علاج الغيبة

إن الطريق في علاج كف اللسان عن الغيبة يقع على وجهين أحدهما مجمل والآخر مفصل.

أما علاج الغيبة اجمالاً، فيمكن بيانه في النقاط التالية:

1- مضافا إلى ذم الغيبة الوارد في الآيات والروايات فإن العقل أيضا حاكم بأن الغيبة أخبث الرذائل، وقد كان السلف لا يرون العبادة في الصوم والصلاة، بل في الكف عن أعراض الناس، لأنه كان عندهم أفضل الأعمال، ويرون خلافه صفة المنافقين، ويعتقدون أن الوصول إلى المراتب العالية في الجنة يتوقف على ترك الغيبة، لما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (من حَسُنت صلاتُه وكثُر عيالُه، وقلَّ مالُه ولم يغتبْ المسلمين، كان معي في الجنة كهاتين) [1].

2- أن يتذكر مفاسدها الأخروية والتي ذكرت بعضها الآيات والروايات المتقدمة، بأن يعلم انه بغيبته سوف يتعرض لسخط الله تعالى، وأن يعلم بأن الغيبة تحبط حسناته؛ فإنها تنقل في القيامة حسناته إلى من اغتابه بدلا عما أخذ من عرضه، فإن لم يكن له حسنات نقل إليه من سيئاته.

ولا ريب في أن العبد يدخل النار إذا ترجحت كفة سيئاته، وربما تنقل إليه سيئة واحدة مما اغتاب به مسلما، فيحصل به الرجحان ويدخل لأجله النار، وأقل ما في المقام أن ينقص من ثواب صالحات أعماله، وذلك بعد المخاصمة والمطالبة والسؤال والجواب والمناقشة في الحساب وهذه كلها من شدائد يوم القيامة.

وروي عن بعضهم: (أن رجلا قيل له: إن فلانا قد اغتابك، فبعث إليه طبقا من رطب، وقال: بلغني أنك قد أهديت إلي من حسناتك، فأردت أن أكافيك عليها، فاعذرني، فإني لا أقدر أن أكافيك على التمام) وهو مع ذلك متعرض لمقت الله تعالى ومشبه عنده بأكل الميتة، إلى غير ذلك من المفاسد.

3- أن يتذكر مفاسدها في الدنيا، فإنه قد تصل الغيبة إلى من اغتيب، فتصير منشأ لعداوته أو لزيادة عداوته، فيتعرض لإيذاء المغتاب وإهانته، وربما انجر الأمر بينهما إلى ما لا يمكن تداركه من الضرب والقتل وأمثال ذلك.

4- وينفعه أن يتذكر عيوب نفسه ولا يغفل عنها، فيتجسس على عيوب إخوانه، ويظهرها بين الناس، فما باله يبصر القذى في عين أخيه، ولا يبصر الجذع في عينه.

 فإذا أردت أن تذكر عيوب غيرك، فتذكر عيوبك، وتيقّن بأنك لن تصيبَ حقيقةَ الإيمان، حتى تمتنع من أن تعيب الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بإصلاح ذلك العيب في نفسك. وإذا كان شغلك إصلاح عيوب نفسك، لم تكن فرصة للاشتغال بغيرك، ففي الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره)[2]، وطوبى لمن أشغلته عيوبه عن عيوب الناس، وحينئذ كنت من أحب العباد إلى الله لقول النبي(صلى الله عليه وآله): (طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب المؤمنين من إخوانه)[3].

فيجب أن يتدبر الإنسان في نفسه فإن وجد فيها عيبا، فينبغي أن يستحيي من أن يترك نفسه ويذم غيره، بل ينبغي أن يعلم أن عجز الغير في التنزه عن ذلك العيب كعجزه إن كان ذلك عيبا يتعلق بفعله واختياره، وإن كان أمرا خَلْقيا فالذم له ذم للخالق، فإن من ذم صنعة فقد ذم الصانع، قال رجل لبعض الحكماء يا قبيح الوجه فقال (ما كان خَلق وجهي إلي فأحسّنه).

وإن لم يجد عيبا في نفسه فليشكر الله ولا يلوث نفسه بأعظم العيوب فإنّ ذِكْر عيوب الناس وأكْل لحم الميتة من أعظم العيوب فيصير حينئذ ذا عيب، بل لو أنصف من نفسه؛ لعلم أنّ ظنّه بنفسه أنه بريء من كل عيب هو حقيقة الجهل بنفسه وهو من أعظم العيوب.

5- وينفعه أن يعلم أنّ تألم غيره بغيبته كتألمه بغيبة غيره له، فإذا كان لا يرضى لنفسه أن يغتاب فينبغي أن لا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه، فعن المعلى بن خنيس، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قلت له: ما حق المسلم على المسلم؟ قال:... أيسر حق منها أن تحب له ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك)[4].

6- إن العاقل ينبغي أن يتأمل في أن من يغتابه إن كان صديقا ومحبا له، فإظهار عيوبه وعثراته بعيد عن المروة والإنصاف، وإن كان عدوا له، فتحمل خطاياه ومعاصيه ونقل حسناته إلى ديوانه غاية الحماقة والجهل.

7- وبعد ذلك فليراقب لسانه، ويقدم التروي في كل كلام يريد أن يتكلم به، فإن تضمن غيبة سكت عنه، وكلف نفسه ذلك على الاستمرار، حتى يرتفع عن نفسه الميل الجلي والخفي إلى الغيبة.

 فهذه معالجات إجمالية لترك الغيبة.

وأما علاج الغيبة تفصيلاً:

 فهو أن ينظر إلى السبب الباعث له على الغيبة ويعالجه، فعلاج العلة بقطع سببها، وقد تقدم بعض الأسباب الباعثة لها، أمّا هنا فنذكر علاجها:

1- أما تشفي الغيظ فيعالجه بأن يقول: إن أمضيتُ غضبي عليه لعل الله تعالى يُمضي غضبه عليَّ بسبب الغيبة، إذ نهاني عنها فتجرأتُ على نهيه واستخفّيتُ بزجره، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن لجهنم بابا لا يدخلها إلا من شفى غيظه بمعصية الله تعالى)[5].

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (من خاف الله لم يشف غيظه)[6].

وعن إسحاق بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إن في التوراة مكتوبا: يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرْكَ عند غضبي، فلا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظلمت بمظلمة فارضَ بانتصاري لك، فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك)[7].

2- وأما الموافقة فبأن تعلم أن الله تعالى يغضب عليك إذا طلبت سخطه في رضا المخلوقين، فكيف ترضى لنفسك أن تترك رضا ربك لرضا بعض أراذل الناس؟ وهل هذا إلا كونه تعالى أهون عندك منهم؟ وهو ينافي الإيمان، إلا أن يكون غضبك لله تعالى وذلك لا يوجب أن تذكر المغضوب عليه بسوء بل ينبغي أن تغضب لله أيضا لرفقائك إذا ذكروه بالسوء فإنهم عصوا ربك بأفحش الذنوب وهو الغيبة.

3- وأما استشعاره من رجل أنه يُقبّح حاله عند شخص محترم لا يرغب في ذكر عيوبه أمامه أو يشهد عليه بشهادة فيبادره بالغيبة إسقاطا لأثر كلامه، فعلاجه أن يعلم:

أولاً: إن مجرد الاستشعار لا يستلزم الوقوع، فلعله لا يُقبّح حاله ولا يشهد عليه، فالمؤاخذة بمحض التوهم تنافي الديانة والإيمان.

وثانياً: إن اقتضاء قوله وغيبته سقوط أثر كلام من اغتابه في حقه مجرد توهم، والتعرض لمقت الله يقينا بمجرد توهم ترتب فائدة دنيوية عليه محض الجهل والحماقة.

وثالثاً: إن تقبيح حال الشخص عند شخص محترم لا يرغب في ذكر عيوبه أمامه مع فرض وقوعه فإنه يؤدي إلى الإضرار في حيز الشك، إذ ربما لم تقبل شهادته شرعا، فتقبيح حاله وتحمل معاصيه بدون الجزم بصيرورته سببا لإيذائه محض الجهل والخذلان.

4- تنزيه النفس بنسبة ما نُسِبَ إليه من الجناية إلى الغير، فمعالجته أن يعلم أن التعرض لمقت الخالق أشد من التعرض لمقت المخلوق، ومن اغتاب تعرض لمقت الله وسخطه قطعا، ولا يدري أنه يتخلص من سخط الناس أم لا، فتخلص نفسك في الدنيا بالتوهم وتهلك في الآخرة أو تخسر حسناتك بالحقيقة وتحصل على ذم الله نقدا وتنتظر رفع ذم الخلق نسيئة وهذا غاية الجهل والخذلان.

5- وأما عذره بتعرضه لمشاركة الغير في الفعل تمهيدا لعذر نفسه كقوله: إنْ أكلتُ الحرام ففلان يأكل، وإنْ فعلتُ كذا ففلان يفعل كذا، وإن قصّرتُ في كذا من الطاعة ففلان مُقصِّر ونحو ذلك، فهذا جهل لأنه يعتذر بالاقتداء بمن لا يجوز الاقتداء به فإن من خالف أمر الله لا يُقتدى به كائنا من كان ولو دخل غيرُك النار وأنت تقدر على أن لا تدخلها لم توافقه ولو وافقته سُفّه عقلُك فما فعله معصية، وذكره وعذره غيبة، فجمع بين المعصيتين مضافا إلى الجهل الحماقة.

6- وأما قصدك المباهاة وتزكية النفس بزيادة الفضل بأن تقدح في غيرك فينبغي أن تعلم أنك بما ذكرته أبطلت فضلك عند الله، وأنت على خطر من اعتقاد الناس فضلك، وربما نقص اعتقادهم فيك إذا عرفوك تذكر عيوب الناس فتكون قد بعت ما عند الخالق يقينا بما عند المخلوق وهما، ولو حصل لك من المخلوق اعتقاد الفضل لكانوا لا يغنون عنك من الله شيئا.

7- وأما الغيبة للحسد فهو جمع بين عذابين لأنك حسدته على نعمة الدنيا وكنت معذبا بالحسد، فما قنعت بذلك حتى أضفت إليه عذاب الآخرة، فكنت خاسرا في الدنيا وقد جعلت نفسك خاسرة في الآخرة لتجمع بين النكالين، فقد قصدت محسودك وأصبت نفسك وأهديت إليه حسناتك فأنت إذاً صديقه وعدو نفسك إذ لا تضره غيبتك وتضرك وتنفعه إذ تنقل إليه حسنتك أو تنقل إليك سيئته ولا تنفعك، وقد جمعت إلى خبث الحسد جهل الحماقة، وربما يكون حسدك وقدحك سبباً لانتشار فضل محسودك، فقد قيل:

وإذا أراد اللهُ نشرَ فضيلةٍ        طُوِيَتْ أتاحَ لها لسانَ حسودِ

8- وأما الاستهزاء فمقصودك منه إخزاء غيرك عند الناس بإخزاء نفسك عند الله وعند الملائكة والنبيين، فلو تفكّرت في خزيك وحيائك وحسرتك وخجلتك يوم تحمل سيئات من استهزأت به وتُساق إلى النار؛ لأدهشكَ ذلك عن إخزاء صاحبك، ولو عرفت حالك لكنت أولى أن تضحك منه، فإنّك سخرت به عند نفر قليل وعرّضتَ نفسك لأن يؤخذ بيدك يوم القيامة على ملأ من الناس ويسوقك تحت سيئاته كما يساق الحمار إلى النار مُستَهزِأً بك وفرحا بخزيك ومسرورا بنصرة الله إياه وتسليطه على الانتقام.

9- وأما غيبة المؤمن بسبب الرحمة له على إثمه والتعجب منه والغضب لله عليه، وإن كان كلٌّ منها حسنا، إلا أنه إذا لم تكن معه غيبة، وأما إذا كانت معه غيبة، أحبط أجره وبقي إثمها. فالعلاج أن يتأمل أن باعث الرحمة والتعجب والغضب هو الإيمان وحماية الدين، وإذا كان معها غيبة أضرت بالدين والإيمان، وليس شيء من الأمور الثلاث ملزوما للغيبة لإمكان تحققه بدون الغيبة فمقتضى الإيمان وحماية الدين أن يترحم ويتعجب ويغضب لله، مع ترك الغيبة وإظهار الإثم والعيب، ليكون مأجورا غير آثم.

وبالجملة فعلاج جميع ذلك المعرفة والتحقيق لها بهذه الأمور التي هي من أبواب الإيمان فمن قوي إيمانه بجميع ذلك انكف عن الغيبة لا محالة[8].

 


[1] جامع السعادات: ج2، ص235.

[2] نهج البلاغة: ج4، ص81.

[3] وسائل الشيعة: ج15، ص289.

[4] وسائل الشيعة: ج12، ص205.

[5] تنبيه الخواطر: ج1، ص121.

[6] غرر الحكم: 8158.

[7] الكافي: ج2، ص303.

[8] كشف الريبة عن أحكام الغيبة، الشهيد الثاني: ص26.