الغيبة في القرآن الكريم

1- يقول تعالى في سورة النور: (إنَّ الَذينَ يُحِبُّونَ أن تَشيعَ الفاحِشَةُ في الذينَ آمَنوا لَهُم عَذابٌ أليم)[1]، فالذي يغتاب المؤمن داخل في عموم قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا)[2]، وإذا كان كذلك فهو مشمول لاستحقاق العذاب الأليم، ففي رواية ابن أبي عمير عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: )من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عز وجل:( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ))[3]، وبمقتضى هذه الرواية تكون الغيبة داخلة في هذه الآية الشريفة التي أوعدت بالعذاب.

2- وقال سبحانه ناهياً عنها: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً)[4]، ولا شك في أن الغيبة تصنف بأنها من سوء القول ولذا استثنى الفقهاء - كما سيأتي- المظلوم من حرمة الغيبة وذلك استفادة من هذه الآية.

3- وفي سورة الحجرات يقول تعالى:( ولا يَغتَبْ بَعضُكم بَعضاً أيُحبُ أحَدُكُم أن يأكُلَ لَحمَ أخيهِ مَيتاً فَكَرِهْتُمُوه)[5]. وهذه الآية صريحة في النهي عن الغيبة لمكان وجود (لا) الناهية وفي التعبير بعد ذلك بقوله تعالى: (أيُحبُ أحَدُكُم أن يأكُلَ لَحمَ أخيهِ مَيتاً فَكَرِهْتُمُوه) من البلاغة وروعة البيان ما لا يخفى، حيث نفّر تعالى عن الغيبة مشبهاً إياها بأكل لحم الإنسان الميت، الذي لا يختلف اثنان في استهجانه، ولكن هل المراد من هذا هو مجرد التشبيه أم فيه معنى آخر زيادة على ذلك؟ فيه احتمالان:

الاحتمال الأول: المقصود من الآية الشريفة هو بيان حقيقة فعل الإنسان المغتاب في الآخرة حيث ينكشف عنه غطاء الغفلة، فالمغتاب حقيقة يأكل لحم أخيه ميتاً، ولكنه لغفلته عن ذلك في الدنيا لا يلتفت إلى فعله، وهذا الرأي مبني على نظرية تجسم الأعمال بمعنى أن أعمال العباد بنفسها تتجسم يوم القيامة لتظهر على حقيقتها، فليس العذاب أو الثواب يوم القيامة إلا تجسيماً لأعماله في الدنيا، فمن عمل صالحاً ظهرت أعماله في الآخرة على حقيقتها من كونها رجلاً صالحاً - مثلاً - أو بيتاً في الجنة أو شجرة فيها ونحو ذلك، ومن عمل ذنباً ظهر هذا العمل على حقيقته في الآخرة كحية كبيرة تلدغه أو عقرب أو نار في بطنه أو يطوق بالنار ونحو ذلك بحسب كل ذنب، ويؤيد هذا الرأي بجملة من نصوص الكتاب العزيز ومجموعة كبيرة من الروايات ليس المقام مناسباً لذكرها.

فتتجسم الغيبة في الآخرة بصورة آكل ميتة الشخص المستغاب، والشاهد على هذا الاحتمال رواية شريفة عن الرسول الأكرم  (صلى الله عليه وآله): (أنه نظر في ليلة الإسراء فإذا قوم يأكلون الجيف فقال جبرئيل مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحم الناس)[6].

والاحتمال الآخر: هو أن المراد التنزيل الحكمي بمعنى أن الغيبة هي بمنزلة أكل لحم المستغاب ميتا من ناحية الحكم،
فعن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) انه قال: (إعلموا أن غيبتكم لأخيكم المؤمن من شيعة آل محمد أعظم في التحريم من الميتة، قال الله تعالى:( وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ))[7]. وبناءً على لك فإنه يظهر من الآية الشريفة على كلا الاحتمالين أن الغيبة من الذنوب الكبيرة.

وهناك جملة من الروايات واردة بمضمون هذه الآية الشريفة، منها ما روي أن أحداهنّ قالت: (إني قلتُ لامرأة مرة وأنا عند النبي (صلى الله عليه وآله): إن هذه لطويلة الذيل، فقال لي: الفُظِي الفُظِي! فلفظتُ مضغة لحم)[8].

ومنها ما روي: (أن أحد الشيخين قال للآخر إن فلانا لنؤوم، ثم طلبا أدما[9] من رسول الله ليأكلا به الخبز. فقال (صلى الله عليه وآله): قد ائتدمتما، فقالا: ما نعلمه، فقال: بلى! إنكما أكلتما من لحم صاحبكما)[10].

4- وقال تعالى في سورة الهمزة:( ويلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَة). قال في تفسير مجمع البيان: هذا وعيد من الله سبحانه لكل مغتابٍ غيّابٍ مشاءٍ بالنميمة مفرق بين الأحبة، وقيل: الهمزة المغتاب واللمزة الطعان، وقيل: الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم واللمزة الذي يلمزهم بلسانه وبعينه.

وأما (ويل) فهو اسم لدركة من دركات جهنم، أو اسم لواد فيها، وتستعمل للتعبير عن شدة العذاب.

وبناءً على ذلك فإن الغيبة من الذنوب التي جاء الوعيد عليها بالعذاب في أكثر من موضع من القرآن المجيد وهي من الكبائر.

 


[1] سورة النور: آية 19.

[2] سورة النور: آية 19.

[3] وسائل الشيعة: ج12، ص280.

[4] سورة النساء: آية148.

[5] سورة الحجرات: آية12.

[6] مستدرك الوسائل: ج9، ص125.

[7] مستدرك الوسائل: ج9، ص113.

[8] المحجة البيضاء: ج5، ص257.

[9] الإدام: ما يؤتدم به ، فيخلط مع الخبز مائعاً كان أو جامداً ليطيبه.

[10] المحجة البيضاء: ج5، ص260.