موارد جواز الغيبة

ذكر الفقهاء جواز الغيبة في عدة موارد، نكتفي هنا بعرض ما ذكره الشيخ الأنصاري في كتاب المكاسب:

غيبة المتجاهر بالفسق: كمن يشرب المسكر علنا في الطرقات، فإن من لا يبالي بظهور فسقه بين الناس لا يكره ذكره بالفسق، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة)[1].

وفي رواية أخرى منقولة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له)[2].

ويجب أن يعلم أن القدر المتيقن من جواز الغيبة في هذا المورد هو ذكره في ما يتجاهر به، أما جواز غيبته في الذنوب الأخرى المستورة فهو غير معلوم، ويجب أن يعلم أيضا أن جواز غيبة المتجاهر بالفسق إنما هو في صورة ما لو كان المتجاهر يعترف بأن عمله ذنب، أما لو أظهر لعمله عذرا صحيحا فإن غيبته غير جائزة، كما لو ادعى أنه يتناول الشراب للدواء والعلاج، وأنه مقلد لشخص يراه جائزا في تلك الصورة، ومثل من يفطر في أيام شهر رمضان بحجة أنه مريض أو مسافر أو بأعذار أخرى قابلة للتصديق، ومثل من يعمل في معونة الظالمين لكن يُبيّن عذره لعمله شريطة أن لا يكون ذلك العذر واضح الفساد كما أن الأحوط عدم استغابة المتجاهر في غير البلد أو المحل الذي يتجاهر فيه.

غيبة الظالم في مقام الشكاية منه وبيان ظلمه لا فيما عدا ذلك: فيجوز للمظلوم غيبته، قال الله تعالى في سورة الشورى: (وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)[3].

وقال تعالى في سورة النساء:(لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ)[4].

وورد عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام) قال: ثلاثة ليس لهم حرمة، صاحب هوى مبتدع، والإمام الجائر، والفاسق المعلن بالفسق)[5].

والأحوط الاقتصار على إظهار التظلم عند من يرجو نصرته واغاثته، أما من يعلم بأنه لا يجيبه أو لا يستطيع أن ينصره فالأحوط أن لا يشتكي عنده من الظالم ولا يذكر ظلمه.

نصح المؤمن المستشير: فتجوز الغيبة بقصد النصح، كما لو استشاره شخص في تزويج امرأة فيجوز نصحه، ولو استلزم إظهار عيبها بل لا يبعد جواز ذلك ابتداء بدون استشارة إذا علم بترتب مفسدة عظيمة على ترك النصيحة.

وهكذا لو استشاره مسلم في معاملة يريد إجراءها مع شخص، وكان في ذلك الشخص عيب، بحيث لو لم يذكره للمستشير لأجرى المعاملة وتورط بضرر ومشقة، جاز له في هذه الصورة أن يذكر العيب لمن استشاره، والحقيقة أن عدم ذكر العيب هنا هو خيانة للمستشير، وعلى ذلك لا مانع من ذكر العيب في هذه الصورة.

ويجب أن يعلم أن الأحوط في هذه المسألة مراعاة أمرين:

أحدهما: أن يكون الضرر في عدم ذكر العيب أكبر، أما إذا كان الأمر على عكس ذلك يعني كان الضرر في هتك الشخص وفضحه أكبر من الضرر الذي يصل إلى المستشير عند إيقاع المعاملة، فاللازم هنا الامتناع عن ذكر العيب.

والآخر: أن يكون مضطرا لذكر العيب من أجل عدم إيقاع المعاملة أما إذا كان بالإمكان منع المستشير عن إيقاع المعاملة من دون ذكر العيب بأن يقول له مثلا: لا أرى صلاحا في هذه المعاملة وكان المستشير يقبل منه ذلك، فحينئذ يجب الاكتفاء بذلك.

الغيبة بقصد النهي عن المنكر: مع اجتماع شرائطه، بمعنى أنه إذا رأى منكرا من مسلم وعلم أنه سوف يتركه إذا اغتابه، وإذا لم يغتبه فسوف يبقى مصرا عليـه جاز له غيبته.

أما إذا كان يحتمل أن ذلك الشخص قد ترك المنكر ولم يصر عليه فغيبته غير جائزة، وكذلك يجب ملاحظة المفسدة الكبرى    - كما في المورد السابق - فإذا كانت مفسدة الغيبة وهتك حرمة ذلك المسلم أكبر من مفسدة نفس المنكر فإن غيبته حينئذ غير جائزة وإن علم يقينا أنه سوف يترك الذنب لو اغتابه.

غيبة الضالين المضلين المبتدعين في دين الله: بقصد فضحهم لئلا ينخدع الناس بهم.

جرح الشهود ومعناه: غيبة الفاسق الذي شهد شهادة: فتجوز غيبته حتى يعرف فسقه فلا تقبل شهادته، وكذلك إذا نقل قولاً وهو فاسق فيغتاب حتى يعلم فسقه فيترك قوله.

ذكر العيب الواضح المشهور مثل غيبة الأعمش والأحول والأعرج وأمثالهم، فعن عبد الرحمن بن سيابة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه، وأما الأمر الظاهر مثل الحِدّة والعجلة فلا، والبهتان أن تقول فيه ما ليس فيه)[6].

ولكن ذكر العيب الواضح المشهور جائز بشرط أن لا يقصد بذلك الانتقاص منهم بل كان يقصد التعريف بهم، وبشرط أن لا يتأذى من ذلك صاحب الوصف، أما إذا كان يتأذى من ذكره بالوصف فيجب الامتناع عنه وتعريفه بوصف آخر.

رد مدعي النسب زورا وكذبا: من حيث إن مصلحة حفظ الأنساب أهم من مفسدة هتك المدعي.

9- ومنها: القدح في المقالات الباطلة: وإن أدى ذلك إلى نقص في قائلها، وقد صدر من جماعة كثيرة من العلماء القدح في القائل بقلة التدبر، والتأمل، وسوء الفهم ونحو ذلك، وكأن صدور ذلك منهم لئلا يحصل التهاون في تحقيق الحقائق.

10- نقل في كتاب كشف الريبة عن بعض الفقهاء أنه إذا رأى اثنان منكرا من شخص جاز لأحدهما نقله للآخر في غياب صاحبه، إذ أن الناقل لا يكشف بذلك أمرا خفيا على السامع، بل ينقل له ما رآه.

وقد ذكر الشهيد الثاني أن الأفضل ترك مثل هذا القول خصوصا مع احتمال نسيان السامع له، أو كان يحتمل أن يشتهر الموضوع.

وذكر الشيخ الأنصاري: إن تحدث الشخصين بهذا الذنب إذا كان بهدف الإساءة له وانتقاصه حرام وإلا فهو جائز.

وبنحو كلي تجوز الغيبة في كل مورد كانت المصلحة في الغيبة أكثر من مفسدة هتك حرمة المؤمن كما في الشهادة عليه[7].

 


[1] وسائل الشيعة: ج12، ص289.

[2] بحار الأنوار: ج72، ص233.

[3] سورة الشورى: آية41-42.

[4] سورة النساء: آية148.

[5] قرب الإسناد: ص82.

[6] الكافي: ج2، ص267.

[7] الذنوب الكبيرة: ج2، ص279-281 بتصرف.