكل كان، وهو من الكبائر، لورود النهي عنه في الكتاب العزيز كما سيأتي، روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (من قتل نفسه متعمدا فهو في نار جهنم خالدا فيها)[75]، وقد يعمد بعض الناس ممن ضعف ايمانه وتزلزل يقينه جراء ضغط الحياة وصعوباتها وقسوتها الى تعدي حدود الله وقتل نفسه وإزهاق روحه التي حرم الله قتلها مهما عظُمت بليته وصعبت حياته فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (إن المؤمن يبتلى بكل بلية ويموت بكل ميتة إلا أنه لا يقتل نفسه)[76]، قال تعالى:(وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)[77]، فظاهر الآية أنها تنهى عن قتل الإنسان نفسه، ولكن ببعض القرائن يظهر أنها مطلقة تشمل الانتحار الذي هو قتل الإنسان نفسه كما تشمل قتل الإنسان غيره من المؤمنين، وربما أمكن أن يستفاد من ذيل الآية أعني قوله: (إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) أن المراد من قتل النفس المنهي عنه ما يشمل إلقاء الإنسان نفسه في مخاطرة القتل والتسبيب إلى هلاك نفسه المؤدي إلى قتله وذلك أن تعليل النهي عن قتل النفس بالرحمة لهذا المعنى أوفق وأنسب كما لا يخفى ويزيد على هذا معنى الآية عموما أن هذه الملائمة بعينها تؤيد كون قوله إن الله كان بكم رحيما تعليلا لقوله ولا تقتلوا أنفسكم فقط.

وأما قوله تعالى (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً) ، فالعدوان: مطلق التجاوز سواء كان جائزا ممدوحا أو محظورا مذموما، قال تعالى: (فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) [78]، وقال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[79] فهو أعم موردا من الظلم ومعناه في الآية تعدي الحدود التي حدها الله تعالى، والاصطلاء بالنار: الاحراق بها، وفي الآية من حيث اشتمالها على قوله: (ذَلِكَ) التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)تلويحا إلى أن من فعل ذلك منهم وهم نفس واحدة والنفس الواحدة لا ينبغي لها أن تريد هلاك نفسها فليس من المؤمنين فلا يخاطب في مجازاته المؤمنون وإنما يخاطب فيها الرسول المخاطب في شأن المؤمنين وغيرهم ولذلك بنى الكلام على العموم فقيل ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه ولم يقل ومن يفعل ذلك منكم[80]، وذيل الآية أعني قوله: (وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) يؤيد أن يكون المشار إليه بقوله: (ذلك) هو النهي عن قتل الأنفس بناء على كون قوله: (إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) ناظرا إلى تعليل النهى عن القتل فقط لما من المناسبة التامة بين الذيلين، فإن الظاهر أن المعنى هو أن الله تعالى إنما ينهاكم عن قتل أنفسكم رحمة بكم ورأفة وإلا فمُجازاته تعالى لمن قتل النفس بإصلائه النار عليه يسير غير عسير [81].

6- القتل بسبب تناول المسكرات

من الأسباب التي تقود الإنسان لقتل النفس شرب الخمر فهو مفتاح كل شر ويحجب العقل عن أي دور، مما يمنع الإنسان عن التمييز بين الخير والشر فيرتكب عظائم الأمور وهو لا يشعر بنفسه، وكما هو في هذه الرواية، فقد روي أن الإمام الباقر (عليه السلام) أقبل في المسجد الحرام، فنظر إليه قوم من قريش فقالوا: من هذا؟.. فقيل لهم: إمام أهل العراق، فقال بعضهم لو بعثتم إليه بعضكم فسأله.. فأتاه شاب منهم فقال له يا عم ما أكبر الكبائر؟.. فقال: شرب الخمر، فأتاهم فأخبرهم، فقالوا له: عد إليه، فعاد إليه.. فقال له: ألم أقل لك يا بن أخ شرب الخمر؟.. إن شرب الخمر يُدخل صاحبه في الزنا، والسرقة، وقتل النفس التي حرّم الله عز وجل، وفي الشرك بالله عز وجل.. وأفاعيل الخمر تعلو على كل ذنب، كما تعلو شجرها على كل شجر [82].

7- القتل لأسباب سياسية أو اقتصادية:

وله صور كثيرة لا يناسب ذكرها مع هذا الإيجاز،منها الاغتيال: وهو لغة مِن اغتالَ: يغتال، اغتيالاً، والغِيلة: الخَدِيعة والاغْتِيال، وقُتِل فلان غِيلة: أَي خُدْعة، وهو أَن يَخْدَعَهُ، فيذهب به إِلى موضع، فإِذا صار إِليه قتله. قال الأصمعي: قتل فلان فلاناً غيلة، أي في اغتيال وخفية، وقيل: هو أن يخدع الإنسان حتى يصير إلى مكان قد استخفى له فيه من يقتله . وتطلق الغِيلة في آلام العرب بمعنى: إِيصال الشَّرّ، والقتل إِليه من حيث لا يعلم ولا يشعُر، وقتله غِيلة: إِذا قتله من حيث لا يعلم[83].

والاغتيال مصطلح يستعمل لوصف عملية قتل منظمة ومتعمدة تستهدف شخصية مهمة ذات تأثير فكري أو سياسي أو عسكري أو قيادي، ويكون مرتكز عملية الاغتيال عادة أسباب عقائدية أو سياسية أو اقتصادية أو انتقامية تستهدف شخصية مهمة يعتقد منظموا الاغتيال أنها عائق لهم في طريق انتشار أوسع لأفكارهم أو أهدافهم. والاغتيال يدخل في أنه عملية قتل قد حرمها ديننا الحنيف كغيره من صور قتل النفس بالباطل والمحرم كما يستفاد من عمومات الروايات الشـريفة، ومنه الاغتيال لسبب سياسي فقد جرى هذا النوع من القتل بحق أفراد او شخصيات هامة من المجتمع وتدل هذه الطريقة من القتل المحرم على تقهقر الأمم والجماعات التي تلجأ إليها واستقصاء صوره خارج عن محل البحث.[84]

8- القتل بسبب العار:

قال تعالى:(وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)[85] وأد يئد مقلوب من آد يئود أودا ثقل قال تعالى:(وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا)[86]، أي: يثقله: لأنه إثقال بالتراب يعني الجارية المدفونة حيا، وكانت المرأة إذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة، وقعدت على رأسها، فإن ولدت بنتا رمت بها في الحفرة، وإن ولدت غلاما حبسته، ومعنى قوله: (سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) أن الموءودة تسأل فيقال لها: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ، ومعنى سؤالها توبيخ قاتلها، لأنها تقول: قتلت بغير ذنب. ويجري هذا مجرى قوله سبحانه لعيسى (عليه السلام): (أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ)[87] على سبيل التوبيخ لقومه وإقامة الحجة عليهم، عن الفراء. وقيل: إن معنى (سئلت) طولب قاتلها بالحجة في قتلها، وسئل عن سبب قتلها، فكأنه قيل: والموؤدة يسأل قاتلها بأي ذنب قتلت هذه، ونظيره قوله:(إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً)[88] أي مسؤولا عنه يوم القيامة ، وعلى هذا فيكون القتلة هنا هم المسؤولين على الحقيقة، لا المقتولة، وإنما المقتولة مسؤول عنها [89]، وروي أن رجلا قال: يا رسول الله: ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت، فقد كانت لي في الجاهلية ابنة، فأمرت امرأتي أن تزينها، فأخرجَتْها إليّ، فانتهيت بها إلى واد بعيد القعر، فألقيتها فيه، فقالت: يا أبتي قتلتني، فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء[90]. قال تعالى:(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً).[91] الإملاق الإفلاس، ومنه الملق والتملق لأن المفلس يتملق لأرباب المال طمعا في العطية، (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) أي لا تدفنوا بناتكم حيّة (مِنْ إِمْلاقٍ) من أجل فقر، والإملاق نفاذ الزاد والنفقة، من الملق وهو بذل المجهود في طلب المراد (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وإِيَّاهُمْ) لا أنتم، فلا تخافوا الفقر بناء لعجزكم عن تحصيل الرزق، وهذا هو الحكم الثالث من الأحكام التسعة. وإنّما حرّم الله قتل الأولاد للظلم، ولما فيه من هدم بنيان الله، وملعون من هدم بنيانه، وفيه إبطال ثمرة شجرته وقطع نسله وترك التوكّل في أمر الرزق يؤدّي إلى تكذيب الله لأنّه قال:(وما مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى الله رِزْقُها )[92] [93].

 


[1] سورة البقرة: آية 216.

[2] سورة الحج: آية 78 .

[3] سورة النساء: آية 74.

[4] نهج البلاغة ، الحكمة 244

[5] تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج6، ص12

[6] كتاب الكافي ج5، ص54

[7] قرف على نفسه: بغى عليها وظلمها أي: باكتساب الذنوب والآثام.

[8] المضمضة : تحريك الماء في الفم وغسل الإناء وغيره وفى كل منهما تنظيف .

[9] وحقيقتها شهادة الملائكة للقتيل بأنه من أهل الجنة إذا بذل مهجته في طاعة الله مجتهدا، ووطن نفسه على ألم الجراح والثبات للقاء صابرا محتسبا.

[10] الضجاج بكسر الضاد : المشاغبة والمشارة .

[11] ابن دارة : شاعر هجا قوما فقتلوه فمحا قتله كل ما فاله في هجائهم .

[12]- الموص : الغسل اللين والدلك باليد ، ويقال منه ماص يموص .

[13]- المجازات النبوية ص 214 بتصرف .

[14] راجع ذلك في : تاريخ الخميس ج 1 ص 366 ، والسيرة النبوية لدحلان ( بهامش الحلبية ) ج 1 ص 363 ، والسيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 254 و 255

[15] الغدير ج10 ص 53

[16] أنظر ترجمة الحسن بن سليمان في كتاب تكملة أمل الآمل - السيد حسن الصدر - ترجمة رقم 98

[17]  آل عمران: آية 200

[18]  ميزان الحكمة ج1 هامش ص449، كنز العمال: 10508 ، 10510 ، 10611، 10714، 10730

[19]  تفسير البرهان المقدمة

[20]  مستدرك سفينة البحار، باب الامر بالرباط (عليهم السلام)

[21]  الاحتجاج للطبرسي ، الفصل الأول .

[22] أمالي الصدوق : ص 233.

[23] الكافي  ج5 ص 52 / 1 / 1 (محمد عن)  التهذيب ج 6 ص 167 / 2 / 1

[24]الكافي: ج5 ص 52 ح 2 / 1 التهذيب - 6 / 167 / 3 / 1

[25] الكافي: ج5 : ص 52 ح 3 / 1 محمد عن، التهذيب ،ج 6 ص 167 / 5 / 1

[26] نفس المصدر: ج 5 ص 52 ح 4 / 1 محمد عن التهذيب ج 6 ص 166 / 1 /1

[27] سورة الإسراء : آية 33

[28]سورة المائدة: آية  33   .

[29] مقالات فقهية ص 109

[30]  الكافي ،ج 6 ص 174 / 2 / 1 الكافي ج  7 ص 153 / 4 / 1 التهذيب ج 8 ص 91 / 75 / 1

[31] الكافي ،ج 6 : ص 551 ب 5 ح 4

[32] الوسائل : ج 18 ، الباب 2 من أبواب مقدمات الحدود ، الحديث 1 : 310 .

[33] فقه الصادق ج 25 ص454

[34] فقه الإمام جعفر الصادق ج6 ص 278

[35] مباني تكملة المنهاج ص 322

[36]- الكافي، ج 7 ص 260 / 1 / 1 التهذيب، ج 10 ص 147 / 14 / 1

[37]- التهذيب ، ج 6 ص 283 / 77 / 1

[38] التهذيب  ج 10 ص 147 / 17 / 1

[39] مباني تكملة المنهاج ص 322

[40] وسائل الشيعة : ج 18 ص 555 ب 7 من أبواب حدّ المرتدّ ح 2 .

[41] مباني تكملة المنهاج ص 322

[42] سورة المائدة: آية 45

[43] سورة البقرة: آية 179

[44] المائدة: آية 25.

[45] سورة المائدة: آية 32

[46]سورة المائدة: آية 32

[47] الكافي 7 : 271 / 1

[48] سورة الإسراء  : آية 33

[49] راجع : تاريخ الطبري ج 5 /253 - 280 و95 - 105، عيون الأخبار لابن قتيبة ج 1 /147، الكامل في التاريخ لابن الأثير ج3 /352 - 357 و ج 3 ص 472 - 48، الغدير للأميني ج 11 / 37 - 70، أحاديث أم المؤمنين عائشة للعسكري ق 1 ص 258 - 260 .

[50] الفقيه ج 4 ص97 - 5171

[51]  سورة النحل: الآية 58 ، 59 .

[52]  سورة التكوير: الآية 8 و 9 .

[53] الكافي: 2 / 308 / 3 ،

[54] العمية قيل: هو فعيلة، من العماء: الضلالة ، وحكى بعضهم فيها ضم العين (النهاية: 3 / 304 ) .

[55] العقل والجهل للريشهري، هامش ص 254

[56] طف الصاع: أي قريب بعضكم من بعض ، والمعنى: كلكم في الانتساب إلى أب واحد بمنزلة واحدة النهاية: 3 / 129

[57] فسير الدر المنثور : 7 / 579 نقلا عن البيهقي عن أبي أمامة .

[58]  الكافي : 8 / 246 / 342 ، معاني الأخبار : 207 / 1 كلاهما عن حنان عن أبيه ، الفقيه : 4 / 363 / 5762 .

[59] نفث الشيطان: هو ما يلقيه في قلب الانسان ويوقعه في باله مما يصطاده به ( مجمع البحرين : 3 / 1808 )

[60]  نهج البلاغة : الخطبة 192 .

[61] الجامع لأخلاق الراوي ، للخطيب ج1 / 192.

[62] الكافي  7 ص 274 / 3 / 1

[63]- الكافي ج 7 ص274 - 2 - 1

[64] سورة البقرة : آية 109

[65] سورة المائدة : آية 27

[66] سورة المائدة : آية 30

[67] سورة المائدة: آية 32

[68] سورة يوسف : الآيات 8-9.

[69] سورة النساء: آية54.

[70]سورة  النساء: آية54 .

[71] الوافي ج4 ص487

[72] الكافي ، ج1 ص 186 / 6 / 1 - التهذيب ،ج 4 ص 132 / 1 / 1

[73] المصدر السابق: ج2 ص320.

[74] المصدر السابق.

[75] الفقيه ج 4 ص 95 / 5163

[76] الكافي ، ج2 ص 254 ب12/1

[77] سورة النساء  29 : آية 30

[78] سورة البقرة: آية 193

[79] سورة المائدة: آية 2

[80] في كلام السيد الطباطبائي vهنا نوع خفاء ويحتاج إلى توضيح، وحاصل بيانه يتوقف على أمرين:

الأمر الأول: إن اسم الاشارة (ذلك) أصله (ذا) والكاف في آخره حرف خطاب يلاحظ فيه المخاطب افراداً وتثنية وجمعا، وتذكيراً وتأنيثاً، كما أن (ذا) يلاحظ فيه المشار إليه من هذه الجهات أيضاً، ولما كان المخاطب في هذا الكلام هم المؤمنون أنفسهم كان اللازم في الكاف التي تلحق اسم الإشارة أن تطابق المخاطبين فيكون لجمع الذكور ويكون بهذا الشكل (ذلكم) مع أنه ورد في الآية (ذلك).

الأمر الثاني: إن من أساليب البلاغة في كلام العرب نوعاً يسمى (الالتفات) وهو تحويل سياق الكلام من كون الضمير فيه إلى الغائب مثلاً إلى كونه للمخاطب أو العكس، أو من كونه لواحد إلى كونه للمجموع أو العكس، وهو من أساليب البلاغة التي تفيد معنى آخر في ضمن الكلام، ليس هنا محل شرحه وبيان دقائقه ونكاته البلاغية.

بعد بيان هذين الأمرين نرجع إلى كلام السيد الطباطبائي v حيث قال: إن قوله تعالى (ذلك) وليس (ذلكم) فيه إلتفاف وتحويل لسياق الكلام من مخاطبة الجمع وهم المؤمنون المعبر عنهم ) وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ) إلى المخاطب الواحد وهو النبي (صلى الله عليه وآله)، وفيه تلويح إلى معنى، وهذا المعنى هو الغرض من الإلتفات، والمراد منه أن من أراد قتل أحد المؤمنين فليس يستحق أن يكون منهم وكذلك لا يستحق أن يخاطبه الله تعالى بل يخاطب النبي  (صلى الله عليه وآله) إعراضاً عن خطابه.

[81] الميزان ج4ص321

[82] الكافي 6-429ص358

[83] مختار الصحاح، (د، ط)، بيروت، مكتبة لبنان ناشرون، 1995 م.

[84] محمد لطفي جمعة - مجلة الرابطة العربية

[85] سورة التكوير: آية 8-9

[86] سورة البقرة : آية 255

[87]سورة المائدة: آية 116.

[88] سورة الإسراء: آية 34.

[89] مجمع البيان ج10 ص287

[90] التفسير الكاشف ج4 ص523

[91] سورة الإسراء : آية 31

[92] سورة هود: آية 7.

[93] مقتنيات الدرر-ج4 ص385