لقد توفرت في شخصية الإمام أبي جعفر (عليه السلام) جميع الصفات الكريمة التي أهّلته لزعامة هذه الأمة، حيث تميّز هذا الإمام العظيم بمواهبه الروحية والعقلية العظيمة، وفضائله النفسية والأخلاقية السامية، ممّا جعل صورته صورة متميّزة بين العظماء والمصلحين، كما تميّز بحسبه الوضّاح، بكل ما يمكن أن يسمو به هذا الإنسان.
كان الإمام محمّد بن علي الباقر (عليه السلام) جامعاً للكمالات الإنسانية في سيرته وسلوكه، فكان أهلاً للإمامة الكبرى بعد أبيه زين العابدين (عليه السلام)، وما دوّنته كتب التاريخ من فضائله الجمّة هي غيض من فيض، ونشير إلى شيء يسير منها فيما يلي:
حلمه (عليه السلام):
كان الحلم من أبرز صفات الإمام أبي جعفر (عليه السلام) فقد أجمع المؤرخون على أنه لم يسىء إلى من ظلمه واعتدى عليه، وإنما كان يقابله بالبر والمعروف، ويعامله بالصفح والإحسان، وقد رويت صورٌ كثيرة تُعبّر عن عظيم حلمه، كان منها: (أن رجلاً كتابياً هاجم الإمام (عليه السلام) واعتدى عليه، وخاطبه بمرّ القول: «أنت بقر!»
فلطف به الإمام، وقابله ببسمات طافحة بالمروءة قائل: «لا أنا باقر»
وراح الرجل الكتابي يهاجم الإمام قائل: «أنت ابن الطبّاخة!»
فتبسّم الإمام، ولم يثره هذا الاعتداء بل قال له: «ذاك حرفتها».
ولم ينته الكتابي عن غيّه، وإنما راح يهاجم الإمام قائل: «أنت ابن السوداء الزنجية البذية!»
ولم يغضب الإمام (عليه السلام)، وإنما قابله باللطف قائل: «إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك».
فبُهت الكتابي، وانبهر من أخلاق الإمام (عليه السلام) التي ضارعت أخلاق الأنبياء، فأعلن إسلامه واختار طريق الحق)[1].
الفضل ما شهدت به الأعداء:
لقد سما أهل البيت (عليهم السلام) بأخلاقهم وآدابهم حتى إن مبغضيهم كانوا يحضرون مجالسهم ويتأثرون بأخلاقهم، وهذا ما أراده الأئمة من شيعتهم، أن يكونوا دعاة لهم بغير ألسنتهم، فقد روي أنه كان رجل من أهل الشام يختلف إلى أبي جعفر (عليه السلام) وكان مركزه بالمدينة، يختلف إلى مجلس أبي جعفر (عليه السلام) يقول له: يا محمد ألا ترى أني إنما أغشى مجلسك حياء منك ولا أقول إن أحداً في الأرض أبغض إليَّ منكم أهل البيت، وأعلم أن طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أمير المؤمنين في بغضكم ولكن أراك رجلاً فصيحاً لك أدب وحسن لفظ، فإنما اختلافي إليك لحسن أدبك، وكان أبو جعفر يقول له خيراً ويقول: لن تخفى على الله خافية، فلم يلبث الشامي إلا قليلاً حتى مرض واشتد وجعه فلما ثقل دعا وليه وقال له: إذا أنت مددت علي الثوب فائت محمد بن علي (عليهما السلام)
وسله أن يصلي علي، وأعلمه أني أنا الذي أمرتك بذلك، قال: فلما أن كان في نصف الليل ظنوا أنه قد برد وسجوه، فلما أن أصبح الناس خرج وليه إلى المسجد، فلما أن صلى محمد بن علي(عليهما السلام) وتورك، وكان إذا صلى عقب في مجلسه، قال له: يا أبا جعفر إن فلاناً الشامي قد هلك وهو يسألك أن تصلي عليه، فقال أبو جعفر: كلا إن بلاد الشام بلاد صرد - أي: برد - والحجاز بلاد حر ولهبها شديد، فانطلق فلا تعجلن على صاحبك حتى آتيكم، ثم قام (عليه السلام)
من مجلسه فأخذ (عليه السلام) وضوءاً ثم عاد فصلى ركعتين، ثم مد يده تلقاء وجهه ما شاء الله، ثم خر ساجداً حتى طلعت الشمس، ثم نهض(عليه السلام) فانتهى إلى منزل الشامي فدخل عليه فدعاه فأجابه، ثم أجلسه وأسنده ودعا له بسويق فسقاه وقال لأهله: املؤا جوفه وبردوا صدره بالطعام البارد، ثم انصرف (عليه السلام)، فلم يلبث إلا قليلاً حتى عوفي الشامي فأتى أبا جعفر (عليه السلام)، فقال: أخلني فأخلاه فقال: أشهد أنك حجة الله على خلقه، وبابه الذي يؤتى منه، فمن أتى من غيرك خاب وخسر وضل ضلالاً بعيداً، قال له أبو جعفر: وما بدا لك؟ قال: أشهد أني عهدت بروحي وعاينت بعيني فلم يتفاجأني إلا ومناد ينادي، أسمعه باذني ينادي وما أنا بالنائم: ردوا عليه روحه فقد سألنا ذلك محمد بن علي فقال له أبو جعفر: أما علمت أن الله يحب العبد ويبغض عمله، ويبغض العبد ويحب عمله؟ قال: فصار بعد ذلك من أصحاب أبي جعفر (عليه السلام))[2].
العمل جهاد:
للعمل وطلب الحلال في الشريعة الإسلامية قيمة عليا حتى صار الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله لذلك كان الأئمة يسعون في طلب الحلال والكد على العيال، فقد روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: إن محمد بن المنكدر كان يقول: (ما كنت أرى أن مثل علي بن الحسين يدع خلفا، لفضل علي بن الحسين، حتى رأيت ابنه محمد بن علي، فأردت أن أعظه فوعظني، فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيت محمد بن علي وكان رجلا بدينا وهو متكٍ على غلامين له أسودين أو موليين، فقلت في نفسي شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، أشهد لأعظنَّه، فدنوتُ منه فسلمت عليه فسلم علي بِبُهر[3]، وقد تصبب عرقاً، فقلت: أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال، قال فخلى عن الغلامين من يده، ثم تساند وقال: لو جاءني والله الموت وأنا في هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله تعالى أكف بها نفسي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله، فقلت: يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني)[4].
نهيه (عليه السلام) عن المنكر وإظهار بعض كراماته:
عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن بعض أصحابه عن مبشر بياع الزطي[5] قال أقمت على باب أبي جعفر فطرقته فخرجت إليَّ جارية خماسية فوضعت يدي على يدها وقلت لها: قولي لمولاك هذا مبشر بالباب، فناداني من أقصى الدار: أدخل لا أبا لك ثم قال لي: أما والله يا مبشر لو كان هذه الجدار يحجب أبصارنا كما يحجب عنكم أبصاركم لكنا وأنتم سواء، فقلت: جعلت فداك والله ما أردت إلا الازدياد في ذلك إيمانا)[6].
الحسن بن مختار عن أبي بصير قال: (كنت أُقرِىء امرأة القرآن وأُعلِّمها إياه فمازحتها بشيء، فلما قدمتُ على أبي جعفر (عليه السلام) قال لي: يا أبا بصير أي شيء قلت للمرأة؟ فقلت بيدي هكذا يعني غطيت وجهي، فقال: لا تعودن إليها)[7].
مواساته (عليه السلام) لإخوانه:
عُرِف الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام) بفضله وجوده وإحسانه إلى جميع الناس حتى إلى مبغضيه، مع ما أَلَمَّتْ به من شدائد وحاجات، فقد قال ولده الإمام الصادق (عليه السلام): (كان أبي أقل أهل بيته مالاً وأعظمهم مؤونة وكان يتصدق كل جمعة بدينار وكان يقول: الصدقة يوم الجمعة تُضاعَف لفضل يوم الجمعة على غيره من الأيام)[8].
وعن الحسن بن كثير، قال: (شكوت إلى أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) الحاجة وجفاء الإخوان فقال: بئس الأخ أخ يرعاك غنياً ويقطعك فقيراً، ثم أمر غلامه فأخرج كيساً فيه سبعمائة درهم فقال: استنفق هذه فإذا نفدت فأعلمني)[9].
وعن عمرو بن دينار وعبيد الله بن عبيد بن عمير أنهما قالا: ما لقينا أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) إلا وحمل إلينا النفقة والصلة والكسوة ويقول: هذا معدة لكم قبل أن تلقوني)[10].
وعن سليمان بن قرم قال: كان أبو جعفر محمد بن علي (عليهما السلام)يجيزنا بالخمسمائة إلى الستمائة إلى الألف درهم، وكان لا يمل من صلة إخوانه وقاصديه ومؤمليه وراجيه)[11].
[1] مناقب آل أبي طالب ابن شهر آشوب: ج3، ص 337.
[2] الأمالي للشيخ الطوسي: ص261.
[3] البهر: بالضم انقطاع النفس من الإعياء.
[4] الإرشاد للشيخ المفيد: ص284.
[5] الزط بضم الزاي وتشديد المهملة جنس من السودان أو الهنود، الواحد زطي مثل زنج وزنجي. وفي القاموس: الزط بالضم جيل من الهند معرب جت بالفتح، الواحد زطي.
[6] مناقب آل أبي طالب ابن شهر آشوب: ج3، ص316.
[7] مناقب آل أبي طالب ابن شهر آشوب: ج3، ص316.
[8] وسائل الشيعة للحر العاملي: ج7، ص413.
[9] الإرشاد للشيخ المفيد: ص284.
[10] الإرشاد للشيخ المفيد: ص284.
[11] الإرشاد للشيخ المفيد: ص284.